ترقُّب خفض الفائدة يهبط بالذهب    توطين وتخطيط.. أدوار الهيئة السعودية للمياه    الجلاجل: تنظيم "وقاية" خطوة لمجتمع صحي    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مهما طلّ.. مالكوم «مالو حلّ»    «أرامكو» تواصل أرباحها التاريخية لمساهميها.. بقيمة 116.5 مليار ريال    «الشورى» يسأل «الأرصاد»: هل تتحمل البنى التحتية الهاطل المطري ؟    «إنفاذ»: 30 مزاداً لبيع 161 عقاراً    عدالة ناجزة وشفافة    برعاية وزير الإعلام.. تكريم الفائزين في «ميدياثون الحج والعمرة»    أمير الشرقية ونائبه يتلقيان تهاني الرزيزاء بتأهل القادسية لدوري روشن    محمد عبده اقتربت رحلة تعافيه من السرطان    4 أمور تجبرك على تجنب البطاطا المقلية    وزير الخارجية الأردني ونظيره الأمريكي يبحثان الأوضاع في غزة    إطلاق برنامج تطوير طرق الخبر    أمير المدينة يرعى حفل تخريج الدفعة ال60 من طلاب الجامعة الإسلامية    مساعد رئيس الشورى تلتقي وفداً قيادياً نسائياً هولندياً    أمير المدينة يستعرض جهود جمعية «لأجلهم»    أمير نجران يقلد مدير الجوازات رتبة لواء    أمين الرياض يحضر حفل سفارة هولندا    استعراض المؤشرات الاستراتيجية لتعليم جازان المنجز والطموح    «التواصل الحضاري» يعزز الهوية الوطنية    بدء أعمال ملتقي تبوك الدولي الأول لتعزيز الصحة    بيئةٌ خصبة وتنوّعٌ نباتي واسع في محمية الملك سلمان    "الهلال" يطلب التتويج بلقب دوري روشن بعد مباراة الطائي في الجولة قبل الأخيرة    جامعة طيبة تختتم مسابقة «طيبة ثون»    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي يُجري جراحة تصحيحية معقدة لعمليات سمنة سابقة لإنقاذ ثلاثيني من تبعات خطيرة    بونو: لن نكتفي بنقطة.. سنفوز بالمباريات المتبقية    ديميرال: اكتفينا ب«ساعة» أمام الهلال    اختتام دور المجموعات للدوري السعودي الممتاز لكرة قدم الصالات في "الخبر"    اللجنة الأولمبية الدولية تستعين بالذكاء الاصطناعي لحماية الرياضيين من الإساءات خلال الأولمبياد    ولي العهد يعزي هاتفياً رئيس دولة الإمارات    استقبل مواطنين ومسؤولين.. أمير تبوك ينوه بدور المستشفيات العسكرية    تحذير قوي    إدانة دولية لعمليات الاحتلال العسكرية في رفح    الحرب العبثية في غزة    "الجوازات" تعلن جاهزيتها لموسم الحج    مؤتمر الحماية المدنية يناقش إدارة الحشود    اقتصاد المؤثرين    البنتاغون: الولايات المتحدة أنجزت بناء الميناء العائم قبالة غزة    تحقيقات مصرية موسعة في مقتل رجل أعمال إسرائيلي بالإسكندرية    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    جامعة الملك سعود تستضيف مؤتمر" العلوم الإدارية"    غاب مهندس الكلمة.. غاب البدر    عبدالغني قستي وأدبه    بدر الحروف    المدح المذموم    البدر والأثر.. ومحبة الناس !    تغريدتك حصانك !    الرؤية والتحول التاريخي ( 1 – 4)    رحلة استجمام الى ينبع البحر    هزيمة الأهلي لها أكثر من سبب..!    الأول بارك يحتضن مواجهة الأخضر أمام الأردن    الفوائد الخمس لقول لا    بدء التسجيل ب"زمالة الأطباء" في 4 دول أوروبية    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقآء الأسبوعي    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المصلى المتنقل خلال مهرجان الحريد    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الخطر والفرصة" لإدوارد دجيرجيان ... الديبلوماسية الأميركية وقضايا الشرق الأوسط . تناقضات بيروت وجمالاتها ولقاء موسى الصدر وصداقة رفيق الحريري 3 من 8
نشر في الحياة يوم 14 - 01 - 2009

{ تنشر"الحياة"مقاطع من كتاب DANGER AND OPPORTUNITY"الخطر والفرصة"للديبلوماسي الأميركي ادوارد دجيرجيان الذي عمل في سفارة بلاده في بيروت، وكان سفيراً في دمشق ثم في تل أبيب في عهدي حافظ الأسد واسحق رابين، قبل أن يتولى مسؤوليات في وزارة الخارجية تتعلق بالشأن العراقي وسائر شؤون الشرق الأوسط.
