واست رئيس بنغلاديش في ضحايا سقوط الطائرة.. القيادة تهنئ الرئيس المصري بذكرى اليوم الوطني لبلاده    أمازون السعودية تُطلق 7 أيام متواصلة من عروض "يوم برايم 2025" الحصرية لأعضاء برايم من 25 – 31 يوليو    موجز    ختام اجتماعات الأونسيترال    "الداخلية" تعلن فتح تحقيق في انتهاكات السويداء.. لا إعدامات جماعية في سوريا    بين ضغوط ترمب ومواقف متصلبة.. محادثات بين موسكو وكييف في إسطنبول    وسط تحذيرات دولية وركود في مفاوضات الهدنة.. غزة على شفا مجاعة جماعية    فرنبخشة يتغلب على الاتحاد برباعية في أولى وديات معسكر البرتغال    انطلاق بطولة الهيئات المفتوحة لرفع الأثقال في الرياض بمشاركة 94 لاعباً ولاعبة    تصفيات ومواجهات ومتأهلين في عدد من الألعاب في الأسبوع الثالث    أمير المنطقة الشرقية يرعى حفل ختام موسم فروسية الجبيل    بكر يحتفي بحفيده الأول    عبدالعزيزالذبياني يحتفل بعقد قرانه    الحفل السنوي لتكريم أمهات الكشافين.. منديل كشافة شباب مكة لعفاف الحربي    الشهري ينال الماجستير بامتياز    تعاون سعودي – سريلانكي في مجالات الإعلام    المفتي يطلع على أعمال "حياة"    ابن فرحان يتلقى رسالة من لافروف واتصالاً من وزير الخارجية البريطاني    المبعوث الأميركي: المطلوب قرار من حكومة لبنان لحصر السلاح    7.9% نموا بالأجور الدنيا    اختيار سلمان: هكذا أطلق صقره ليحلق بالوطن    «سلمان للإغاثة» يوزّع (840) حقيبة إيوائية في منطقتين بإقليم جامو وكشمير في باكستان    تأهيل 31 شركة للمنافسة على الرخص التعدينية    توثيق 1810 عقارات يوميا    أواصر راسخة    تمديد الحصول على رُخص مياه الآبار    القيادة تعزي رئيس بنغلاديش    تركي آل الشيخ يعلن فعاليات رياضية عالمية ضخمة في موسم الرياض المقبل    إطلاق النسخة الثانية من مبادرة «تفعيل مجتمع الأفلام المحلي»    السياحة الريفية    "الشعفي" يُرزق بمولودته الأولى "سما"    «سوار الأمان».. حلول ذكية في المسجد الحرام    عسير.. حين يتحوّل الفن إلى تراث حي    بكين تحتج على عقوبات أوروبية تستهدف موسكو    ترمب يتعهد بخفض الرسوم عن الدول التي تفتح أسواقها أمام منتجات بلاده    أمير جازان ونائبه يتفقدان مشروعات فيفاء    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: إسرائيل دمرت قطاع غزة بالكامل    المملكة تدعم تعافي الاقتصاد السوري بمنتدى يستكشف الفرص الاستثمارية    القبض على إثيوبي في عسير لتهريبه (66) كجم "حشيش"    420 موهوبًا وموهوبة يختتمون الرحلة الإثرائية بجازان    تتحدث عن شرح حديث " إنما الأعمال بالنيات " محاضرة تنفذها إسلامية جازان غداً بالمسارحة والحُرّث    جمعية "واثق" بتبوك تحتفي بتخريج الدفعة العاشرة من برنامج "منزل منتصف الطريق"    هيئة مدينة مكة تُطلق أعمال المسح الاجتماعي الاقتصادي    155 ألف مستفيد من خدمات مستشفى ينبع    مجسات ذكية لراحة مرضى السكري دون ألم    أسباب وعواقب إدمان الحلويات    لماذا غسل الدجاج غير