طرابلس؟"انتبه لنفسك، انتبه لنفسك"! من يسافر إلى شمال لبنان لا ينتظر طويلاً ليسمع التنبيهات بتوخي الحذر. لكن هل يهلع من عايش الموت خلال الرحلة بالتاكسي إلى"معقل الإرهابيين"المزعوم؟ يحتاج سائق سيارة الأجرة هذا الصباح إلى 45 دقيقة ليقطع 80 كيلومتراً، وهي المسافة من بيروت إلى طرابلس. رقم قياسي لمسافة طريق، تسمى بالواقع الأوتوستراد، لكنها لا تصلح للمقارنة مع الطرقات السريعة في ألمانيا. طريق إسفلتيّ وعِر وغير ممهد وخال من الخطوط التي استبدلت بمارة وسائقي الدراجات النارية من دون خوذات. سائق التاكسي يتجاوزهم بسيارته الملأى بالركاب وكأن خاطف الأرواح يطارده. فهو يقترب من السيارات الأمامية بفاصل سنتيمترات ضئيلة، يتجاوز عن اليمين ويطلق العنان لبوق سيارته. وخلال ذلك يتحادث مرتاحاً مع امرأة جالسة إلى جانبه، بينما أنا على المقعد الخلفي أقبع إلى جانب راكبين آخرين وأحاول الإسترخاء بممارسة بعض تمارين التنفس. عند أول وقوف لهذه الرحلة الجهنمية، عند نقطة تفتيش عسكرية، نرى طرابلس على مرأى منا. بارزة تقع على رأس يخترق البحر. مدينة يقدر عدد سكانها بنصف مليون نسمة، ويزعم كثر أن"القاعدة"و"حزب الله"خبأوا فيها مقاتليهم. أول انطباع مفاجئ عن هذه المدينة، عدا عن أن 60 في المئة على الأقل من السيارات هي من نوع"مرسيدس"القديمة نسبياً، هو أنه ما من جنود على الطرقات. بينما وسط بيروت يعج بالعسكريين، بالكاد ترى أحدهم في طرابلس. بدلاً من ذلك، نرى الكثير من النساء المحجبات. لكن ليس هذا فقط، إذ تظهر أم وابنتها، الأم سافرة والابنة محجبة. في الطريق إلى جامعة"الجنان"بالتاكسي، التي هي أهم وسائل النقل في المدينة، أتحدث مع"جاري"في السيارة محمود عبدالقادر. محمود يرتدي العباءة أو الدشداشة، اللباس التقليدي للسنّي المؤمن. ما يثيره هو ما يقال عن طرابلس أنها"معسكر للإرهاب"."لا تصدق ما يُشاع"، يطلب مني ويتابع"الإسلام دين السلام"، قبل أن يغادر السيارة عند التقاطع التالي قائلاً لي:"الله معك". لم تحظ طرابلس بالراحة كما يجب منذ 30 سنة. فالمدينة الساحلية القريبة من الحدود مع سورية نكبتها الحرب الأهلية، ولو بنتائج أقل سوءاً من بيروت. وخلال تلك الحقبة، اتخذ منها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ملاذاً له بين عامي 1982 و1984، ما تسبب باضطرابات أمنية. وهكذا سارت الأحوال حتى يومنا هذا. في العام الماضي شهد المخيم الفلسطيني نهر البارد على المدخل الشمالي للمدينة معارك دامية بين الجيش وبعض المتمردين. والآن تشكك سورية أيضاً بأن مدبري عملية تفجير القنبلة في دمشق قبل أشهر يقيمون هنا. "هذا الأمر يثير غضبي"، تقول ماريا الحاج 22 سنة وهي طالبة في كلية الصحة في جامعة"الجنان"."كلنا نعمل ونعيش هنا سوياً، مسيحيين ومسلمين... وغيرهم. نحن نفهم ونحترم بعضنا بعضاً، وما من مشاكل. إذا وُجد هنا في طرابلس إرهابيون، فهم أتوا من مكان آخر. لكننا لا نستطيع القيام بأي شيء تجاه وسائل الإعلام". قبل 20 سنة، تأسست جامعة"الجنان"على مشارف المدينة."واجبنا هو الصراحة والتسامح"، تقول نائبة رئيسة الجامعة عائشة يكن:"ليس لدينا ما نخفيه وندعو الجميع إلى الحضور إلى هنا والحصول على الانطباع الشخصي". إلى ذلك، تتبادل جامعة"الجنان"أكاديمياً وثقافياً مع الصين. لي تسنغ يين يعطي فيها دروساً للغة الصينية من جانب سفارته."