هنا حلقة ثالثة:
كانت أول زيارة لي إلى بيروت عام 1965، وكنت في ذلك الوقت شاباً أميركياً في بداية حياتي العملية في السلك الديبلوماسي. كانت بيروت أول مهمة أجنبية كلفت بها، وعندما رأيتها من خلال زجاج الطائرة التي وصلت إلى مطارها الدولي ليلاً، بهرتني الأضواء المتلألئة التي أضاءت ظلام شرق البحر الأبيض المتوسط. ...
كانت بيروت في الستينات من القرن الماضي مركزاً للجواسيس وشبكات التجسس في الشرق الأوسط، لأنها تقع في بؤرة الصراع العربي - الإسرائيلي إلى جانب القوى المتنافسة في الحرب الباردة. لذلك اعتبرت بيروت ولبنان بحق نموذجاً للبلد المتسامح الذي يحوي في داخله الثقافات والديانات والتيارات الفكرية والسياسية من دون حواجز وانشقاقات.
في بداية عملي، أرسلتني الإدارة الأميركية لدراسة اللغة العربية، في تلك الأثناء تسلمت أولى مهماتي الديبلوماسية في القسم السياسي في السفارة الأميركية. وبعد سنة من دراستي اللغة العربية، في معهد الخدمة الأجنبية، أصبحت سكرتيراً ثالثاً في السفارة ومترجماً للسفير الأميركي في لبنان. كما كنت أيضاً حلقة الاتصال بين السفير وكثير من المواطنين المسلمين والجماعات اليسارية والجماعات الوطنية التي تتبنى شعار القومية العربية.
بدأت خدمتي في السلك الديبلوماسي في الترجمة، أي أن أكون مترجماً للسفير الأميركي"وساعدتني هذه المهمة كثيراً في توسيع علاقاتي بالقادة اللبنانيين من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، المتطرفة منها والمعتدلة، اللبنانية والعربية، إلى جانب علاقات مع رجال الدين. وشكلت اللقاءات في الصالونات السياسية والترفيهية التي كانت تعقد غالباً في الأمسيات، وهي أوقات جميلة في بيروت، انطباعاتي عن مدى التناقض في الحياة الاجتماعية بين التقليد والحداثة. على سبيل المثال كان يوجد كازينو يعرف بكازينو لبنان يقع في الجانب الشرقي لبيروت ويرتاده الوجهاء للعب القمار والترفيه، هؤلاء الوجهاء كانوا ينقسمون إلى فئتين، الفئة الأولى ترتدي الزي اللبناني التقليدي، والفئة الأخرى ترتدي الثياب الرسميّة. وهذه الأخيرة تهوى لعب الورق في صالات خاصة كانت تأتي إليها الشخصيات العربية المشهورة مثل الممثل عمر الشريف. وعندما أتذكر هذه الأمسيات والأماكن ينتابني شعور بالحنين، وبمدى خطورة وأهمية الوضع الذي يمكن أن أتعامل معه في بلد مثل لبنان له أثره في المنطقة بأسرها.
كان أحد أهم الملامح التي شدت انتباهي في لبنان هو نظام الاعتراف بحصة كل من الأطراف المتعددة ذات الانتماءات الطائفية والسياسية والعرقية داخل البرلمان والحكومة. ارتكز هذا النظام على أساس الميثاق الوطني عام 1943 - وطبقاً لهذا تعطى حصة من المقاعد لكل الطوائف المتعايشة داخل لبنان - ذي الغالبية المسيحية، أي أن هناك مقاعد للطوائف الاسلامية بما فيها الدروز. وكانت نسبة الحصص بناء على نظام تمت الموافقة عليه بالإجماع في إحصاء عام 1932 ان يُعطى المسيحيون ستة مقاعد والمسلمون بكل طوائفهم خمسة، بما في ذلك الدروز الذين يعتبرون طائفة لها جذور إسلامية.