مستحب    مفوض إفتاء جازان يستقبل منسوبي إدارة جمعية سقيا الماء    عزز صفوفه بالخيبري.. الأهلي يشارك في السوبر بديلاً للهلال    وزير الداخلية يلتقي منسوبي الوزارة المبتعثين في بريطانيا    سبعة آلاف طفلٍ في مركز ضيافة المسجد النبوي    حكمي.. قصة تحدٍ ملهمة في عالم التوحد وحفظ القرآن    "هلال مكة" يفعل مساراته الطبية الإسعافية القلبية والدماغية    أمير جازان ونائبه يتفقدان عددًا من المشروعات التنموية والسياحية بمحافظة فيفاء    الجامعة العربية تدعو المجتمع الدولي لكسر حصار غزة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل رئيس ووكلاء جامعة جازان    السعودية ترحب بمطالبة دولية لإنهاء حرب غزة    تقنية تحسن عمى الألوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خصوصية نيلسون مانديلا في ما خص موضوعات السياسة والعنف والتعدد
نشر في الحياة يوم 06 - 10 - 2011

بالقياس الى الحركات التحرّريّة التي شهدها القرن العشرون تُفهم، على نحو أكبر، خصوصيّة الرمز الذي عبّر عن كسر النظام العنصريّ في جنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا. والحال أن وصف الخصوصيّة تلك بالفرادة، في ما خصّ التعامل مع السياسة والعنف والتعدّد، لا ينطوي على مبالغة. يكفي لذلك أن نراجع أدبيّات تمجيد العنف والبطولة لدى كلّ من حمل سلاحاً للتيقّن من ذلك.
بيد أن إدراك الحقيقة هذه يبقى متعذّراً من دون الرجوع الى تاريخ العمل المناهض للعنصريّة في البلد المذكور.
ففي 1912 تأسّس"المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ"وكان يُسمّى المؤتمر الوطنيّ المحليّ الجنوبأفريقي، أقدم حركة تحرّر في أفريقيا السوداء. وقد جاء ذلك بعد ثلاث سنوات فحسب على تأسيس"الرابطة الوطنية لتقدّم الشعب الملوّن"، وهي، بدورها، أوّل حركة حقوق مدنيّة حديثة في الولايات المتّحدة. وهو تزامُن حمل معاني فكريّة وسياسيّة ظلّت تواكب"المؤتمر"وتشدّه، حتى في أشدّ لحظات تأثّره بالعنف والسلوك الراديكاليّ، الى العمل المدنيّ والسياسيّ بالمعنى الذي قصدته"الرابطة"الأميركيّة.
وما ضاعف حافز التعلّم من"الرابطة"أن المقاومات القديمة للسيطرة العنصريّة، إثر هزيمة آخر المجتمعات السوداء المستقلّة أواخر القرن التاسع عشر، انتهت الى إخفاق بحت. ذاك أن المقاومة العسكريّة للغزو الأبيض جاءت نُتفاً مُجزّأة مبعثرة: فالأفارقة السود لم يقاتلوا شعباً واحداً، ومفهوم"الشعب"جديد عليهم أصلاً، بل كمجموعة متمايزة من المجموعات الإثنيّة والرؤساء القبليين. ويزخر تاريخ المقاومات تلك بوقوف فئات من السود الى جانب البيض إما لأنهم تعاطوا مع سلطتهم بوصفها من طبيعة الأشياء، أو لأنهم خصوم تقليديّون لقبائل المقاومين.
فالتحدّي الذي واجه مناهضة العنصريّة كان توحيد السود، إن لم يكن أفارقة جنوب أفريقيا بمن فيهم الهنود والمختلطو الأعراق"الملوّنون" بحثاً عن جبهة موحّدة ضد السيطرة البيضاء. وصار"المؤتمر الوطني الأفريقي"التجسيد المادي لهذه الرغبة في التوحيد.
