أوهام كبيرة غَرف من حياته منذ رأى تشي غيفارا اسمه في مجلة في حديقة السفارة الكوبية في الجزائر. وفي آخر كتبه المترجمة الى الإنكليزية يضيء ريجيس دوبريه مجدداً مفارق في مسيرته، ويظلل الثائر الأرجنتيني بقتام متوقع."فلتمجد آلهتنا"الصادر عن دار فرسو، بريطانيا، يرسم فيدل كاسترو وتشي غيفارا وفرنسوا ميتران الذي عمل دوبريه معهم عن قرب."قسا التاريخ على كاسترو ولا يني يصغّره في حين يعزز تشي. لكنني لست اكيداً من انني كنت سأحب العيش في دولة هو رئيسها". كان شخصية نظرية معقدة افتقد الى دفء كاسترو وقدرته على التواصل. أحب اهانة اصدقائه ورفاقه، ودمر اقتصاد كوبا عندما عُيّن وزيراً للمال ونقل الثورة الى بوليفيا وهو يعلم انها محكومة بالفشل. أحب البشرية وكره البشر، يقول دوبريه الذي رأى تشي يتحول الى أسطورة على حساب الحقيقة منذ التقط ألبرتو كوردا صورته الشهيرة على منصة مهرجان. إذا قرأنا الإنجيل بعين باردة نلتقط حدة يسوع الناصري وتهكمه لكن تجاهلنا هاتين الصفتين يقول الكثير عنا. دوبريه ملحد لكنه يرى تأثير الدين سلباً وإيجاباً. أتت المسيحية بمحاكم التفتيش، نعم، لكنها بنت أول المستشفيات والجامعات ايضاً."الدين يقتل ويرعى الجرحى في الوقت نفسه". في عامه الرابع والخمسين عاد دوبريه إلى الجامعة ليعد أطروحة دكتوراه حول الغريزة الدينية عبر التاريخ."كل الأوهام الكبيرة، سواء كانت المسيحية أو الشيوعية، تدفعنا الى أعلى. السياسة دين، وإذا كان العلم هو الحقيقة فإن المجتمعات والأمم لم تقم عليه بتاتاً. قال نيتشه:"الافضل تدمير الحقيقة لا الحياة". كل المجتمعات تتطلع الى المقدس. في اميركا"بالله نثق"وفي فرنسا"الجمهورية المقدسة". الأوهام نقيصة شخصية لكنها قوة تاريخية عميقة، يقول. في 1964 قطع تشي غيفارا جولة شطرنج في حديقة السفارة الكوبية في الجزائر. تصفح مجلة"الأزمنة الحديثة"التي أصدرها جان بول سارتر ولفته مقال لريجيس دوبريه عن حركات الثوار في الريف والمدن. أرسل ترجمة الى فيدل كاسترو الذي دعا الكاتب الى هافانا. ترك ابن الثالثة والعشرين مقعد الأستاذ في مدينة نانسي الكئيبة ليحمل الرشاش في غابات بوليفيا. جمع معلم الفلسفة بين التنظير والقتال. ناقش حتى الصباح كاسترو وتشي وشركاءهما في التاريخ والأسلحة والنظريات الثورية، وقصد جبال سييرا مايسترا في عطلات الأسبوع ليتدرب مع الرفاق. لكن تصدير الثورة الى الكونغو فشل بقيادة تشي في 1965، وفي بوليفيا أسر دوبريه مع تشي الذي أعدم. في السجن اكتشف حدود الكفاح المسلح وغياب الأخوة الثورية بين المقاتلين الكوبيين والبوليفيين. صعقه كون الماركسي الصيني اقرب الى مواطنه الكونفوشي من الماركسي الإنكليزي بفعل قوة القومية. التاريخ، اللغة وحتى الملابس تصدرت الأفكار، وكل السياسات التي تجاهلت خصوصيات الثقافة كانت جوفاء. خيّب دوبريه ارامل الجنود البوليفيين القتلى اللواتي طالبن بقتل الأجنبي وأطلق بعد أربعة أعوام. لم يجد كاسترو المتشدد مستمعاً جيداً فقصد تشيلي"المتمدنة"التي شكل رئيسها سلفادور اينيدي حكومة اشتراكية. اعتقد ان الرئيس اليساري سيسقط في