يواصل الشاعر المغربي حسن نجمي في مجموعته الأخيرة "على انفراد" عمله الدؤوب على إبداع قصيدة توائم بين معاينة الحياة وتعقب أحوالها وتمظهراتها من جهة وبين ترويض اللغة ومقاومة اغوائها من جهة أخرى. وإذا كانت هذه المعادلة الصعبة تنسحب على الشعراء جميعاً فإنها تتخذ مع قصيدة النثر أبعاداً أكثر جلاء حيث الشاعر المتخفف من البحور والأوزان معني أكثر من سواه بمنع القصيدة من الوقوع في الإنشاء السهل من جهة والوقوع في فخ التأنق البلاغي والحذلقة الجمالية من جهة أخرى. وقد عرف حسن نجمي منذ مجموعاته المبكرة مثل"سقط سهواً"وپ"حياة صغيرة"وحتى"المستحمات"كيف يخوض ذلك العراك الصعب مع اللغة ويعمل على تليينها وتطريتها من طريق وضعها في مجرى الحياة المتدفقة والقلق الإنساني والغناء المكتوم. وهذه الميزة على الأرجح هي التي حمت قصيدة نجمي من الوقوع في شرك التأليف البارد والتصاميم البلاغية المجردة التي وقع في مطبها الكثير من الشعراء العرب. يجسد عنوان المجموعة قبل كل شيء المعنى الرمزي لوجود الشاعر، بل ربما لوجود الإنسان بحد ذاته. فأن يسمي الشاعر مجموعته"على انفراد"يعني انه يشير الى عزلة الكائن الذي على رغم انخراطه في الجماعة يولد وحيداً ويموت وحيداً وكذلك يشقى ويحب ويسقط في المرض. ويعني أنه يشير أيضاً الى البعد الفردي للعملية الإبداعية التي تتشارك مع الحب في أكثر من وجه ولكنها تختلف عنه في كونها لا تحتاج الى وجود شخصين اثنين بل تضع الكائن الفرد وحيداً أمام قدره الصعب. وليس من قبيل الصدفة أن يستشهد نجمي في مقدمة مجموعته بقول أحد الحكماء"نعرف الصوت الذي تحدته يدان تصفقان. لكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة تصفِّق؟". كأن الشعر بحد ذاته هو المعادل المضمر لتلك اليد الواحدة التي تصفق وحيدة في ظلمة اللغة ومجاهلها الصعبة. لكن المفارقة الأبرز في المجموعة تتمثل في تأرجحها بين العنوان الذي يشي بالعزلة والانفراد وبين القصائد نفسها التي تحتفل بالأصدقاء والعائلة والشعراء الآخرين وتقيم معهم جميعاً حوارات مثقلة بالأسئلة المغلقة وعلامات الاستفهام. ويأتي الشاعر والقاص والمفكر الأرجنتيني بورخيس في طليعة أولئك الذين يتصادى حسن نجمي مع تجاربهم وأفكارهم وأحوالهم الإنسانية حيث يستهل مجموعته بقصيدة قصيرة وعبرة تحمل اسم الكاتب الأعمى:"لست أقلَّ عمى منك/ ومثلك أعرف كيف أسدِّد خطوي/ ومع أن عينيَّ ليستا ميتتين تماماً/ مع أن فيض الضوء وافر/ لا أحب أن أرى ما يرى/ أعمى مثلك/ ولست نادماً على شيء تركته في الضوء/ فقط مثلك حرمت من السواد". ويتابع الشاعر في قصائد لاحقة من مثل"أعزل في الضوء"وپ"أنا وبورخيس"و"امتثال لبورخيس"وغيرها طرح أسئلة عميقة ومتباينة على الشاعر الراحل الذي صرح ذات يوم بأن الخالق قد منحه الليل والكتابة في وقت واحد. وقد يكون الأول المتصل بالعمى وفقدان البصر هو الذي فتح أمام البصيرة مساحات وعوالم لم يسبر غورها إلا القلة القليلة من البشر. يظهر حسن نجمي في هذه المجموعة كما في سائر مجموعاته ميلاً واضحاً ربط الشعر بالتأمل والكشف وتفحص الحياة واستجلاء خفاياها. على أن ذلك لا يتم من طريق الأفكار المجردة أو التمحص الذهني بل من طريق استنفار المرئيات وشحذ الحواس