وتكامل الإدراك هذا مع حقيقة أن مُنظّمي"المؤتمر"ومعظم أعضائه انتموا الى نخبة صغيرة مزدهرة اقتصاديّاً ومتعلّمة نسبيّاً. فهم أبناء الطبقة الوسطى المتأثّرة بالغرب ونتاج أفضل المدارس المتوافرة، بعضهم رموز إرساليّات تبشيريّة وتعليميّة مسيحيّة درسوا المحاماة في بريطانيا. وهؤلاء كانوا، لا سيما الرئيس الأول للمؤتمر، المعلّم جون إل ديوب، شديدي الاعجاب ببوكر تي واشنطن، الداعية المبكر للحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة. وتأثّراً بواشنطن الذي غدا"صديقاً كبيراً"لديوب، أكّد دستور المؤتمر على"الولاء لكل السلطات القائمة"، مُلزماً أعضاءه العمل ل"رفع مستوى السكان المحليّين لجنوب أفريقيا تعليميّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً".
ولعقود بقي"المؤتمر"تحت قيادة المحامين ورجال الدين والصحافيين والأطبّاء ممّن حاولوا كسب تعاطف البيض مع مطلبهم في إزاحة المظالم"عبر الوسائل الدستوريّة". لكنْ بغضّ النظر عن الطبيعة النخبويّة تلك، وعن غلبة المناشدة الأخلاقيّة شبه الطوبويّة، واظب"المؤتمر"على التحدّث باسم السكّان الأفارقة كلّهم. فقد نظر الى نفسه ك"طليعة"، ونظر الى التحرير بوصفه عملاً تدرّجيّاً تتعاظم حظوظه مع تعاظم مواقع السود في التعليم والتملّك، بما يؤهّلهم للمواطنيّة في دولة غير عنصريّة. هكذا نما تنظيماً يجمع بين الحقوق المدنيّة وبين الدعوة الى"مساعدة النفس"أكثر مما كان حركةَ تحرّر وطنيّ بالمعنى الذي بات مُتعارفاً عليه.
بيد أن تحديث النظام العنصريّ ومأسسته التدريجيين بدآ يدفعان في اتّجاه آخر، جاعلين"المؤتمر"حركة جماهيريّة أكثر راديكاليّة بعدما كان رابطة معتدلة للنخبة المتعلّمة. فبدل التأثير الإيجابيّ على ضمائر البيض وحسّ العدالة لديهم، تبيّن أن الحقوق المحدودة التي امتلكتها النخبة السوداء، كمتعلّمين وملاّكين، غدت عرضة لتقلّص متعاظم. وهي عمليّة راحت تتصاعد ابتداءً ب"قانون أراضي السكان المحليّين"الذي صدر في 1913 مانعاً الأفارقة من شراء الأرض، أو حتى استئجارها، في أكثر من 90 في المئة من مساحة البلد. وجاءت الضربة الثانية عام 1936، فحُذف أبناء النخبة في منطقة الكايب من قوائم الذين يحقّ لهم التصويت، وبذلك دُمّر الحلم الأصليّ ل"المؤتمر"في مراكمة حقوق تنبثق من تراكمها المساواة المدنيّة والمواطنيّة. أما الضربة القاضية فسجّلها العام 1948، حين وصل"الحزب القوميّ"الى السلطة ببرنامج"أبارثايديّ"صريح يقضي بتعميم التمييز والفصل الى أن يكتسبا صفة الشمول وعدم القابلية للنقض.
في المقابل، شرع"المؤتمر"، في الأربعينات، يطالب ب"الصوت الواحد للشخص الواحد"، بعدما اقتصرت سياسته على المطالبة بتوسيع عمليّة الاقتراع لتشمل الأقليّة الأفريقيّة التي تمتلك من العلم والثروة ما يمكّنها من بلوغ"المستويات الأوروبيّة للتمدّن". وفي 1949 خُلع من قيادة"المؤتمر"الطبيب المتخرّج من الولايات المتحدة أ.ب. كسوما لما أُخذ عليه من محافظة لم يعد الحزب يحتملها.