وبما أن لبنان يتميّز بهذا التراث، أي نظام الحصص بناء على النسبة والتناسب بين القوى السياسية، لم يكن هناك داع لكي يعقد اتفاق آخر على غرار ميثاق 1943، حتى قامت الحرب الأهلية وعقد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، بعدها أعيد النظر في نظام الحصص وأصبحت المقاعد الموزعة على المسيحيين والطوائف الإسلامية داخل البرلمان 50 - 50 بعدما كانت 6 إلى 5 وفقاً للميثاق الوطني ...
فيما يُنظر إلى لبنان على أنه نموذج لنظام التعايش بين الطوائف الدينية والسياسية، والذي يبدو ظاهراً نظاماً ناجحاً، إلاّ أنّه من الداخل يعد ضعيفاً وهشاً. كنت أشعر أنّه لو تعرّض لأيّ خدش بسيط ستظهر الخلافات الإقطاعية والعقائدية، وبالتالي تُحدث هذه الخلافات ضرراً كبيراً لهذا البلد. كان لبنان بالفعل على حافة صراع كبير لأسباب عدة، منها أولاً: التغير الديموغرافي، زيادة عدد المسلمين والذي جاء في مصلحتهم لمراجعة نظام تخصيص المقاعد والمناصب داخل الوزارة والبرلمان، ثانياً: تغير في الائتلافات والتحالفات السياسية، وثالثاً: التدخلات الخارجية من دول الجوار التي أدت إلى وجود خلافات غير محسومة.
للأسف، تفككت بيروت من داخلها وأصبح لبنان فريسةً للقوى الخارجية والصراعات الداخلية بين طوائفه وأحزابه السياسية. ففي عام 1967 عندما هزمت إسرائيل القوات المسلحة العربية في حرب الأيام الستة التي أطلق عليها أيضاً هزيمة 67، كانت الضربة قاصمة بالنسبة الى العرب، إذ احتلت إسرائيل القدس والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان، هذه الضربة جعلت العرب يغضبون من الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الأساس والداعم لإسرائيل.
في كانون الأول ديسمبر 1968، استوقفني مشهد الدخان المتصاعد من حطام 14 طائرة مدنية لبنانية على مدرج المطار نتيجة لعملية جوية نفذتها الصاعقة الإسرائيلية. رأيت مشهد الدخان وأنا واقف على ربوة عالية تطل على مطار بيروت الدولي. جاءت هذه العملية رداً على هجوم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على طائرة العال في مطار أثينا وقد أعلنت الجبهة مسؤوليتها عن الهجوم، وبالتالي جاءت ضربة إسرائيل لترد على هذا الهجوم الفلسطيني.
كنت أثناء ضربة مطار بيروت مع اثنين من أصدقائي، وهما لبنانيان يهوديان، وسط الدخان الكثيف، وقد سألاني ما الذي عليهما فعله. أجبتهما ببعض التردد أن عليهما الرحيل مع عائلتيهما لأن الوضع كان سيئاً وقد يزداد سوءاً.
بعد فشل الانقلاب ضد الملك حسين في الأردن في أعقاب أحداث أيلول سبتمبر الدامية حيث تحطمت طائرات تابعة لخطوط طيران متعددة نتيجة هجمات بعض الإرهابيين الفلسطينيين، نزح كثير من الفلسطينيين إلى لبنان هاربين من الأردن، فأصبح لبنان الملجأ الأساس للمهاجرين الفلسطينيين والقاعدة الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية. هذا الوضع شجع إسرائيل على اقتحام لبنان عام 1982 لطرد منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت النتيجة دمار بيروت منذ 1975 واستمرت ممزقة داخلياً لمدة خمس عشرة سنة، وهي مدة الحرب الأهلية التي دارت بين فصائلها الدينية والعلمانية.