والاستعانة بالقص والرد والبنية الحكائية وصولاً الى التبويب والترقيم، كما في قصيدة"في الطريق الى كافالا"، التي هي بمثابة تحية للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، ومع أن الشاعر يسير في بعض الأحيان على الحد الفاصل و"الحظير"بين الشعر والنثر إلا أن العناصر النثرية المستخدمة في القصائد سرعان ما تخلي مكانها للخلاصات الشعرية الكثيفة والمفاجئة. وإذا عرفنا بأن هذه التقنية الشعرية هي نفسها التي استخدمها ريتسوس في الكثير من قصائده لاتضح لنا في شكل جلي مغزى تلك الحوارات التي يقيمها نجمي مع شعرائه المفضلين والتي تتأرجح وظائفها بين التماهيات والأقنعة والمدائح المضمرة. هكذا يشاطر الشاعر صديقه محمد شكري آلامه المبرحة على سرير المرض وادريس الخوري صورته في حانة الظهيرة وصموئيل شمعون تشرده في المنافي وألان بوسكيه ليله الذي"لا يستحق"ظلامه إضافة الى آخرين لا سبيل الى تعدادهم جميعاً. وأحياناً تكون القصيدة نوعاً من البورتريه الشعري الذي يختزل بواسطته أصدقاء وكتّاباً يحبهم، كما في قصيدة"أقل من واحد"التي يهديها الى جوزف برودسكي:"كان في منتهى العزلة/ لم تكن له إلا الكلمات/ كان واحداً/ كان أقل من واحد/ ومنذ ان أصبح متخلىً عنه/ لم يعد الشاعر الى بلاده/ ولأنه بلا جريمة/ لم يعد الى مسرح الجريمة". مثل هذا النموذج يؤكد ان غاية الشعر عند حسن نجمي ليست غاية جمالية أو تطريبية أو حتى عاطفية بالمعنى المباشر، ولكنها مع ذلك تمتلك جماليتها الخاصة التي لا تتأتى من البلاغة والتأنق الظاهرين بل من المفارقات المباغتة التي تحفل بها القصيدة أو من الترددات المتعاقبة التي تحدث في نفس القارئ لدى انتهائه من قراءة القصيدة. وقد يكون إعجاب الشاعر بيانيس ريتسوس متصلاً بهذه الميزة الفريدة التي انصف بها الشاعر اليوناني حيث يتم تفخيخ النص عند نهاياته بما يقوض البنية السردية ويقلبها رأساً على عقب لكي تستعد شعريتها في شكل مباغت. لا يمكن انهاء هذه المقاربة السرية لمجموعة حسن نجمي من دون الإشارة الى قصيدة"باختصار شديد عنها"التي تؤشر بدورها الى نوع مختلف من شعر الحب الذي ألفناه في تراثنا العربي. فنحن لسنا هنا ازاء رؤية مثالية الى المرأة الطيف أو الأيقونة أو الحضور المتعالي بل ازاء مقاربة انسانية لامرأة الواقع المصنوعة من لحم ودم حقيقيين. وليس بالضرورة أن يسمي حسن نجمي هذه المرأة لكي ندرك انها زوجته بالذات، وهي بالمناسبة شاعرة متميزة أيضاً. لكن الاستهلال المنسوب الى أنا أخماتوفا"لم أحب أحداً بهذه القوة من قبل/ ولم يؤذني أحد هكذا"هو في الحقيقة المفتاح المناسب لقراءة العلاقة الملتبسة أنا العاشق الشاعر وأنا المعشوقة الشاعرة والتي هي مزيج غريب ومعقد من الحب والألفة والنزق المزاجي والتعلق والرغبة في الانعتاق. وأظن أن القليلين يجرؤون على وصف الثنائي الزوجي بالقول:"صرنا مثل أفعيين في غار يتبادلان السم/ ثم تباعدنا فلم تبق بيننا غير أضداد الكلمات/ لكننا نتحاب، ونؤذي بعضنا بعضاً". لكن هذا الالتباس الموقت سرعان ما يتبدد أمام الصورة الأخرى المترعة بالمودة والعرفان للمرأة المعشوقة التي"تسابق ظلها فينسحب على نفسها فتخاف أن تشيخ"أو"التي كانت قد حبلت فأنجبت الطفلة التي كانتها".