كشفت إيران عن رغبتها في تطبيع علاقتها بمصر بعد ثلاثة عقود على القطيعة، وذلك على لسان الرئيس نجاد نفسه أثناء زيارته دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ تمنى إرسال سفير بلاده الى مصر في اليوم التالي مباشرة لو وافقت القاهرة. وهي الدعوة التي جددها بعد اسبوع واحد وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي في تصريح لوكالة الأنباء الإيرانية على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في الأردن، وهو المناسبة التي ألقى متقي أمام حضورها كلمة رفض فيها المبادرة العربية للسلام بذريعة أنها لا يمكن أن تؤدي الى نتيجة حقيقية، بينما كان السيد رفسنجاني رئيس مصلحة تشخيص النظام وأحد رموز الاعتدال في النظام الإيراني ينفي رفض إيران المبدئي لها طالما حافظت على الحق الفلسطيني، وأدت الى حلحلة قوس الأزمات المحيط بالمنطقة. وربما وشت دعوة الرئيس نجاد من ناحية، وتصريحات متقي من ناحية أخرى، وموقف رفسنجاني من ناحية ثالثة بنوع من التباين بين مراكز إنتاج الرؤية الإيرانية للعالم والإقليم، وكذلك بنوع من التناقض"الظاهري"مع الرؤية العربية العامة لهما على نحو يبرر لدى البعض إهمال الدعوة الإيرانية. غير أن النظرة المدققة تكشف عن هاجسين أساسين لهذه الرؤية، أولهما هو توقي العزلة الإقليمية والحصار الأميركي الإسرائيلي لطموحاتها عبر التحالف مع الكتلة الأساسية الموصوفة بالاعتدال في العالم العربي. وثانيهما تحقيق نوع من الاستقلال الاستراتيجي للمنطقة لا يعكس فقط خصوصيتها الحضارية، بل ويجسد مصالحها المشتركة الحيوية والممتدة. ونظن أن رغبة إيران الأولى مشروعة، وأن رغبتها الثانية طبيعية ويفترض أن تكون مرغوبة من وجهة النظر العربية، بما يفرض على مصر ضرورة التفاعل الإيجابي مع الدعوة الإيرانية. ففي تلك اللحظة المشبعة بكل الممكنات والمفتوحة على كل المستقبلات، تبقى الكتل التاريخية الراسخة، والأحجام الديموغرافية الكبرى، هي نقطة المفترق بتوثبها وتعاونها للنهوض بعملية الطرد المركزي لعوامل الفوضى. أو بتكاسلها وتناقضها للعب دور المحفز لسيناريو الفوضى، أو الخاضع لحالة الفراغ. وإذ يبدو التناقض الطائفي السني الشيعي بعدا مركزيا في قوس الأزمات المحيط بالكتلة العربية من العراق الى لبنان، فلا سبيل أمام العرب سوى حوار بناء ينتزع فتيل هذا التناقض من المتلاعبين به، قبل ان تنتشر الحرائق وتتمدد ألسنة اللهب المشتعلة فعلا، والمؤكد أن هذا الحوار لا يمكن أن يتم في غياب إيران، أو يبدأ من دون مبادرة مصر أو ينجح من دون مشاركة السعودية وسورية. ولأن السعودية منفتحة فعليا على حوار مع إيران يحتاج الى الدعم والمساندة، كما أن سورية مشتبكة سياسيا في تحالف مع إيران يحتاج الى التنظيم والترشيد، فإن المسار التوحيدي للمنطقة حضاريا، وكذا النزوع التفكيكي طائفيا، إنما يتوقفان بدرجة كبيرة على إمكانية تجاوز القطيعة المصرية الإيرانية، والدخول في فلك عملية سياسية نشيطة، ودائرة تفاوضية مفتوحة بين الأطراف الأربعة تجعل تلك المعطيات الثنائية منتجة استيراتيجيا. وهو الأمر الذي يتطلب بدوره تجاوز دوافع القطيعة والتي تراوح بين ثلاثة رئيسية تتفاوت حظوظها من التفسير والموضوعية: الدافع الأول يتعلق بالمذهب الشيعي الإثني عشري لإيران، وهو الأكثر سفورا ولكنه الأقل تفسيرا، ليس فقط لأن الخضوع الإستراتيجى لمجرد تناقض مذهبي داخل الدين الواحد يعكس ضيق أفق ثقافي خطير، بل لأن مصر واحدة من أكثر البلاد تسامحا مع المختلف، فلم تعرف العنصرية الفجة طيلة تاريخها ضد