أنا أشعر هنا بالسعادة"، ثم يستطرد قائلاً:"لا أخرج مساءً خارج باب المنزل". لسوء حظه دار جزء من المعارك في العام المنصرم أمام منزله. تؤكد جاكي دلاتي، مديرة قسم اللغات في الجامعة:"لم أشعر هنا بالخوف على الإطلاق". تعيش هذه السيدة الأميركية في طرابلس منذ 20 سنة ويسطع منها الهدوء والإستقرار. تزوجت لبنانياً مسلماً واعتنقت الإسلام وترتدي الحجاب."يكتشف الناس سريعاً أنني أجنبية، ويسألون دائماً من أين أتحدر. أنا أحب طرابلس، فهي مدينة بسيطة يعيش فيها أناس لطيفون ومحبون للمساعدة. من الممكن طبعاً أن يختبئ إرهابيون في المدينة، لكن في استطاعتهم كذلك الاختباء في أي مكان آخر". وكمثال عن ما سمعته للتو في ما يتعلق بنظرية طرابلس اللطيفة وصاحبة الصدر الرحب تتوقف سيارة في طريق عودتي من الجامعة إلى قلب المدينة، ويأخذني سائقها معه. هو طالب توقف بكل بساطة عندما رآني ماشياً على الطريق، ليقلني معه، وعندما عرف سبب زيارتي للمدينة، أردف قائلاً:"أهلاً وسهلاً". أغادر السيارة عند الأسواق، أسواق طرابلسالشرقية القديمة. هذا المكان هو نبض الحياة في المدينة. في أزقته الضيقة تختلط أصوات الباعة بأصوات المتسوقين. نرى هنا نساء ترتدي النقاب والحجاب... وغيرهن حاسرات الرأس يرتدين ملابس عصرية غربية. جمال الشامي رجل خمسيني يتجول في سوق"حراج"التراثية، ويشتم:"الإرهابيون يشوهون صورة هذه المدينة. نحن أناس مسالمون والعنف يأتي من الخارج". أولاد جمال يعيشون في الدنمارك ويحاولون هناك - كما يقول -"إعطاء الناس الصورة الحقيقية عن طرابلس". على مسافة بضعة مفارق، يعمل محمد علي في"حمام العبد". هذا الحمام الشرقي الذي يعود تاريخه إلى أواخر القرن السابع عشر هو الوحيد الذي ما زال يعمل. نصله من سوق"البازركان"عبر زقاق ضيّق. يستطيع الرجال هنا، كما كانت تقاليد الآباء، الاستحمام، ويقوم العاملون هناك ب"تكييس"الزبائن و"تلييفهم". محمد، هو المسؤول في الحمام، سوري الأصل، يعيش في المدينة منذ بضعة أشهر، يقول:"أنا لا أشعر على الإطلاق بوجود إرهابيين، نستطيع العيش هنا بهدوء وسلام". بهدوء وسلام. هذا الانطباع تقدمه طرابلس. فالمدينة تشيع في هذا النهار طمأنينة لا تقدمها بيروت الصاخبة والمزدحمة. إلى ذلك نرى اخضراراً أكثر، خصوصاً أشجار البلح، وهواء أفضل. من يبحث عن الجو الشرقي، مثلاً المقاهي التقليدية أو المقاهي النقالة على الطرقات، عليه المجيء إلى هنا. في طرابلس يستطيع السائح قضاء نهار استجمام وراحة وشراء تحف صغيرة أصلية. في هذا النهار تعلمت تقدير هذه المدينة وسكانها وسأعود إليها مرة أخرى عندما تسمح الظروف لي بذلك. المهم أنني لم أشعر بالخوف على الإطلاق. يبدأ الإجهاد مرة أخرى على طريق العودة. هذه المرة في باص"ميتسوبيشي"صغير ذي 20 مقعداً. هذه الباصات تنطلق ذهاباً وإياباً بين المدن الكبرى من دون جدول زمني معين. أيضاً هذا السائق"يمتطيه الشيطان". في نهاية الرحلة أشكر الله أنني وصلت إلى بيروت سالماً. * صحافي في جريدة"فرانكفورت روندشو"الألمانية، والنص من مساهماته التي تنشرها"الحياة"، في إطار برنامج"كلوز أب"للتبادل الصحافي، بالاتفاق مع المعهد الثقافي الألماني غوته. وتشارك في البرنامج صحف ألمانية وأخرى من أفريقيا والشرق الأوسط، على مدى أسابيع، لتغطية شؤون سياسية وثقافية واجتماعية. www.goethe.de/closeup في أحد مقاهي طرابلس الحياة