يبدو التباين المذهبي السني الشيعي بعدا مركزيا في قوس الأزمات المحيط بالجغرافيا العربية، من العراق المتفجر بالدماء، الى لبنان المتعطش للوفاق في لحظة ما بعد العاصفة التي قد تعود الى الهبوب. فهو فتيل قابل للاشتعال لمصلحة سيناريوهات عدة. ولذا تبدو الحاجة شديدة الى حوار بناء ينزع هذا الفتيل من المتلاعبين به، قبل أن تشتعل النيران وينتشر الحريق. ولا يمكن لهذا الحوار أن يتم في غياب إيران، أو من دون مبادرة مصر. ومن ثم فالقضية في هذه اللحظة المشبعة بكل الممكنات والمفتوحة على كل الاحتمالات هي العلاقات المصرية الإيرانية، والسؤال المركزي هو: لماذا تقاطعت مسارات البلدين طيلة النصف الثاني من القرن العشرين؟ وماذا لو تلاقيا وتحاورا مباشرة ومن دون وصاية أميركية تجاوزا للخلافات الصغيرة التي تفرقهما؟ ان الكثير يمكن أن يحدث، وليس أقله أن الفراغ الاستراتيجي الذي تعاني منه المنطقة لم يكن لو وجدت قوة أو إرادة قادرة على أن تملأه وتحميه. أما سبب عدم حدوث ذلك فيعود الى تبريرات مختلفة يشيع منها اثنان: 1- المبرر المتعلق بالمذهب الشيعي الاثني عشري لإيران، وهو ما لا نظنه مقنعا في تفسير خلافات البلدين، ليس فقط لأن الخضوع له يعكس ضيق أفق ثقافي لدى بلدين ورثا أعرق الحضارات الإنسانية وهما الفرعونية والساسانية في وقت يروج فيه البحث عن مسالك للتعايش بين الثقافات والأديان المختلفة، كما أن مصر لم تعرف العنصرية الفجة طيلة تاريخها ضد أي عرق أو دين، فضلاً عن أنها عرفت التشيع الرسمي في العهد الفاطمي في نهاية القرن العاشر الميلادي 969 1171 وقبل أن تتشيع إيران رسمياً ونهائياً في العهد الصفوي 1502 1736 بنحو 500 عام. وفي العهد شبه الليبرالي، وعلى أرضية علاقة المصاهرة بين العرشين الشاهنشاهي والعلوي عام 1939، كان ثمة توافق ينمو بين البلدين، فاحتضنت القاهرة في عام 1947"دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"التي رعاها من الجانب الإيراني الشيخ تقي الدين القمي، ومن الجانب المصري المشايخ الكبار محمود شلتوت والمجيد سليم ومحمد المدني. بل اعترف الأزهر الشريف عام 1958 في ظل وجود الشيخ محمود شلتوت على رأسه، بالمذهب الاثني عشري مذهبا خامسا يجاور المذاهب السنية الأربعة. ومن ثم يفتقد هذا المبرر"الأول"صدقيته. 2- المبرر الثاني ينتمي الى الحقبة المعاصرة ويدور حول مفهوم"تصدير الثورة"الذي تبنته إيران منذ ثورتها الإسلامية وأثار قلقا في المحيط العربي حولها. غير ان هذا المفهوم الإشكالي لا يمثل خصوصية إيرانية بحال، إذ يبقى تعبيرا عن ظاهرة طبيعية، بقدر ما هو مرتبط بلحظة تاريخية استثنائية، ولا تناقض هنا بين الطبيعية والاستثنائية. ذلك أن انتقال الأفكار عبر الحدود يبدو أمرا طبيعيا تماما وإن في شكل تدريجي بطيء غير محسوس، ولكنه يتكثف ويتسارع في لحظات استثنائية من حياة الأمم ترتبط في الأغلب بتحولات ثورية من قبيل تلك المفعمة بالانتقالات المعرفية العلمية والفلسفية، أو الانقلابات التاريخية، أو الفورات السياسية الكبرى القومية والدينية، وجميعها تقود الأمة الى تجاوز أوضاعها العادية وتزيد من قدرتها على الإمساك بمصيرها، وتولد لديها رؤى طوباوية للتاريخ فتشعر بأنها الأكثر فهما لمنطقه، والأقدر من ثم على التصرف حسب خطته، والسير، باعتبارها وكيلا له، على طريق تغيير العالم من حولها بدءا بالخارج"القريب". وقد حدث هذا مع فرنسا بعد ثورتها فاندفعت الى الدعوة الى مبادئها في كل أنحاء أوروبا حتى اصطدمت بالملكيات المحافظة ودخلت في