أي عرق أو دين أو مذهب. ويتأكد هذا المنحى تجاه الشيعة بالذات لأن الثقافة الشعبية بها توقر أهل البيت بالفطرة توقيرا قلما يتوفر، ولأنها عرفت التشيع الرسمي في العهد الفاطمي نهاية القرن العاشر الميلادي 969 - 1171 وقبل أن تتشيع إيران رسميا ونهائيا في العهد الصفوي بنحو 500 عام. وفي العهد شبه الليبرالي أواسط القرن العشرين كان التوافق متناميا بين البلدين على أرضية علاقة المصاهرة بين العرشين الشاهنشاهي والعلوي عام 1939، كان ثمة توافق ينمو بين البلدين، فاحتضنت القاهرة في عام 1947"دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"والتي رعاها من الجانب الإيراني الشيخ تقي الدين القمي، ومن الجانب المصري المشايخ الكبار محمود شلتوت وعبد المجيد سليم ومحمد المدني. بل واعترف الأزهر الشريف عام 1958 في ظل وجود الشيخ محمود شلتوت على رأسه، بالمذهب الإثني عشري مذهبا خامسا يجاور المذاهب السنية الأربعة. ومن ثم يفتقد هذا التفسير صدقيته. والدافع الثاني يتمثل في مفهوم"تصدير الثورة"الذي تبنته إيران منذ ثورتها الإسلامية وأثار قلقا في المحيط الإقليمي حولها. غير أن هذا المفهوم الإشكالي لا يمثل نقيصة أو حتى خصوصية إيرانية بحال من الأحوال بل يبقى تعبيرا عن ظاهرة طبيعية، بقدر ما هو مرتبط بلحظة تاريخية استثنائية مرتبط بعمليات التغيير الثوري الشامل، ولا تناقض هنا بين الطبيعية والاستثنائية. ذلك أن انتقال الأفكار عبر الحدود يبدو أمرا طبيعيا تماما وإن في شكل تدريجي بطيء غير محسوس، ولكنه يتكثف ويتسارع في لحظات استثنائية من حياة الأمم ترتبط في الأغلب بتحولات ثورية من قبيل تلك الانتقالات المعرفية العلمية والفلسفية، أو الانقلابات التاريخية الجغرافية والصناعية، أو الفورات السياسية الكبرى القومية والدينية، وجميعها يقود الأمة الى تجاوز أوضاعها العادية"المألوفة"ويزيد من قدرتها على الإمساك بمصيرها، ويولد لديها رؤى طوباوية للتاريخ فتشعر بأنها الأكثر فهما لمنطقه، والأقدر من ثم على التصرف حسب خطته والسير باعتبارها وكيلاً له على طريق تغيير العالم من حولها بدءا بالخارج"القريب". فهكذا كانت فرنسا بعد ثورتها الليبرالية ذروة مثل التنوير في صراعها مع ممالك أوروبا لربع قرن كامل، حول حق تفسير التاريخ وقيادته تجسيدا للروح المطلق حسب الطموح الفلسفي لهيغل، وتجسيدا للمشروع السياسي لدى ليبينتز، ما كاد يفقدها استقلالها نفسه بعد هزيمة نابليون في واترلو أمام تحالف العروش والتيجان التي دافعت عن مصالح سياسية واقتصادية مؤكدة منحها التاريخ حق الحضور الموضوعي فيه، والتأثير المنطقي عليه. كما كانت روسيا الشيوعية التي تمكنت من بسط السيطرة العسكرية الصلدة على معظم شرق أوروبا، والهيمنة العقائدية الناعمة على أربعة أنحاء الأرض طيلة أجيال ثلاث كاملة من خلال دعوتها الى المساواة الإنسانية المطلقة، قبل أن تسقط أسيرة لتطرفها في قمع الطبيعة البشرية وصبها في قوالب من الحتميات المسبقة ضد التنوع البشري فروعها دهاء التاريخ الذي لم يقبل بأن يشكل الناس على هذا النمط من الأحادية، أو الحتمية فأعادها الى حدودها الطبيعية. وتبقى مصر، في الحقبة الناصرية، تجسيدا بارزا للظاهرة نفسها إذ طرحت على نفسها قيادة حركة التحرر العربي، وسعت الى تجذير مفهوم"التقدم"وما يحتويه من ديناميكية معرفية وسياسية في الرؤية العربية للوجود والتي كانت التبست على مدى قرون خمس برؤى إستاتيكية محافظة على الأصعدة الفكرية والاجتماعية والسياسية ما أخضعها للهيمنة الاستعمارية، التي دعت مصر"دائما"، وسعت"أحيانا"الى