الانتخابات المقبلة لكنه قتل في انقلاب دموي للجنرال بينوشيه. وجد دوبريه سياسياً اشتراكياً آخر في فرنسا، وعندما انتخب فرنسوا ميتران رئيساً في 1981 عينه مستشاراً في السياسة الخارجية، رفض اهل السياسة والإعلام"المحرض الكوبي"لكنه بقي الى ان انتقد ميتران علناً واضطر الى الاستقالة. اعتقد ان فرنسا نضجت ما يكفي لتصبح اشتراكية وأنها تستطيع سلوك طريق بين الشمولية والليبرالية الجديدة. على ان الشيوعيين تركوا حكومة ميتران بعد عامين على تشكيلها وتبعت فرنسا خطاً أوروبياً تقليدياً. الألماني اللطيف غادر بريمو ليفي اوشفيتز لكن اوشفيتز لم يغادره. بعد أربعين عاماً على نجاته من المحرقة فتح باب بيته ورمى نفسه من الطابق الثالث في فراغ الدرج. في الذكرى العشرين لانتحاره تصدر دار بنغوين كلاسيكس مجموعة قصصية له لم يسبق نشرها بالإنكليزية. تجمع"نجمة ساكنة"ذكريات الحرب والخيال العلمي والهجاء لكنها تفتقر الى الألق. في فترات كآبته الطويلة تساءل ليفي ما اذا كان سيكتب لو لم يُعتقل في اوشفيتز. عمل ثلاثين عاماً مديراً لمعمل دهان خارج مدينة تورين، شمال ايطاليا، وشغلته الشؤون الإدارية عن الاكتئاب كما زودته بمادة للكتابة. في قصة"الدهان السحري"الهزلية يتناول مادة تصد العين الشريرة، وفي"ذات ليلة"قطار للماشية لا تعلن حمولته يتقدم صافراً عبر السهول الباردة."الرقابة في بريطانيا"مجاز مستوحى من جورج اورويل عن الدولة الشمولية التي تستخدم التكنولوجيا للإساءة الى الفرد. القصة التي قدمت عنوان المجموعة عن محدودية اللغة وعجزها عن وصف ظواهر الكواكب العلمية أو عالم الذرة الخفي."موت مارينيزي"كتبت في 1949 عندما كان ليفي مغموراً، وتروي بقوة وتشويق تمرد الوطنيين على الاحتلال."الهارب"عن شاعر يفشل في الهرب من اجمل قصائده التي تلقي بثقلها عليه بلا رحمة. كتب ليفي عن تجربة أوشفيتز اولاً في"إذا كان هذا رجلاً"التي صدرت في 1948 وتجاهل فيها كما في"الجدول الدوري"الأفعال الصغيرة الطيبة التي قام بها ألمان نحوه. درس الكيمياء وأُجبر على العمل لشركة كيماويات في المعسكر حيث أعطاه المشرف عليه، الدكتور فرديناند ماير، حذاء وكان لطيفاً معه. في"الجدول الدوري"التي صدرت في 1975 يصور ماير نازياً سابقاً لا يخجله ماضيه أو كذبه ومكره. عمم صورة الألماني الجلاد، ولم يتساءل عن سبب انكاره طيبة بعض الألمان إلا في أواخر حياته. كان رجلاً معقداً صعباً ونجمت كآبته من شعوره بالذنب لبقائه حياً في اوشفيتز وخوفه من فقدان ذاكرته. عندما انتحر في عطلة الفصح في نيسان 1987 شعر الناجون امثاله انه خانهم، وقالت"ذا نيويوركر"انه خدع قراءه بفعل إنكار اخير. تساءل كثيرون عن سبب اختياره اسلوب انتحار عنيف بدلاً من الموت بالعقاقير، التي كان خبيراً بها، كما فعل آرثر كوستلر. بعد النهاية رواية رؤيوية اخرى من جيم كريس في"مستشفى الأمراض الوبائية"الصادرة عن دار بيكادور، بريطانيا. يكتب عن جرف كبير يتسبب بانبعاث غازات سامة من البحيرة تقتل كل حي، بشراً ونباتاً وحيواناً، في المنطقة الناجية الوحيدة مارغريت الجميلة التي اصيبت بما يشبه الطاعون وعزلت في المستشفى. يمر جاكسون لوبيز، العملاق الطيب المتجه شرقاً، فيحاولان تدبر الحياة معاً لكنه لا يلبث ان يخطف ويجعل عبداً. يفتتح الكاتب الأميركي روايته ب:"مات الجميع ليلاً"ويقدم رؤية هدامة لمستقبل بلاده."