في عام 1976، كان الرئيس الماروني سليمان فرنجية متخوفاً من تفوق الفصائل الإسلامية على القوات المسيحية، لذلك لجأ إلى الرئيس السوري حافظ الأسد ليتدخل ويرسل قوات عسكرية لمساعدته على استقرار الوضع داخل لبنان. ومع حلول عام 1989 كان الصراع الداخلي في لبنان على وشك الانتهاء بتوقيع لبنان على اتفاق الطائف في السعودية لإنهاء الحرب الأهلية بعدما خسر كثيراً من الأرواح، فضلاً عن صورة بيروت الجميلة.
بهذه الأحداث كان لبنان في نفق سياسي مظلم من الصراعات الداخلية حتى أصبحت كلمة اللبننة مرادفاً للبنان وتعبيراً عن وضعه المأسوي.
في عام 1966، طلبت مقابلة شخصية مهمة هو زعيم شيعي متميز. وفتحت هذه المقابلة الباب لي وللإدارة الأميركية في واشنطن فرصة لفهم الفكر الشيعي الذي يلعب دوراً مهماً في لبنان وفي المنطقة في شكل عام، كما برز لاحقاً في ثورة إيران عام 1979، وظهور"حزب الله"في لبنان، وتعاظم وضع إيران في الشرق الأوسط عقب الحرب على العراق عام 2003.
على رغم دراستي الإسلام في جامعة جورجتاون وشعوري بأن لدي قدراً لا بأس به من الاستيعاب للتاريخ الإسلامي وأركان الدين، إلى جانب وجودي في بيروت في أول مهمة لي في بداية حياتي العملية في السلك الديبلوماسي، ففترة خدمتي في بيروت أمدتني بخبرة عملية لمعرفة أهمية الخلاف والانقسام بين السنّة والشيعة، وهما المذهبان الأساسيان في الإسلام ....
يتمركز الشيعة في وادي البقاع وفي الجزء الجنوبي من لبنان، وعدد كبير منهم ليسوا على قدر كبير من التعليم، ومعظمهم مزارعون ويعيشون في مناطق لا تحوي مدارس أو مراكز للرعاية الصحية ولا طرقاً ممهدة أو خدمات أولية أساسية"والذين ينزحون إلى بيروت يعيشون في مساكن ومناطق عشوائية، والقادرون منهم هاجروا إلى الخارج في الخمسينات.
حين بدأ لبنان ينتعش اقتصادياً، بدأ الشيعة وكثير من المهمشين في الانضمام إلى تيارات سياسية علمانية مثل الماركسية والمنظمات اليسارية أو إلى حركات القومية العربية.
في ذلك الوقت برزت شخصية دينية من الشيعة هو موسى الصدر، وعلى رغم أنه ولد في إيران وجميع أجداده عاشوا في لبنان، إلا أنّه في الحقيقة اعتبر دخيلاً"لذلك ظلت هناك تساؤلات كثيرة حول أسباب رجوعه إلى لبنان بلد أجداده. ...
في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1958، لم تتعاون حكومة فؤاد شهاب بصورة كبيرة مع الصدر، وبالتالي لم يستطع أن يحصل على امتيازات كبيرة يفيد بها أبناء طائفته في مدينة صور، إلا بعض المشاريع الصغيرة مثل بناء مدرسة للتعليم الفني والمهني، جرى تمويلها من الحكومة ومن بعض رجال الأعمال الشيعة. وكان يريد المزيد ليهدّئ مجتمعه مما قد يخلق جواً من الاستقرار. إلا أن مطلبه كان صعب المنال لأنّ فئة كبيرة من ذلك المجتمع كانت تعيش في فقر وحرمان.
الثقافات المتعددة الموجودة في لبنان والغالبية المسيحية المارونية ثم المسلمون السنّة والدروز، جميع هؤلاء كانت تمثلهم منظمات وأحزاب سياسية تعمل على تأمين مصالحهم"أما الشيعة فلم يكن لديهم سوى موسى الصدر الذي أنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969 فارتبط باسمه مدى الحياة.
بدأ نفوذ السيد موسى الصدر يقوى بعد إنشائه هذا المجلس، فقد كان طموحه أن يكون للشيعة في لبنان دور أساس وليس هامشياً"لذلك قررتُ مقابلة هذا الزعيم لكي أعرف منه، كمصدر أولي وأساسي، وضع الشيعة في لبنان.
