ثمّة حديث كثير هذه الأيّام عن الديبلوماسيّة السعوديّة، وأسمع أنها "عادت" ، أو أنها "تغيّرت" ، أو أصبحت أكثر "جرأة" ، أو أنها صِداميّة، وغير ذلك كثير. أجد في الحديث عن الديبلوماسيّة السعوديّة قدراً من الصحّة، وأحياناً سوء فهم، وربما سوء نيّة. وأرجو أن أعرض اليوم على القارئ بعض ما أعرف عن هذه الديبلوماسيّة، بالموضوعيّة الممكنة، فأنا أتابع الديبلوماسيّة السعوديّة منذ أكثر من 30 سنة، ومعرفتي بالأمير سعود الفيصل تسبق ذلك بسنوات. أكثر ما أسمع عن الديبلوماسيّة السعوديّة هو أنها مرتبطة بالسياسة الأميركية، بل هناك مَنْ يتّهمها بالتبعيّة. هل هذا صحيح؟ أبدأ من النهاية، فالديبلوماسيّة السعوديّة جمعت"فتح" و"حماس"في مكّة المكرّمة حيث عقد الفلسطينيون اتفاقاً في حاجة إلى مواكبة الديبلوماسيّة السعوديّة كل خطوة منه حتى ترى نتائجه النور على شكل حكومة ترفع الحصار عن أهالي الأرض المحتلّة. عندما دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز"حماس" و"فتح" إلى الاجتماع لم يستشر واشنطن، وإدارة بوش حتماً لم تكن ترغب في اجتماع للفلسطينيين أو اتفاق، وإنما صمتت على مضض، ثم وصمتت بعد إعلان الاتفاق، ثم عارضت فهي تدرك أنّ آثاره تتجاوز حكومة وحدة وطنية، لأنه أعطى"حماس" شرعيّة أهمّ من أيّ مصالحة وجعلها جزءاً من العمل الفلسطيني حاولت إدارة بوش جهدها أن تحبطه. والآن أعود إلى البداية، فالمملكة العربيّة السعوديّة تحالفت مع الولاياتالمتحدة، وفعلت مثلها تباعاً دول الخليج بعد الاستقلال. أمّا مصر وعرب الشمال فتحالفوا مع الاتحاد السوفياتي وتبيّن في النهاية أن"البدوي" تحالف مع الرابح، وأنّ"الأساتذة" تحالفوا مع الخاسر ودفعوا الثمن ولا يزالون يدفعون. كل هذا لم يمنع نزار قباني من أن يقول بعنصريّة لأهل الخليج: متى تفهم؟ أيا جملاً من الصحراء لم يُلجم... بين البداية وآخر فصل في العلاقات السعوديّة - الأميركية، أي فصل مكّة المكرّمة، كانت السعوديّة البلد الوحيد في العالم الذي رفض سفيراً رشحته واشنطن وطرد سفيراً آخر. والقصّة الأخيرة تستحقّ الرواية فبطلها كان هيوم هوران، وهو ديبلوماسي أميركي صديق تعود معرفتي به إلى أواخر الستينات في بيروت، وحتى واشنطن قبيل تقاعده ثم وفاته سنة 2004، مروراً بعمان حيث عمل في أوائل السبعينات، والسعوديّة في أوائل الثمانينات عندما كان نائب رئيس البعثة، ثمّ عودته سفيراً سنة 1987. هيوم وُلِدَ باسم سيّد محمد انتظام، وأبوه عبدالله كان ديبلوماسياً إيرانياً ووالدته ماري هيوم أميركية من أسرة عريقة. وبعد طلاق والديه وزواج أمّه من الصحافي هارولد هوران، اختار الابن أن يُعرف باسم هيوم هوران، وهو الاسم الذي عرفته به في الشرق الأوسط. هيوم تخرَّج من هارفارد، وكان على ذكاء مفرط فقد كان يتقن مع الانكليزية الفرنسية والاسبانية والالمانية. أما معرفته بالعربيّة فكانت كأهلها أو أفضل، وكان يستطيع أن يحدثني بلهجة لبنانيّة أو فلسطينيّة أو أردنيّة. ورأيته بعد أن نُقل من بيروت إلى عمان، وافتقد مباهج بيروت وسألته عن وضعه فقال:"يا خوي أي أخي الجنّة بلا ناس ما بتنداس". هذا الديبلوماسي الخبير القدير دفع في النهاية ثمن سياسة حكومته، فالحكومة السعوديّة عقدت صفقة الصواريخ الصينية، وهي الصفقة التي أنجزها الأمير خالد بن سلطان، واكتشفت الإدارة الأميركية الصفقة فأمرت السفير بالاحتجاج رسمياً إلى الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، وهو فعل وطلب من الملك أن يتوقّف، وأصرَّ على مواصلة الاحتجاج، فكان أن أعلنته المملكة العربيّة السعوديّة شخصاً غير مرغوب فيه وسُحب. ما سبق ليس الشذوذ الذي يثبت القاعدة، فالعلاقات السعوديّة - الأميركية تجمعها مصالح مشتركة، ثم تفرّقها مصالح أخرى، وعندي أمثلة كثيرة من نوع ما سبق، كلها من معرفتي الشخصيّة المباشرة، إلاّ أنّ المجال يضيق فأختار مثلاً واحداً منها. بعد انفجار الخبر سنة 1996 حاولت الولاياتالمتحدة"السطو" على التحقيق إلاّ أنّ السعوديّة رفضت مرّة بعد مرّة، وعاد لويس فريه, رئيس مكتب التحقيق الفيديرالي في حينه، خائباً كلّ مرة، وإلى درجة أنه زار المملكة سرّاً ليشكو إلى الملك فهد"عدم تعاون" الأمير نايف بن عبدالعزيز معه، من دون أن يعرف أنّ وزير الداخلية ينفّذ سياسة الملك والحكومة. وفي النهاية لم يحقّق الأميركيون أكثر من تسليم المحقّقين السعوديين أسئلة هؤلاء وجّهوها إلى المتّهمين فيما الأميركيون يتفرّجون من وراء مرآة باتجاهين. الاستقلاليّة في التحقيق تبعها تفاهم أمني سعودي - إيراني، حتماً لم تكن الإدارة الأميركية تريده، والتفاهم صامد حتى اليوم، ولم يمنع أن تسحب الرياض"حماس" إلى مكّة المكرّمة، وأقول دفاعاً عن"حماس" انّها حليفة إيران، إلا أنها ليست عميلة إيران، وعندها القدرة على القرار المستقلّ. ختاماً، أرى أنّ الديبلوماسيّة السعوديّة موجودة دائماً، وكلّ ما حدث هو أنّ التطوّرات الخطيرة في المنطقة أخرجتها إلى السطح بعدما عملت طويلاً وراء أبواب مغلقة. والقول إنها"عادت" خطأ لأنها لم"تذهب" يوماً، فهي من فاس إلى الطائف إلى قمة 2002 في بيروت، وحتى جنوب افريقيا، وقضية لوكربي، ومن اليمن إلى لبنان اليوم، وحتى زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحديث السعوديّة وروسيا عن تعاون في مجالات عدّة، بما فيها الطاقة النووية، وهو ما لا تريد أميركا حتماً.