في المناخ هذا برز ثالوث نيلسون مانديلا وولتر سيسولو وأوليفر تامبو الذين كانوا، أواخر الأربعينات، أبرز قادة"المؤتمر"الشبّان. والثلاثة جاؤوا من قيادة"عصبة الشبيبة"التابعة ل"المؤتمر"، والتي تأسّست في 1944 متأثّرة بالأجواء الراديكاليّة المُستجدّة. ففي البدايات انجذبت"العصبة"الى أفريقيّة متمحورة إثنيّاً، وهي فلسفة اصطفاء عرقيّ أنتجها المثقّف والسياسيّ الأسود أنطون لمبِد. لكن لمبد توفي في 1947، ولم ينقض غير أشهر على وفاته حتى تخلّى العصبويّون عن شعار"أفريقيا للأفارقة"بوصفه متطرّفاً ومفرطاً، لمصلحة قوميّة معتدلة ترتكز على مبدأ التعدّد العرقيّ. هكذا انتقل التركيز لديها من حقّ الأفارقة في تقرير المصير الى إسقاط حكم السيطرة البيضاء. كذلك نشأت العصبة على عداء حادّ للشيوعيّة، إذ الماركسيّة عندها إيديولوجيّة غريبة عن"الروح الأفريقية".
والراهن أن الشيوعيّين في أفريقيا الجنوبيّة بيض مناهضون للعنصريّة قبل أيّ تعريف ايديولوجيّ أو طبقيّ آخر. فالحزب الشيوعيّ بقي، لفترة طويلة، البيئة الوحيدة المتاحة للبيض الذين يرفضون التمييز والفصل. ذاك أن جنوب أفريقيا، على عكس الولايات المتحدة، افتقرت الى تقليد ليبراليّ مضادّ للعنصريّة، وفقط في الخمسينات ظهرت مجموعة ليبراليّة صغيرة بقيادة ألن باتون تسعى الى تجاوز العلاقة الإحسانيّة الأبويّة حيال السود.
ثم أن الحزب الشيوعيّ، على عكس منافسيه عن يساره، التزم طويلاً مبدأ الثورة ذات المرحلتين، واحدة منهما وطنيّة والثانية اشتراكيّة، فلم يصرّ على إنجازهما معاً. وفي المقابل، كان لدور أولئك الشيوعيّين البيض الشجعان قيمة رمزيّة وسجاليّة لافتة، معزّزين حجّة"المؤتمر"في رفض العنصريّة السوداء ردّاً على البيضاء، وفي البرهنة على ان البيض ليسوا كلهم عنصريّين.
وكائناً ما كان الأمر فمع مطالع الخمسينات وصعود قادة"العصبة"الى قيادة"المؤتمر"، نُظر الى الشيوعيين كعناصر مفيدة وحلفاء جدّيين في الصراع ضد السيطرة البيضاء. وبقي مبدأ التعدّد الإثنيّ حيّاً لدى قادة المؤتمر الجدد. ف"ميثاق الحريّة"الذي أصدروه في 1955، وظلّ حجر الزاوية في الانتساب الى"المؤتمر"، يؤكّد أن"جنوب أفريقيا تؤول الى الذين يعيشون فيها كافة". وأيضاً في الخمسينات أعلن"المؤتمر"ولاءه المكرّس ل"التعدديّة العرقيّة"، متعاملاً بإيجابيّة قصوى مع الحاجة الى توفير ضمانات تحمي تمتّع سائر المجموعات العرقيّة والإثنيّة بحقوق متساوية.