اللقاء مع موسى الصدر
كانت السفارة الأميركية تهتم بإنشاء علاقات واتصالات مع المسيحيين والسنّة والدروز ومؤسساتهم، ولم تهتم أبداً بعلاقات أو اتصالات مع المجتمع الشيعي، فلم يكن لدى الإدارة الأميركية أي معلومات عن الأحوال السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية للشيعة في لبنان الذين بدأت قوتهم تزداد وتنمو.
بدأت في مساع كثيرة واتصالات مع المقربين من موسى الصدر حتى أستطيع مقابلته. وبعد أسابيع من الانتظار، تلقّيت اتصالاً هاتفياً من أحد معاونيه يبلغني موافقة الإمام على مقابلتي. لكن، كان عليّ أن أذهب إليه بسيارتي الخاصة من دون مرافقين، وحدد مكان المقابلة في المدينة القديمة في صور، وفي مبنى مدرسة ثانوية عند ملعب كرة القدم. وقد وصف لي المتحدث المكان المحدد للانتظار عند أريكة حجرية تحت شجرة، على أن أجلس حتى يأتي الإمام، وبالطبع كنت سعيداً بهذه الأخبار، كما كنت على يقين من أنني إذا طلبت الإذن من السفارة فسيستشعرون الخطر ويطلبون إلغاء المقابلة - لأسباب أمنية - لذلك قررت المقابلة على مسؤوليتي الشخصية.
وفي اليوم والساعة المحدّدين في تشرين الأول أكتوبر عام 1966 ذهبت بسيارتي بيجو 404 من بيروت إلى صور ووصلت إلى المكان المحدد وانتظرت أكثر من ساعة ونصف ساعة حتى ظننت أن كميناً نصب لي. أخيراً جاءت سيارة مرسيدس سوداء، وكان مع الإمام اثنان من الحراس فتحا له باب السيارة، فبرز شخص قوي البنية نافذ العين ذو لحية سوداء، وكان يلبس عباءة وغطاء رأس أسود، كان عليّ أن أعترف بأنني أُخذت عندما شاهدت هذا الرجل، لكنني ذهبت إليه وحييته باللغة العربية وردّ عليها بالمثل. جلسنا نتحدث حوالى ثلاث ساعات، وكان الحوار يشمل أحوال الشيعة، والوضع السياسي في لبنان والعالم العربي، والصراع العربي - الإسرائيلي.
في أثناء الحديث أثنيت على الجهود التي يبذلها الإمام للنهوض بالمجتمع الشيعي في جنوب لبنان، مثل المدرسة التي أنشأها للتعليم الفني والمهني في مدينة صور، والتي كنت زرتها بالفعل، وقلت له إنّها مدرسة جيدة. وسألته عما إذا كان من الممكن إنشاء صناعة خفيفة لمساعدة الفقراء من الشيعة، فقال ان الفكرة ليست صائبة، ومن الأفضل الاهتمام بالزراعة، فهي أكثر إفادة للمجتمع الشيعي لأن غالبيتهم من المزارعين. وعلمت منه أنه توجد مشاكل اجتماعية وصحية تحتاج إلى جهود كثيرة، خصوصاً أن كثيراً من القرى في الجنوب تفتقر الى الخدمات الصحيّة.
تكلم الصدر عن اهتمامه بمستقبل لبنان والمنطقة في شكل عام، وركز على أن العنصر الخطير في لبنان، من وجهة نظره، هو الأوضاع المتردية والسيئة للشيعة، فقد تعمدت الحكومة أن تهمل الجنوب اللبناني إلى أن أصبحت المنطقة بؤرة معاناة حقيقية لمن يعيش فيها. وبصفته قائداً دينياً للشيعة، عليه أن يعيد القيم الدينية لأهل هذا المجتمع حتى يستعيدوا ثقتهم واحترامهم لذاتهم. وركز كثيراً على العنصر النفسي لأبناء هذا المجتمع نتيجة أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة، إضافة إلى عدم الاعتراف بأي حقوق لهم مقارنة بالفئات والمجتمعات الأخرى في لبنان. وبصفته قائداً دينياً ذا شخصية زعامية، وضع موسى الصدر أجندة سياسية، كما قال عن نفسه:"أنا أخذت رجل الدين إلى الحياة الاجتماعية بعدما أزلت عنه غبار السنين".
