غير الطول لا يعرف الخيط بداية ونهاية. والإمساك بأحد طرفيه، دليل يؤدّي إلى كشف الألغاز المحيّرة والعصية، إلاّ لغزه هو. لا خيوط في الطبيعة، بل ألياف."يولد"الخيط من نُدَف غليظة طرية من صوف أو قطن أو كتّان أو قنّب...، يغزلها مغزل، يدور ويدور كمن يؤدي رقصة دراويش. فتصير خيطاً دقيقاً يتلوّى، لا حول له، قبل أن يلتف حول بكرة. والبكرة تستقر على رف متجر للوازم الخياطة، أو تخترقها مسامير نول الحائك، استعداداً لصنع النسيج. خيوط النايلون تبدأ من جبلة من مواد صمّاء، تُحشر في آلة وتُكبس، فتنبثق من فتحاتها شعيرات متناهية الدقة ? لكن متينة - قبل أن تحط رحالها على رفوف المحال وأنوال المصانع. وحده الحرير يكون خيطاً من الأصل، ملفوفاً حول شرنقة. ولعلّ أصالته هذه - أي أن يكون خيطاً منذ"الولادة"- هي ما يؤهّله لاحقاً لكساء الأجساد التي يستطيع أصحابها دفع ثمنها. وأياً يكن نوعها، تظل الخيوط على جهل بمآلها، حتى تدخل في"رقصة"الحياكة. تدور البكرات لتسلّم خيوطها إلى النول الكبير، حتى تتعرّى تماماً. خيوط ملوّنة تتداخل وتتشابك لتنسج القماشة التي تليق بخيط ثوب عرس أو قميص أو بدلة أو جراب أو لباس داخلي... الجلود على أنواعها، تتبع مسار الخيوط ومصائرها، على رغم اختلاف نشأتها. ها هي الخيوط تتضافر معاً لتغدو كسوة، تنتظر من يرتديها... تعلّق في خزانة، ومنها ما"ينام"على رف حتى"يوقظه"صاحبه! صاحبه يرتديه، ويوسّخه ويغسله ويكويه. ينظّفه ثم يعود ويلبسه. ومرة بعد مرة، تتوطّد علاقة بين الملبس وصاحبه. علاقة ود وحنان، يتخذ الملبس خلالها شكل الجسم بتضاريسه، فيتشابهان. ويوحي الثوب المعلّق في الخزانة بأن صاحبه فيه. وفي الأثواب الملبوسة ما يشير إلى عادات أصحابها: القميص ذو الياقة البالية، يدل على أن صاحبه لا يحلق ذقنه كل يوم. والحزام المشقق يعني أن صاحبه بدين، ولم يعد يجد أحزمة على مقاسه. والحذاء الذي تآكل كعبه من اليسار، مثلاً، يشي بشائبة في مشية صاحبه... الأثواب الملبوسة تحتفظ بروائح صاحبها. تشهد على كل أفعاله، الحب والكراهية، الجهد والكسل، النظافة والوساخة، والوجبات التي يتناولها. وإذا أصيب بطلق ناري، تمزّق قماشها قبل تمزّق جسد صاحبها، وظهرت أطراف الخيوط التي تشكّل القماشة. وقد تدل أطراف الخيوط هذه المحققين على مرتكب الجريمة. إذا انتقلت الملابس الملبوسة إلى أصحاب جدد، يتعذّر عليها بداية، اتّخاذ شكل الأجسام الجديدة، على رغم ليونة أقمشتها وطواعيتها. وكأن بها حنيناً إلى الجسم السابق الذي كانت"تغمره". ولعلّها تعاني أيضاً تبدّل العوائد والتصرّفات حيالها. فقد يخطر لمن يقتنيها أن يعاملها بإهمال، لمجرّد أنها قديمة زهيدة الثمن. الملابس الجديدة، أياً كان نوعها وثمنها، لها رونق خاص وحيوية. تلفت الأنظار وتربك الأذواق وتحيّر الجيوب. الملابس العتيقة أو المستعملة تستهوي هذه الأخيرة أي الجيوب، ولكنها تُحرج من يرتديها. لم تكن السيدة ميسورة، ولكنّها حسنة التدبير ومقتصِدة. جالت في أسواق"البالة"، بحثاً عن أزياء تليق بمناسبة خاصة. وقعت عليها. اشترتها. ارتدتها. بدت بهية الطلّة. فستانها وحذاؤها"سينييه"، أي من ماركة راقية. لفتت أنظار الحاضرين. فتحلّقت النسوة من حولها، يسألنها من أين اشترت ثيابها. استحت قليلاً، ثم باحت لهن بالسعر، فارتفعت الحواجب وعلت الشهقات، تقديراً لها ولجرأتها. ولكنّ السعر الذي بلغ مسامعهن، كان يظهر على قطعة مماثلة في واجهة محل الثياب النفيسة. في تلك السهرة، لم يستطع شريكها أن يصمت ويدع كذبتها البيضاء تمر بسلام. تنحنح، وقال، شامتاً بحلقة النساء وأزواجهن المشدوهين:"الفستان والحذاء والمحفظة اللؤلؤ البراقة، بنحو 100 دولار". فانفض الجمع من حولها. ارتاحت هي وشريكها الذي يؤمن بالقول الشائع:"إذا كان الكذب حجة فالصدق منقذ". في تلك السهرة، نجا الشريكان من حلقة مجاملة إجبارية متعبة.