حروب قادتها، بعد ربع قرن من الاحتكاك والصدام، الى التراجع بعد واترلو اعترافا بجموح رسالتها. كما حدث مع روسيا التي تمكنت عبر دعوتها الى العدل الاجتماعي والمساواة الإنسانية الكاملة من التمدد في أوروبا الشرقية، والسيطرة العقائدية والسياسية على مناطق شتى في أربعة أنحاء العالم، وعلى وعي أربعة أجيال متعاقبة قبل أن ينوء كاهلها بتناقضات دعوتها فتنكص عنها، وتعود الى حدودها الطبيعية. والولاياتالمتحدة هي الأخرى نموذج متعدد الوجوه لتلك الحالة، فثمة"الحلم الأميركي"بوطن تتحقق فيه الحرية كاملة، والمساواة مطلقة، وتوجد فيه الفرص بغير حدود، وتتعدد المعتقدات بغير قيود، حيث الجميع يتضافرون لتحقيق السعادة الكاملة عبر الوفرة المطلقة، وهو الحلم الذي ألهم بلا شك أجيالا عدة من البشر في كل أنحاء الأرض. وثمة وجه راهن نقيض لأميركا، خصوصاً في ظل ادارتها الحالية، تجسده الرغبة في تكوين امبراطورية عسكرية تستقي إلهامها من كهوف الزمن الكلاسيكي العتيق، وتدعي احتلالها لموقع الله وامتلاكها لأقدار البشر. وفي منطقتنا جسدت مصر الناصرية تلك الروح"الرسالية"نفسها حينما تصدت لقيادة حركة التحرر العربي، وسعت الى تجذير مفهوم"التقدم"بما يحتويه من ديناميكية معرفية وسياسية في الرؤية العربية للوجود والتي كانت التبست على مدى قرون خمسة برؤى استاتيكية محافظة على الأصعدة الفكرية والاجتماعية والسياسية، ما أخضعها للقوى الاستعمارية المهيمنة، وهو ما دعت مصر دائما وسعت أحيانا الى مواجهته في اليمن والجزائر وغيرهما، وتحملت في سبيل ذلك عبئا كبيرا أرهقها ودفع البعض داخلها الى الشكوى من عبء"الرسالة"، كما دفع البعض خارجها الى حصارها بل ومحاربتها. وبرغم ذلك تبقى هذه"الرسالة"المرحلة هي"أنبل"ما قدمته مصر من عطاء سياسي وفكري، إنساني وتحرري الى أمتها. ومع نجاح الثورة الإسلامية في إيران ضد نظام بالغ الاستبداد وراسخ القدم في تحالفاته الأميركية، لم يكن غريبا أن تنتعش آمال الثوار في إيران، وقد سيطروا على مصيرهم، في تعميم نموذجهم لما يتصورونه الطريق الوحيد لإعتاق العالم الإسلامي من السيطرة الغربية. ومن ثم فلا غرابة في أن تتوجه إيران نحو الجوار العربي والإسلامي لتبليغ ما إعتقدت أنه"رسالتها"التي وضعها التاريخ في أعناقها. وفي المقابل يبدو القلق العربي طبيعيا من رسالة إيران، فمضمونها قد يكون حادا لا تطيقه أمة تعيش الحالة العادية، وطريقتها في التعبير قد تكون انقلابية لا تتحملها دول محافظة، غير أنه لا يجب أن يتحول الى عداء قومي أو تناقض استيراتيجي مزمن، بل الى محاولات للتفهم والتوافق حول المشترك الذي يجعل من الجميع إطارا حضاريا واسعا. وذلك هو دور مصر بالضرورة لأنها الأولى بتفهم طبيعة المرحلة الإيرانية إذ عاشتها سلفا، خصوصا أن ايران ما بعد الخميني أبدت استعدادا كبيرا لتجاوز التطبيقات العنيفة لهذا المفهوم وما أثاره من قلاقل، وخصوصاً مع ولايتي الرئيسين رفسنجاني ثم خاتمي، وهو المسعى الذي يمكن فهمه باعتباره تجسيدا عمليا للسنة التاريخية المألوفة عن طبيعة الاجتماع السياسي والقائلة بقوة دفع التجربة الواقعية نحو العقلانية السياسية حيث تكون الخيارات العملية استلهاما لضغوط الحياة اليومية، ومطالبات الواقع المعاش على شتى الأصعدة، ومن هنا يمكن فهم كيف آلت مثالية الثورة الإيرانية الى واقعية الدولة الإيرانية، وإن بقي لها نزوع عميق الى تأكيد الكبرياء القومي، وهو ما يضع مصداقية هذا المبرر"الثاني"موضع المساءلة. وإذ يفتقد هذان المبرران الشائعان