على رغم جهود الإمام موسى الصدر ومحاولاته سلوك كل السبل السياسية لتحسين ظروف مجتمعه الدينية، إلا أنه لم يكن يُعرف عنه التطرف أو التعصب لطائفته، بل على العكس كانت رسالته الأساسية هي كسر الحواجز التي تفصل وتجزئ لبنان والعالم العربي. …
في أحد أيام الجمعة خطب الإمام في الجامع الرئيسي في مدينة صور، وأعلن بعد انتهاء الخطبة أنه سيذهب ليتمشّى، وطلب من المصلّين أن يشتركوا معه. وبينما كان الجمع محتشداً حوله، وقف عند محل لبيع المثلجات وكان المحل مُلكاً لرجل مسيحي، لم يكن يشتري منه أحد من الشيعة، إلا أن الإمام طلب من صاحب المحل أن يعطيه من هذه المثلجات لأنه أراد أن يكسر الحواجز بين المسلمين والمسيحيين، فالشيعة كانوا يعتبرون آنذاك أن الطعام والشراب الذي يصنعه أو يبيعه المسيحيون نجس، لذلك أراد أن يكسر الحواجز الدينية والاجتماعية والمعتقدات الخاطئة على غرار السيد المسيح. وعندما وقف الإمام ليشتري من هذه المثلجات، سأل الرجل: أي نوع من المثلجات تريد أن تبيع اليوم؟ وهو بذلك أراد أن يقول إن المسيحيين ليس بهم نجس أو محرمات.
طرح الدكتور فؤاد عجمي مواقف كثيرة للإمام موسى الصدر تدل على سماحته الدينية، منها خطبته في كنيسة كاثوليكية في فترة الصيام الكبير عند المسيحيين في عام 1975 في وقت وصل الاحتقان الطائفي إلى الذروة منذراً بحرب أهلية. وكانت ملاحظاته عن الدين والسياسة تكشف ما لديه من روح تؤمن بكل الأديان والطوائف، كما كانت لديه قناعة كبيرة ووعي بأن القادة الدينيين إذا امتلكوا زمام السياسة فسيواجهون الأخطار والانتقاضات نفسها التي توجه للقادة العلمانيين.
بدايات"حزب الله"
للأسف، لم يُعْطَ الإمام الصدر الفرصة لكي يكمل المشوار الذي بدأه والهدف الذي أراد تحقيقه خدمة الإنسانية لمواجهة المصالح الطائفية. ففي عام 1978 وهو في رحلة إلى ليبيا اختفى الإمام موسى الصدر. ولأنّه لم يعثر على جثته، فإن كثيراً من مريديه يعتقدون أنه لا يزال حياً، لكنه مختفٍ عن عيونهم وسيعود أو يظهر مرة أخرى، لكن شيعة آخرين كانوا ينظرون الى نشاطه السياسي باعتباره تهديداً للقادة الدينيين ولمؤسسات دينية وعلمانية في لبنان والعالم العربي ...، لكن هؤلاء لم يلتزموا هدف الإمام موسى الصدر في أن يعيش الجميع في سلام ووئام من أجل خدمة الإنسانية، بل اتخذوا سبيلاً أكثر عدائية للطوائف والأديان الأخرى نتج منه إنشاء حزب في عام 1982 يعرف ب"حزب الله"، وهو منظمة مسلحة تهدف إلى جعل لبنان دولة إسلامية على غرار إيران التي أصبحت دولة إسلامية تحت لواء آية الله روح الله الخميني.
انخرط"حزب الله"منذ بدايته في الجهاد المسلح وأعمال المقاومة المسلحة من أجل تحقيق غرضه وهو جعل لبنان دولة إسلامية. وكان الزعيم الروحي لهذا الحزب السيد محمد حسين فضل الله، وكان شعاره أن المؤمن القوي أفضل من المؤمن الضعيف عند الله، مشيراً إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان قائداً - خليفة وكان قائداً دينياً - إماماً، وهذا يعني أن منتهى الشرعية هو أن تدافع عن نفسك وعن أرضك وعن مصيرك، وأنّ على الإنسان أن يواجه القوة بقوة مثلها أو أعظم منها. وبالتالي، فإن كل السبل للدفاع عن النفس مشروعة تماماً. وعلى رغم أن السيد فضل الله شرّع التفجيرات واستخدام الأحزمة الناسفة، إلا أنه دان الاعتداءات التي وقعت في 9/11 في الولايات المتحدة وتفجير القطار في مدريد إسبانيا في آذار مارس 2004.