بيد أن التزامه هذا كان دوماً مصدراً لمعارضة قوميّة سوداء أكثر تشدّداً. فالذين عارضوا إصرار"المؤتمر"على التعدديّة، وعلى التعاون مع الشيوعيين البيض، انشقّوا وأسّسوا، عام 1959،"المؤتمر القومي الأفريقي". كذلك شكّلت سياساته اللاعنصريّة مادّة دسمة لنقدها اللاحق من قبل مجموعات"الوعي الأسود"بزعامة ستيف بيكو، المتأثّر بالأميركي مالكولم أكس، والتي تفرّعت عنها، أواخر الستينات،"منظمة الشعب الأزاني"أزابو. فهؤلاء عارضوا"ميثاق الحريّة"رافضين التعاون مع الليبراليين والراديكاليين البيض، كما نسبوا رفض"المؤتمر"لغة القوميّة السوداء والافريقيّة الى تأثير الشيوعيين البيض عليهم.
ومنذ ظهورها، تطورّت"الوعي الأسود"من محاولة للتغلّب على الحسّ بالدونيّة عبر عمل لاعنفيّ مستقلّ عن البيض إلى نزعة ثوريّة عرقيّة - طبقيّة مركّبة. فالعدو لديها ليس العنصريّة ونظامها بل"الرأسماليّة العنصريّة"، ما عنى أن إلحاق الهزيمة بنظام التمييز لا يتمّ إلاّ عبر"ثورة الطبقة العاملة السوداء"ضد"مُضطهِديها الاقتصاديين والعرقيين معاً". ورغم الجاذبيّة التي لإيديولوجيّة كهذه على شعب يبدو فقره ولون بشرته شديدي الترابط، بقي رأي"المؤتمر"أن مسائل العدالة العرقيّة والاقتصاديّة قابلة للفصل، وفي هذا توفّرت مادّة لقاء مع نظريّة"المرحلتين"التي يقول بها الشيوعيون. أمّا الفرضية الضمنيّة في موقف"المؤتمر"هذا فأن الرأسماليّة ليست بالضرورة عنصريّة، وأن المطلوب كسبها لا تنفيرها.
ووسط قمع عنيف رافق مذبحة شاربفيل توّجه منع"المؤتمر"نفسه عام 1960، أُجبر الحزب على النزول الى السريّة، فيما تخلّى قادته عما التزموه طويلاً من اللاعنفيّة، من دون أن يتخلّوا عن التعدّديّة. لكن مانديلا لم يبخل بالعبارات الكثيرة التي تعلن تفضيله الطرق اللاعنفيّة وربط التحوّل الى النضال المسلّح بانسداد السُبل كافّة لمعارضة العنصريّة. فالعنف، إذاً، وهنا خصوصيّة مانديلا الأبرز والألمع، اضطرارٌ لا يستوجب التمجيد بقدر ما يستدعي الشرح والاعتذار.
وبغضّ النظر عن مدى الدقّة في رواية"المؤتمر"الرسميّة لتاريخه، يبقى مفيداً استعادة تلك الرواية للوقوع على إحدى الوجهات التي لم تغب عن سيرة مانديلا ومؤتمره، وإن تفاوت التعبير عنها، قوّةً وضعفاً، بين مرحلة وأخرى. ففي كتاب فرانسيس مالي"جنوب أفريقيا تعود لنا"نقع على تفسير"رسميّ"لبدايات الكفاح المسلح في الستينات يستحقّ الوقوف عنده. فالكاتب، المناضل في"المؤتمر"، يشير الى ان حزبه، كتنظيم، لم يتبنَّ أبداً نهج العنف. ذاك أن أعمال التخريب والتحضير لحرب العصابات إنّما نفّذها تنظيم مستقلّ هو"رمح الأمة"أومخونتو وي بقيادة مانديلا. ومع أن التنظيم هذا كان وثيق الارتباط ب"المؤتمر"، فالأمر لم يتطلّب موافقة الأخير على دعم العمل العنفيّ، بدليل أن رئيس"المؤتمر"يومذاك كان ألبرت لوثولي، أبرز دعاة المقاومة اللاعنفيّة يومذاك.
