يعيش شرق آسيا وجنوبه حالاً من رعب مزدوج راهناً. وإذ تتهدده موجة وباء انفلونزا الطيور، التي عادت لتضرب بقوة في آسيا والعالم، فإنه يبقي عيناً مفتوحة بقلق على احتمال تجدد ضربات التسونامي التي أزالت جزراً بأكملها من الوجود في مختتم العام 2004. ماذا لو اجتمعت تلك الكوارث لتضرب بقسوة بلداً ما؟ لنفترض أن تسونامي هائل اجتاح اليابان، مترافقاً مع انتشار انفلونزا الطيور بين البشر فيها، ما الذي يزول وما الذي يبقى في ذلك البلد المتقدم؟ الأرجح أن البلد الذي صمد، قبل بضعة عقود، لضربات القنابل الذرية، يستطيع ان يقاوم مثل تلك الكوارث. ولكن، ماذا لو أن ضربات مُشابهة حلت به قبل ألفي سنة، قبل عشرة آلاف سنة، كيف يكون مشهد الخراب حينها؟ من المعروف ان عاصمة مثل لشبونة زالت من الوجود بأثر من تسونامي اجتاحها قبل بضعة آلاف من السنين. وأزالت ثورات البراكين في ايطاليا واليونان الكثير من المدن، التي يعثر المنقبون على بقاياها باستمرار. ويعرف أهالي سان فرانسيسكو ان مدينتهم زالت قبل قرن، بأثر من زلزال كبير"ويعيش كثيرون من أهلها في رعب دائم من احتمال تكرر ذلك السيناريو المُرعب. وفي سياق مُشابه، يشيع بين العلماء اعتقاد بأن ارتطام نيزك بالأرض ولد انفجاراً هائلاً، يساوي مجموعة كبيرة من القنابل الهيدروجينية، فارتفعت سحابة غبار هائلة حجبت ضوء الشمس عن الأرض، ما أطلق عصراً جليدياً لفّ الكرة الأرضية بطريقة مفاجئة. ولم تتمكن الديناصورات من التأقلم مع الانقلاب المناخي السريع، قبل 65 مليون سنة، فأخذت بالانقراض. وقبل أشهر، عرض تلفزيون"ديسكوفري"برنامجاً متلفزاً ظهرت فيه محاكاة افتراضية عن احتمال زوال الحضارة الأشورية، في بلاد ما بين النهرين، بأثر عواصف حرّكها مناخ يُشبه"النينو"El Nino الذي يتميز بأعاصير عاتية وأمطار شديدة الغزارة، بصورة غير مألوفة بالنسبة الى بلاد الرافدين، ما دمر الكثير من منجزات تلك الحضارة القديمة. انطلاقاً من تلك الوقائع وما يُشبهها، بات بعض العلماء على قناعة بأن العناصر الطبيعية، مثل الزلازل وارتطامات النيازك ومناخ"النينو"والتسونامي والأوبئة، ربما لعبت دوراً في انقراض الحضارات القديمة، وضمنها حضارات المتوسط، أكثر مما أفتُرض حتى الآن. في قبضة"حمام الأُسديات" إن حالفك الحظ وشهدت عاصفةً شهبية في ذروتها كتلك التي أمطرت سماء بوسطن عام 1833 أو"حمام الأسديات"، وهو سيل من شهب لامعة وصغيرة الحجم، في العام 1999، فلربما شهدت نموذجاً مصغّراُ جدّاً عن أحداثٍ يقول بعض العلماء أن أمثالها أدّت الى اندثار الحضارات البشرية الأولى. وتروي مصادر كثيرة عن كوارث طبيعية حدثت قبل قرابة 5 آلاف سنة، فولّدت أحداثاً مأسوية ساهمت في القضاء على مجتمعات عدة في أوروبا وآسيا وإفريقيا. ويزداد الاعتقاد لدى العلماء بأن المذنّبات وما تسبّبه من عواصف شهبية ساهمت في ذلك. وتدل الاكتشافات الأحفورية والأثرية على زوال حضارات كبرى قبل بضعة آلاف من السنوات. إذ تحولت الامبراطورية المصرية القديمة الى أطلال. وكذلك اختفت الدولة الأكادية في العراق، التي لا تقل شأناً عن دولة الفراعنة. في تلك الفترة الزمنية نفسها التي صنّفت كبداية العصر البرونزي، ظهرت كتابات ملحمية وتنبؤات ونصوص تاريخية غذّت الإعتقادات الغيبية التي ما زالت تحوم في المخيلات حتى يومنا هذا. فمثلاً، تتحدث ملحمة جلجامش، في بلاد بابل، عن نار مستعرة وحمم متدفقة وطوفان عظيم، ويعتقد بأنها كانت تروي في شكلٍ أسطوري وقائع كوارثية. كما تروي بعض النصوص القديمة عن "سقوط نجوم عديدة من السماء"كنذير شؤم سبق انهيار الحضارة الأكادية. والجدير ذكره في هذا المجال أن"لعنة أكاد"التي تعود الى العام 2200 قبل ميلاد المسيح تتحدّث عن"رماحٍ ملتهبة تهطل من السماء". فهل كانت وصفاً للپ"حمام الشهب الأسدية"؟ وقبل أقل من ثلاثة قرون من الميلاد، ظهرت كتابات ميتولوجية عبرية تدعم نظرية الاصطدام الفلكي. بحسب هذه الكتابات، فإن الطوفان الذي تتحدث عنه التوراة، والذي نجا منه نوح، سببه نجمان سقطا من السماء"إذ تورد التوراة أنه:"عندما أراد الرب إغراق العالم بالطوفان، أمسك بنجمين ورمى بهما الى الأرض فغمرها الطوفان". كثيرون من العلماء لا يعتقدون بأن في الأمر صدفة. فهناك دلائل متزايدة جُمعت من دراسة حلقات جذوع الشجر القديمة ومن طبقات تربة الأرض وحتى من الغبار الذي ترسّب منذ زمن بعيد في قاع المحيطات، كل هذه الدلائل تشير الى أن كوارث بيئية هائلة هيمنت على شرق البحر المتوسط في بداية العصر البرونزي مترافقة ببرودة شديدة غير عادية في الطقس استمرت حوالى عشر سنين، مع فيضانات في الأنهر وطوفان بحري وزلازل مدمرة. المشتبه به: مذنّب! في السنوات الأخيرة، بدأ يُنظر الى انهيار الحضارات القديمة في شرق المتوسط ليس كنتيجة فشل إجتماعي أو سياسي أو عمل حربي، بل كنتيجة تغيّر مناخي ممتد زمنياً وواسع النطاق، كمرحلة قاسية مرجّحة من البرد والجفاف على مدى حوالى 300 عام، ربما نشأت إثر حدثٍ فضائي. وثمة من يوجّه الأصابع الى متّهم رئيس: المذنّبات. والسيناريو الأكثر احتمالاً على هذا الصعيد يتلخّص باصطدام مذنب كبير، أو مجموعة من النيازك، بالأرض"ما أدّى الى تبريد الهواء وخلّف طوفاناً بحرياً عظيماً تسونامي وموجات عاتية وصلت الى عشرات الأمتار وخرّبت المناطق المنخفضة. ومن الممكن تخيّل دوشات مكثّفة من الشهب تهطل كأمطار مخيفة من النيران في جو الأرض، ناتجة من بقايا مذنب تفتت عند اقترابه من الأرض، حاجبة نور الشمس سنوات عدة وخالقة بذلك صقيعاً شاملاً على مستوى الكوكب. حفرة نيزكية في العراق... ظلت نظرية الاصطدام المذنبي تبحث عن دليل ملزم، يتمثل في حفرة الاصطدام، إضافة الى دلائل أحفورية أُخرى. وتغيّر الأمر على يد شاراد ماستر، عالم الجيولوجيا في جامعة"وِتواترسراند"في جنوب أفريقيا، الذي اكتشف منخفضاً دائرياً واسعاً في العراق قطره ثلاثة كيلومترات تقريباً، أثناء دراسته صوراً صادرة عن الأقمار الاصطناعية. ويُعتقد بأن المنخفض حفرة اصطدام لجسم فضائي. لكن الموقع لم يدرس بعد من العلماء كما يجب. ويقول الفلكي"بيل نابييه"من مرصد آرماغ أن حفرة نيزكية بهذا الإتساع تنتج من اصطدام جسمٍ تعادل طاقته طاقة عشرات القنابل النووية. والنتيجة المنطقية: تخريب كامل لمنطقة الصدم. وقد يكون مفعوله الثقافي أبعد مدى، إذ أنه سوف يَعْلق بذهن الأجيال التالية الناجية ويُسجَّل كأساطير سماوية. ويعتقد نابييه بأن"السواستيكا"، وهو رسم رمزي ظهر في آسيا ويعود الى 1400 سنة قبل الميلاد على الأقل، ويبدو كشجرة ذات جذور ممتدة نحو السماء، ما هو إلاّ تجسيد فني لمذنّبٍ متّجه نحو الأرض نافثاً خلفه ذيله العريض نحو السماء. وكذلك يعتقد نابييه باصطدامات عدة متقاربة زمنياً، وربما مطر إضافي من شهب وغبار كثيف يهيمن في جو الأرض سنوات عدة، حاجباً ضوء الشمس ومتسبّباً بالسنوات الباردة التي شهدتها المنطقة قبل 5 آلاف سنة. وقد حُدّد زمن هذه المرحلة بدراسة نمو الأشجار في تلك الحقبة المسجلة في حلقات بقاياها الأحفورية. وعلى رغم عدم اكتشاف حفر إضافية في منطقة شرق المتوسط تعود لذلك الزمن، هناك دلائل أخرى يمكن أن تفيد في هذا الموضوع. فقد اكتشفت في الأرجنتين حفرتان نيزكيتان كبيرتان يقدّر عمرهما بأقل من 5000 عام، قد تكونان على علاقة بالتغيير البيئي المأسوي على مستوى الكوكب. ثم أن عدم اكتشاف حفر نيزكية إضافية على اليابسة في منطقة شرق المتوسط تعود لذلك الزمن، لا يعني عدم احتمال سقوط النيازك الكبيرة. ونظراً الى كون الأرض مغطّاة بالمياه بنسبة الثلثين، فإنه إزاء كل حفرة نجدها على القارات، هناك اثنتان ينبغي البحث عنهما في المياه. والجدير ذكره أن سقوط نيزك كبير في البحر يمكن أن يكون أسوأ من سقوطه على اليابسة، إذ أن الطوفان المائي الناتج تسونامي قد يؤدّي الى نتائج كارثية على الحياة والحضارات. * أستاذ فيزياء في الجامعة اللبنانية