"مقام"اسم غاليري جديدة أضيفت الى قائمة الغاليريات اللبنانية، أنشأها صالح بركات صاحب غاليري أجيال في بيروت الصيفي فيليدج، كمشروع يمكن وصفه بالطموح، لكونه يهدف إلى تعريف المواهب الناشئة بأهمية الفن اللبناني الحديث، حفاظاً على الذاكرة والتاريخ في غياب متحف للفن المعاصر يحافظ على هذا الموروث الوطني وانشغال صالات العرض في مجاراة التيارات الصاعدة لمرحلة ما بعد الحداثة بكل ما فيها من انجراف وحال انفصام عن الذاكرة التشكيلية التي سبقتها. لعلنا نشير الى أكثر الموضوعات خطورة وهو الا يتمكن المرء من تصفح نتاجات الفنانين الذين يحبهم ويعرفهم ويشتاق الى رؤية اعمالهم إلا من خلال التسرب إلى المجموعات الخاصة. من هنا أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه غاليري"مقام"، التي افتتحت أعمالها بمعرض ضم إحدى وثلاثين لوحة لثلاثين فناناً وفنانة من مختلف الأجيال الفنية، تحت عنوان"المنظر الطبيعي المديني 1". لدى رؤية المعرض يتبادر الى أذهاننا منذ الوهلة الأولى أن ثمة أسماء كثيرة غابت عنه، لكننا سرعان ما نستدرك أن الثغرات لا يمكن تفاديها في معرض لا يدّعي"الأنطولوجيا"في المعنى التوثيقي كما ورد في كلمة الناقد جوزف طراب الذي يتولى إدارة الغاليري. فثمة إشارة إلى ان المعرض ليس استعادياً، إنما هو أطلالة أولى تعكس طرائق رؤية الطبيعة وتنوعاتها لدى بعض الفنانين اللبنانيين، وستتبعه معارض اخرى تستكمل المسار التصاعدي لنمو الموضوع الطبيعي الذي واكب النمو الثقافي لبيروت كعاصمة للحداثة التشكيلية. غاب الجيل الأول داود القرم وحبيب سرور وخليل الصليبي عن المعرض الذي استهل محطته الأولى بالحقبة الانطباعية التي رافقت مرحلة الانتداب الفرنسي، عقب إعلان دولة لبنان الكبير، حين راح الفنانون يبحثون عن فردوسهم المفقود في أحضان الطبيعة اللبنانية، يكتشفون خصائصها وطيب مناخها وأضوائها. لم تكن الانطباعية اللبنانية وقتئذ سوى صدى مباشر لمدرسة الانطباعية الفرنسية التي أدهشت الفنانين الذين سافروا لدراسة الفن في باريس. ومع أن اللوحات المعروضة لا تمثل زهرات أعمال الانطباعيين، غير اننا نتوقف عند لوحات زيتية ومائية تحمل تواقيع كل من يوسف الحويّك وجورج قرم ومصطفى فروّخ وعمر الأنسي وقيصر الجميّل، نستذكر حميمية الأمكنة الخلوية حيث ألوان الأرض ورطوبة الأفياء ومياه الغدران، وهي من نوع المناظر التي أثارت لواعج الحنين والغبطة وبعثت في النفوس مشاعر الطمأنينة والسلام. ولئن شهدت لوحة جورج سير على بداية حضور مرحلة ما بعد التكعيبية في المنظر اللبناني، فإن المؤشرات التي نقلت لوحة الطبيعة من حالتها الوصفية التسجيلية الى مرحلة التجديد ظهرت في أول الستينات مع منظر مقطوف من شتاء بعلبك بريشة رفيق شرف، يحمل شيئاً من الكآبة والسوداوية والقنوط، التي سادت أعماله في الحقبة التعبيرية، وهي تصور شجرة عارية في مهب الريح وسط زوابع الألوان الرمادية وضباب الحقول التي حملت إيقاعات الأحمر النازف. ويحضر شفيق عبود لماماً من خلال رسم تخطيطي لحديقة يعود إلى العام 1969 رسمها بالقلم على ورق، مبنية من خطوط وظلال ونقاط وعلامات وخربشة، تؤكد عبقرية عبود في البناء والتأليف المشهدي لمنظر تجريدي مستوحى من الطبيعة. وفي المعرض لوحة لمنظر صخور، من النوع التجريدي لبول غيراغوسيان يتميز بقوة الانفعال وكثافة الطلاوة اللونية. ومن مرحلة السبعينات، منظر تجرديدي لفريد حداد، ولوحة زيتية من المرحلة الأميركية المعروفة بالحد القاسي في إنتاج صليبا الدويهي، ولوحة لغابة غنّاء موقعة بريشة ايلي كنعان، انتقالاً الى حدائق أمين الباشا وطيور حسين ماضي ولقطة خاطفة لمنظر من شاطىء عين المريسة لإبراهيم مرزوق بموضوع محمد قدّورة، ورسم بالحبر الصيني لغوفدير. ويتراءى التجريد الغنائي جلياً في تبقيعية هلن الخال، في حين تبدو الطبيعة مجرد ذكرى جاءت بحلة تلقائية وعبثية في لوحتين لعارف الريس. ومن الطبيعة المتوحشة في حلتها التعبيرية الحادة التي ترسمها ريما اميوني تكريماً لفان غوغ، الى التجريد الأقلّي في لوحة لجميل ملاعب، ومن الرؤية الزائغة لصورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض التقطتها عدسة فؤاد خوري لأحد شوارع بيروت المظلمة، وصولاً الى"الفن الفقير"الذي يتجلى في ذروة التقشف اللوني والنضج الرؤيوي في لوحة"كتاب الجبل"لسمير خداج. رفع المعرض شعاراً له هو:"فنانو الطبيعة من مواليد ما قبل 1950"، ثم قدم اعمالاً على أهميتها لفنانين أصغر سناً من بينهم مروان رشماوي من مواليد ما قبل 1960 الذي عبّر بالخامات الجديدة والتقنيات المختلفة عن مآل المنظر الطبيعي الذي انتقل من حلته الريفية إلى حلته المعاصرة المتصلة بالإعمار. والسؤال: لماذا حصر المعرض في عنوانه العريض المنظر الطبيعي بصفته"المدينية"، في حين تغيب المدينة بصورة شبه كلية عن الأعمال المعروضة؟