هكذا بَعُدت رؤية"حزب الله"عن رؤية الإمام موسى الصدر في الستينات والسبعينات، وأصبح الشيعة أكثر عنفاً داخل لبنان والمنطقة يلجأون أكثر إلى استخدام المتفجرات والأحزمة الناسفة والانتحاريين لمقاومة السفارات الأجنبية والقواعد العسكرية الأجنبية. بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 1982 برز"حزب الله"كإحدى أهم القوى شبه العسكرية في المنطقة، وتبعته الجماعات المتأسلمة أو الإسلامية المسلحة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي التي رفضت توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل.
لم تكن مصادفة أن يطلب الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصر الله من ياسر عرفات ألا يدخل في محادثات سلام مع إسرائيل بعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، زاعماً أن السبيل الوحيد هو المقاومة وليس المفاوضات لإجلاء إسرائيل عن المنطقة. وتجلت هذه الرؤية عام 2006 في الأزمة المسلحة بين إسرائيل ولبنان حين أكد"حزب الله"أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد للتعامل مع إسرائيل.
رفيق الحريري
انتهت مهمتي الأولى في لبنان عام 1969. وبعد سنوات واصلت عملي في الخارجية الأميركية بصفة مساعد سكرتير لشؤون الشرق الأدنى. رافقت الرئيس كلينتون في أول اجتماع له مع رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في مدينة نيويورك خلال اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول سبتمبر 1993، وبعدما أطلعت الرئيس كلينتون على القضايا المشتركة مع لبنان، طلب مني التشديد على الرسالة التي يحب أن يركز عليها في اجتماعه مع رئيس الوزراء اللبناني.
كنت أعرف رفيق الحريري منذ سنوات عندما كنت سفيراً لأميركا في سورية بين عامي 1988 و 1991، وكانت علاقتي به وثيقة. كان الحريري يعمل على تحرير لبنان وإخراجه من براثن الحرب الأهلية التي استمرت حتى عام 1990 بعد أن بدأت عام 1975. وبصفته رجل أعمال ومليارديراً، عمل بجدية على استعادة اقتصاد لبنان ليعطيه أملاً في المستقبل، ولكي يصبح بلداً مستقلاً يجب إزاحة النفوذ السوري عن سياسة لبنان واقتصاده إلى جانب الوصول إلى حل شامل للصراع العربي - الإسرائيلي.
لذلك اقترحت على الرئيس كلينتون أن تلتزم الإدارة الأميركية تحرير لبنان سياسياً من سورية، بحيث يصبح دولة ذات سيادة على كل أراضيها وألا ترتبط الوساطة الأميركية بين سورية وإسرائيل بالشأن اللبناني، وألا تكون هناك أي اتفاقات بين سورية وإسرائيل على حساب لبنان. وعندما علم الحريري بهذه التأكيدات من الرئيس كان في غاية الامتنان له.
العودة إلى بيروت
بعد التوقيع على اتفاق الطائف عام 1989 في السعودية، وبعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، بدأ لبنان يخوض طريقاً صعباً لاستعادة عافيته. وسنحت لي مناسبات لزيارة هذا البلد. في عام 1993 كنت على متن طائرة هليكوبتر تحلّق فوق رأس بيروت مع وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر في طريقنا إلى القصر الجمهوري في بعبدا، لكن ما رأيته من الطائرة كان مروعاً، رأيت حطام المدينة القديمة بعدما كانت نجمة متلألئة في منطقة الشرق الأوسط. ومرة أخرى في شباط فبراير 2000، لم أكن في مهمة رسمية وقد وصلت إلى مطار بيروت الدولي، تمشيت في شوارع بيروت بمفردي من دون حرسي الخاص لأتذكر أيامي الأولى في بيروت ولمحت عيناي الكورنيش حيث كان يقع منزلي الذي أصبح أثراً بعد عين"ثمّ تذكرت التظاهرات التي هزت شوارع بيروت في أعقاب نكسة 1967 لإدانة الولايات المتحدة على إلحاق الهزيمة بالعرب. تلك الأيام الخوالي مرت أمام عيني كشريط ذكريات. ...