كانت هذه اميركا ... كانت اكثر الأماكن أماناً على الأرض. مواطنه الكاتب الناقد جون ابدايك رآه في روايته الخامسة"الحجر"منذ عقد كاتباً يملك"مهارة مهلوسة وقسوة كبيرة". قبل عزل مارغريت يُزال شعر رأسها وجسدها وحتى أهدابها في جلسة مؤلمة من دون ان نفهم علاقة الشفاء بالأهداب. بعد شفائها تعبر مع جاكسون الى"دريمنغ هايواي"حيث يخطف وتكلف هي رعاية طفل. تلجأ الى جماعة يمنع المسنون فيها من استخدام ايديهم وإن لحك أنوفهم لأن"الأيدي تقوم بعمل الشيطان". ذلك لا يمنع تكليف النساء إطعامهم وتنظيفهم وإشباع رغباتهم ما داموا لا يستعملون ايديهم لعمل شخصي. يصف كريس عالماً موحشاً يهدم نفسه، ويفصّل البشاعات بلا هوادة، لكنه لا يتخلى عن الأمل. يلتقي جاكسون مارغريت في النهاية ويحاولان بناء حياة جديدة بينما تدبرا الهجرة الى الشرق. تخف جرعة القسوة قصداً أو سهواً في الرواية مقارنة بروايته الأشهر"ان تكون ميتاً". كتب دانتي على مدخل الجحيم في"الكوميديا الإلهية":"تخلوا عن الأمل ايها الداخلون"وصدّر كريس"أن تكون ميتاً"ب:"لا تعتمد على الجنة او الجحيم. انتهى الأمر. وداعاً. وداعاً. الأبدية تنتظر؟ آه، طبعاً، أنه العفن وروث الحيوان، واهتراء، اهتراء لا يرحم، مع تراجعك من حديقة الحيوان الى اليرقانة". اصطياد الضعفاء رواية محسن حميد الثانية"المتطرف غصباً عنه"أكثر أماناً لحياة المؤلف الخاصة من باكورته"دخان العث". البطل مثله باكستاني درس في جامعة برنستون وعمل في شركة تتخصص في الانقضاض على المؤسسات المضطربة لتملكها. الهجوم على مركز التجارة العالمي في 11 ايلول سبتمبر 2001 يشعره بالسعادة فتفلت منه ابتسامة تكلفه وظيفته. يعود الى بلاده ليصبح إرهابياً. الرواية القصيرة 184 صفحة مونولوغ يدوم امسية واحدة في مقهى في لاهور حيث يكره تشانغيز سائحاً اميركياً على سماع قصته. حميد يكتب بلغة شيقة يلمع فيها التهديد من حين الى آخر ويزيد من قدرة الكاتب على شد القارئ. هل الأميركي سائح حقاً أم عميل سري أرسل لقتل تشانغيز؟ وما الذي حوّل الطالب والموظف المجتهد الى إرهابي يحلم برئاسة دولة إسلامية تملك سلاحاً نووياً؟ يفضح حميد بشاعة الحلم الأميركي وهباء الحب الذي بحث فيه عن واحة في غابة المال. أحب تشانغيز اريكا الجميلة الثرية لكن لطفها ستر برودة وكآبة اصاباها بعد موت حبيب طفولتها بالسرطان. "الشرق شرق والغرب غرب، وأبداً لن يلتقيا"قال رديارد كبلنغ، لكن بطل"المتطرف غصباً عنه"دُفع الى الإرهاب بعد خيبته في اغترابه ومواجهته الشك والتعصب وسلوك اميركا في الخارج. ألم يكن تشانيغز إرهابياً في تعامله مع الشركات المتعثرة، ومن الذي درّبه على اصطياد الضعفاء؟ ومن الصياد والضحية في المواجهة بين الأميركي والراوي؟ يتجنب حميد الوعظ وينتقل بخفة وبراعة بين النقاط الإيديولوجية في روايته الصادرة عن دار هاميش هاملتون.