مواجهتها في اليمن والجزائر وغيرهما، وتحملت في سبيل ذلك عبئا كبيرا أرهقها ودفع البعض داخلها الى الشكوى من عبء الدعوة، ورومانسية حاملها، كما دفع البعض خارجها في العالم والإقليم الى حصارها بل ومحاربتها. وبرغم ذلك تبقى هذه الدعوة/ المرحلة"أنبل"ما قدمته مصر من عطاء سياسي وفكري، إنساني وتحرري الى أمتها ما يجعلها موضع ذكرى وحنين لدى كل عربى يتوق الى الفعل الموجب في حركة التاريخ. وهنا يأتي دور إيران مع الظاهرة، فمع نجاح ثورتها الإسلامية ضد نظام بالغ الاستبداد وراسخ القدم في التحالفات الأميركية المهيمنة على المنطقة كلها، لم يكن غريبا أن تنتعش آمال الثوار في إيران، وقد سيطروا على مصيرهم، في تعميم نموذجهم لما يتصورونه الطريق الوحيد لإعتاق العالم الإسلامي من السيطرة الغربية. ومن ثم فلا غرابة في أن تتوجه إيران نحو الجوار العربي"الإسلامي"لتبليغ ما اعتقدت أنه رسالتها التي وضعها التاريخ في أعناقها. وفي المقابل يبدو الأرق العربي طبيعيا من رسالة إيران، فمضمونها قد يكون حادا لا تطيقه أمة تعيش الحالة العادية، وطريقتها في التعبير قد تكون انقلابية لا تتحملها دول محافظة، غير أن طبيعية ذلك الأرق لا تبرر تحوله الى عداء قومي أو تناقض إستراتيجي مزمن، بل الى محاولات للتفهم والتوافق حول المشترك الذي يجعل من الجميع إطارا حضاريا واسعا خارجه قريب، خصوصا أن ايران ما بعد الخميني أبدت استعدادا كبيرا لتجاوز التطبيقات العنيفة لهذا المفهوم وما أثارته من قلاقل مع ولايتي الرئيسين رفسنجاني ثم خاتمي، وهو المسعى الذي يمكن فهمه باعتباره تجسيدا عمليا للسنة التاريخية المألوفة عن طبيعة الاجتماع السياسي والقائلة بقوة دفع التجربة الواقعية نحو العقلانية السياسية حيث تكون الخيارات العملية استلهاما لضغوط الحياة اليومية، ومطالبات الواقع المعاش على شتى الأصعدة الأمر الذي يضعف هذا المبرر ويقلل من موثوقيته. أما الدافع الثالث فهو الأكثر موضوعية، وإن ظل الأقل ذيوعا، في تفسير القطيعة بين البلدين فهو ضغط المركزية الغربية، التي تمكنت من فرض صورة نمطية سلبية على البلد الذي كان يشهد لحظات تحولية كبرى تجعله أكثر وعيا بأصالته الحضارية، وأعمق رغبة في قيادة المنطقة التي وسمها الغرب ب"الشرق الأوسط"والتي نسميها"المشرق العربي الإسلامي" نحو فلك مستقل عن النفوذ الغربي بالمعنى الحضاري الواسع. ونجحت الولاياتالمتحدة تحديدا في هذه المهمة عبر آليتين متكاملتين"الأولى هي شيطنة هذا الطرف المدرك والمريد لاستقلاله الحضاري. والثانية هي احتواء الطرف الآخر الذي افتقد، موقتا، أصالة الرؤية الحضارية أو نفاذ الإرادة الإستراتيجية حتى لا يتكامل عطاؤه مع الطرف الآخر، حيث تبادل الطرفان مواقفهما عبر حاجز المركزية الغربية، بالهام حدثين ثوريين في النصف الثاني للقرن العشرين: الأول: يخص مصر ويتمثل في ثورة تموز يوليو ومشروعها التحرري الذي بدا آنذاك وكأنه النقيض الكامل للمشروع الاستعماري الغربي وبخاصة بعد حرب السويس، بينما كانت إيران الشاه دخلت في صداقة مع الولاياتالمتحدة، ومن ثم إسرائيل، وصارت عضوا في سلسلة الأحلاف الغربية حول الاتحاد السوفياتى، والمشروع القومي العربي لمصر. ولذا فقد ساءت العلاقات بين البلدين في النصف الثاني للخمسينات حتى قطعت تماما عام 1960، فلم يكن صعبا أن ترسم الآلة الدعائية الغربية صورة سلبية لمصر عبد الناصر، كما لم يكن ثمة قيد على نفوذ هذه الصورة لدى الإيرانيين وبالأحرى النخبة الإيرانية الضالعة في الإستراتيجية الغربية. وعندما جاء الرئيس السادات الى