شرعيتهما، تبدو الحاجة الى تفسير موضوعي لحال العلاقات المصرية الإيرانية يتمثل ،ربما، في خضوع طرفيها لأسر المركزية الغربية التي تمكنت من تصنيع صورة نمطية سلبية لكل طرف منهما لدى الآخر بحيث يتراءيان، ويتفاعلان من خلالها كحاجز يحرمهما من التفاعل المباشر والمستقل والخلاق. ففي النصف الثاني من القرن العشرين مثلا قامت الولاياتالمتحدة بهذه العملية مرتين على الأقل ضد الطرف الذي كان يبدو أكثر وعيا بأصالته الحضارية، وقدرة على صياغتها استراتيجيا، ورغبة في قيادة المنطقة التي وسمها الغرب ب"الشرق الأوسط"نحو فلك مستقل عن النفوذ الغربي بالمعنى الحضاري الواسع. ونجحت في تحقيق هذه العملية عبر آليتين متكاملتين الأولى هي شيطنة هذا الطرف المدرك والمريد لأهمية استقلاله الحضاري، والثانية هي احتواء الطرف الآخر الذي افتقد، موقتاً، أصالة الرؤية الحضارية أو نفاذ الإرادة الاستراتيجية سواء بالإغداق عليه ليكون عضوا في النادي الغربي بشتى صوره، أو بتحييده حتى لا يتكامل عطاؤه مع الطرف الآخر، ما حرم البلدين دوماً من نقطة انطلاق مشتركة إذ تم تبادل المواقف بينهما عبر الحاجز الغربي، وذلك بإلهام حدث كبير من نوع ما على الجانبين: الحدث الأول يخص مصر ويتمثل في ثورة تموز يوليو ومشروعها التحرري الذي بدا آنذاك وكأنه النقيض الكامل للمشروع الاستعماري الغربي وخصوصا بعد حرب السويس. بينما كانت إيران الشاه قد دخلت في صداقة مع الولاياتالمتحدة ومن ثم إسرائيل، وصارت عضوا في سلسلة الأحلاف الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وضد المشروع العربي لمصر. ولذا فقد ساءت العلاقات بين البلدين في النصف الثاني للخمسينات حتى قطعت تماما عام 1960، إذ لم يكن صعبا أن ترسم الآلة الدعائية الغربية صورة سلبية لمصر عبد الناصر، كما لم يكن ثمة قيد على نفوذ هذه الصورة لدى النخبة الإيرانية الضالعة في الاستيراتيجية الغربية. وعندما جاء الرئيس السادات الى الحكم، وتبنى رؤية نقيضة للعالم، كان ثمة عقد من الصداقة بين البلدين انتهى على نحو درامي بخلع الشاه في إيران مع هبوب الثورة الإسلامية، واغتيال السادات في مصر بهبوب العاصفة الإرهابية، إذ بدت المنطقة كلها وكأنها في حالة بحث متوتر ثوري أو دموي عن أصالتها الحضارية. والحدث الثاني يخص إيران ويتجسد في ثورتها الإسلامية التي دفعتها الى تبني مشروع سياسي انقلابي على السيطرة الغربية، وضد هيمنة الولاياتالمتحدة"الشيطان الأكبر"حيث وفرت أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية في طهران مادة مثالية لصناعة صورة"شيطانية"كاملة لإيران أجادت الدعاية الغربية استغلالها، ولم تكن هناك مناعة مصرية ضدها، فاستقرت صورة إيران السلبية في عيون النخبة المصرية واستمر تردد مصر في الاقتراب منها لرغبتها في البقاء ضمن الفضاء الموالي للغرب، وفي الحفاظ على صداقتها مع الولاياتالمتحدة. لقد تقارب البلدان وتباعدا إذاً عبر الحاجز الغربي، ووقعا في أسر صورة نمطية صاغتها الدعاية الغربية، فانقطعت السبل أمام تواصلهما، وحرم العالم الإسلامي من تشارك اثنتين من أبرز كتله الاستراتيجية وأكثرها حيوية إذ تجسدان تقاليد اثنتين من أعرق حضارات العالم، وموقعين من أبرز مواقع الجغرافيا. ولو حدث ذلك التواصل وتلك المشاركة لربما تغيرت أشياء كثيرة في مقادير المنطقة ومصائرها، ليس بالضرورة نحو المواجهة مع الغرب، ولكن بالأساس نحو تعديل شروط وسقوف تعامله مع"القلب العربي للإسلام"، وهو ما نحتاجه الآن بشدة بل وبسرعة. * كاتب مصري