وعندما توجهت إلى مبنى البرلمان، انبهرت بالمباني الكثيرة في وسط بيروت وبمشروع إعادة الإعمار الذي بادر اليه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. هذه المشاهد أعطتني أملاً في قدرة لبنان على بناء نفسه من جديد مادياً ومعنوياً حين يكتشف اللبنانيون هويتهم الحقيقية. وبعدما رجعت إلى الولايات المتحدة كتبت مقالة قصيرة عن رحلتي إلى بيروت، هي تأملات أعربت فيها عن تفاؤلي بمستقبل البلاد. وبعد كتابتي المقالة بوقت قصير وصلتني رسالة من رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري يقول فيها:
"قرأت مقالتك بإعجاب وسرور كبيرين، واستمتعت بما ذكرت عن ذكرياتك في بيروت والأيام الخوالي الجميلة المتلألئة بالأضواء على شواطئ المتوسط. هذه الصورة عن بيروت هي التي تدفعنا لكي نستعيد مجدها ونطور فيها لتكون صورة طبق الأصل لما وصفته. وكما تعلم، فإن صورة لبنان وبيروت تشوهت بسبب سنوات الحرب المدمرة وأنه لا بد من أن يستعيد لبنان عافيته ويتغيّر نحو الأفضل، وكان لمقالتك أفضل الأثر للعمل من أجل تحسين صورة لبنان وبيروت وإعادة البناء من جديد. وهذه ليست بالمهمة السهلة"فقلب بيروت بدأ ينبض مرة أخرى هذا النبض سيسرّع مهمة اللبنانيين لاستعادة الزمن الجميل لبيروت والاستمتاع بالموسيقى والطعام والحيوية التي تتميز بها ليالي بيروت مثل ارتياد المقهى المفضل الذي يقع أمام مبنى البرلمان حيث ألتقي الأصدقاء الصحافيين وهناك نستعيد نبض المدينة ونمسح ذكريات الحرب الأليمة.
أشكرك مرة أخرى على الكلمات الرقيقة التي وصفت فيها بيروت ومحاولات استرجاعها مرة أخرى صورتها الجميلة - وأنا أنتظر أن تزور لبنان قريباً وأن أستضيفك في المقهى المفضل لديك".
لكن المقابلة التي وعدني بها صديقي رفيق الحريري لم تتم، فقد اغتيل في شباط فبراير 2005 بطريقة مأسوية من الجهات التي تعمل على إفشال استقلال لبنان ووحدة أراضيه ونظام التعددية الذي كان يسود هذا البلد الديموقراطي، ولكن ربما يستطيع ابنه سعد الدين الحريري إتمام الطريق السياسي الذي بدأ يشقّه والده رفيق الحريري.
بعد انتخابات 2006 والمواجهة السياسية بين الغالبية البرلمانية بقيادة فؤاد السنيورة والمعارضة التي يقودها ميشال عون و"حزب الله"، عاد الشلل السياسي مرة أخرى إلى لبنان. هذا الوضع الخطير استمر طوال عام 2007 على رغم محاولات جامعة الدول العربية حلّ الوضع المعقّد داخل لبنان وإنهاء أزمته في عام 2008، إلا أن المعارضة ما زالت تحارب لكي يتوصل الفريقان إلى اتفاق حول الرئيس الجديد حدث ذلك لاحقاً بعد اتفاق الدوحة وانتخب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية....
وعلى رغم الوضع المعقد، إلا أن الأمل موجود في أن يحاول اللبنانيون استعادة ماضيهم وتراثهم في التعايش السلمي ونظام الحصص بين الطوائف والتيارات السياسية المتعددة، ويتخلصوا من حال اللاخسارة واللاّربح.
والأهم هو التوصل الى حل لقضية النزاع العربي - الإسرائيلي وإحلال السلام الشامل في المنطقة، وألا يظل لبنان ملعباً للحرب بالوكالة لمصالح لاعبين لا تهمهم مصلحة البلد ولا منطقة الشرق الأوسط.
* تصدر الترجمة العربية للكتاب أوائل الشهر المقبل عن دار الكتاب العربي في بيروت.
نشر في العدد: 16721 ت.م: 14-01-2009 ص: 26 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.