الحكم، وتبنى رؤية نقيضة للعالم، كان ثمة عقد من الصداقة بين البلدين انتهى على نحو درامي بخلع الشاه في إيران مع هبوب الثورة الإسلامية، واغتيال السادات في مصر بهبوب العاصفة الإرهابية إذ بدت المنطقة كلها وكأنها في حالة بحث متوتر ثوري أو دموي عن أصالتها الحضارية. والثاني: يخص إيران ويتجسد في ثورتها الإسلامية التي دفعتها الى تبني مشروع سياسي انقلابي على السيطرة الغربية، خصوصا الولاياتالمتحدة"الشيطان الأكبر"حيث وفرت أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية في طهران مادة مثالية لصناعة صورة"شيطانية"لإيران أجادت الدعاية الغربية استغلالها، ولم تكن هناك مناعة مصرية ضدها فاستقرت صورة إيران السلبية في عيون النخبة المصرية واستمر تردد مصر في الاقتراب منها لرغبتها في البقاء ضمن الفضاء الموالي للغرب. لقد تقارب البلدان وتباعدا إذاً عبر الحاجز الغربي، ووقعا في أسر صورة نمطية صاغتها الدعاية الغربية، وخضعت علاقتهما معا لعلاقة كلتيهما بالولاياتالمتحدة فانقطعت السبل أمام تواصلهما، وحرم العالم الإسلامي من تشارك اثنتين من أبرز كتله الإستراتيجية تجسدان تقاليد اثنتين من أعرق حضارات العالم، ولو حدث ذلك التواصل لربما تغيرت أشياء كثيرة في مقادير ومصائر المنطقة التي تجسد"القلب الجيوسياسى للإسلام". غير أن شرطا أساسيا لا بد منه لهذا اللقاء ليكون ممكنا ناهيك عن أن يكون ناجحا، وهو ضبط إيقاع الحركة على حجم القدرة لدى البلدين، فالرؤية لا بد أن تنسجم مع الفعل، والفعل لا بد أن يتسق مع القدرة، وإن ظلت هناك مساحة أوسع للأمل فيجب أن تكون في سياق المعقول وفي إطار الممكن. فماذا يعني هذا لمصر أو يفرض على إيران؟. يعني لمصر ضرورة توسيع هامش الرؤية لتستعيد صفاءها القديم الذي هجرته، وأن تزيد مساحة الأمل الذي كان لديها وفقدته، ظنا منها أن قوامها تقزم فلم يعد يسمح لها بالارتقاء، وأن جسدها وهن فلم يعد يلبي مطالب عقلها، فالمعقول لديها أكبر مما تعتقد، والممكن لها أبعد مما تتصوره الآن. ويفرض على إيران حتمية التنبه الى حكمة التاريخ التي تدلنا على اتجاهات معقولة لدورة الأفكار تقول: إن كل فكر مثالي يتعالى على الواقع، يتعرض للانحراف الى نقيضه المتطرف والعنصري في لحظة تحولية ما، وكلما زادت مثاليته زادت حدة تطرفه وهو يسعى للسيطرة على المصير الإنساني كله وصبه في قوالب محددة سلفا. كما تؤكد أنه: كلما ازداد الفكر تطرفا وتنامت نزعته الصدامية كان فشله أكثر احتمالا، وتراجعه أكثر عمقا ولعل هذا هو السبب في أن كل الأفكار المثالية، والحركات السياسية الراديكالية ظلت دائما على هامش التاريخ. ربما تعالى وقع خطواتها أحيانا، ولكن كقوة معارضة للتاريخ الرسمي الذي تحكمت في صناعته القوى والأفكار الأكثر اعتدالا وعقلانية واستلهاما لسنن الاجتماع البشري واحتراما لتنوعه وتباينه وتناقضه، بل وتسامحا مع ضعفه وعقد نقصه أحيانا، من دون محاولة السيطرة الكاملة على مسيرته أو لي عنقه باتجاه حتميات من أي نوع، دينية كانت أو فلسفية أو سياسية. فعلى مصر إذاً أن تخطو بطموحها الى الأمام خطوات ليبلغ حجمها الطبيعي، وفي المقابل على إيران أن تنكص بطموحها الى الخلف خطوة ليتسق مع حجمها الواقعي، فتنضبط لدى كلتيهما مساحة الرؤية على القدرة، والحلم على الفعل، ويكون التلاقي بينهما ممكنا عند تلك النقطة الحرجة على مفرق دورة الأفكار، ومفترق حركة التاريخ، فيكون السير الهادئ الآمن نحو المصير المشترك خروجا من فلك المركز الغربي المهيمن، باتجاه قيادة عالم الإسلام الواسع. * كاتب مصري.