أبعد من هذا أن التفكير الذي مكث وراء تأسيس"رمح الأمّة"مفاده أن عنف العنصريّة بات يتطلّب عنفاً مقابلاً، وأنه ما لم تنشأ قيادة مسؤولة تكون الوسيط بين مشاعر المواطنين والمقاومة المسلّحة، فسوف ينفتح الباب لإرهاب يفاقم العداء بين مكوّنات المجتمع الجنوبأفريقي. وبالمعنى هذا يغدو العنف الصغير، في ظلّ انسداد منافذ السياسة والتعبير، مجرّد وسيلة لقطع الطريق على العنف الأكبر. ومعروفٌ أن مانديلا نفسه كان أدلى برأي مشابه في شهادته أمام المحكمة ردّاً على اتّهامه، عام 1962، بأعمال تخريبيّة. وغنيّ عن القول إن منطقاً كهذا لا يربطه رابط بنظريّات فرانس فانون حول العنف والثورة السوداء ذات الطاقة المحرّرة، لا سياسيّاً فحسب بل نفسيّاً أيضاً، وكتابه"معذّبو الأرض"كان كبير التأثير على الطلاب الجنوبأفريقيين ممن مثّلوا دعامة حركة"الوعي الأسود"لدى ظهورها.
والحال أن مواظبة مانديلا و"المؤتمر"في موضوعتي العنف والتعدّد لم تنفصل عن حقيقة أن قيادته اذ استقرّت في أيدي جيل جديد، وعدّلت بعض توجّهاتها، لم تختلف في تكوينها الاجتماعيّ والطبقيّ عمّا كانته لدى التأسيس في 1912. فهم متعلّمون ومهنيّون، لا سيّما محامين، كمثل مانديلا وتامبو. وتقارن غايل أم. غيرهلرا عبر تحليل استقصائيّ بين قيادتي المؤتمرين الوطنيّ والقوميّ الذي انشقّ عنه، فتلاحظ وجود فوارق ضخمة. ذاك أن 70 في المئة من القيادة العليا للوطنيّ، عشيّة الحلّ في 1960، جاءت من"النخبة المهنيّة"، مقابل 20 في المئة في القوميّ. أما قاعدة الوطنيّ فاحتوت تعدّداً طبقيّاً أكبر، غير أن الصادرين عن خلفيّات عماليّة أو فلاحيّة ضعيفة الصلة بالسياسة، لم يحتلّوا مواقع ملحوظة في القيادة.
ويكتب ستيفان ديفيز كيف خرج"المؤتمر"من تهميشه في أوائل السبعينات الى القوّة التي بات عليها. فكتنظيمٍ كاد يدمّره منعه، وفشل حملة التخريب التي قام بها، واعتقال الكثيرين من قياداته، أُجبر"المؤتمر"على تركيز نشاطه، طوال عقدين، في المنفى. أمّا للداخل، فوضع مانديلا"خطّة أِم"، وهي محاولة لتنظيم الأعضاء في خلايا سريّة ومحليّة كانت هُندست في الخمسينات لاتّقاء المطاردة. وأكثر مما كان متوقّعاً نجحت الخطّة، فتمكّن بعض الكوادر من البقاء داخل البلد. غير أن قرار مباشرة حرب العصابات من الداخل لم يمكن تنفيذه بسبب أجهزة الأمن الخارقة البناء والامتداد، كذلك لم تحظ محاولات الاختراق من الخارج إلاّ بنجاح ضئيل. ذاك أن جنوب أفريقيا كانت محاطة بأنظمة كولونياليّة برتغاليّة في أنغولا وموزامبيق، وبريطانيّة في روديسيا. لكن استقلال آخر المستعمرات الأفريقيّة أواسط السبعينات أتاح لمنفيي"المؤتمر"الاقتراب من حدود بلدهم، علماً بأن خوف الأنظمة الجديدة من جبروت بريتوريا العسكريّ منعها من توفير قواعد آمنة لهم.
أما داخل البلد فاستطاع"المؤتمر"لسببين أن يتغلّب على منافسيه في"القوميّ"و"الوعي الأسود"، أوّل السببين تفوّقه التنظيميّ الذي وفّر لطلاّب انتفاضة سويتو عام 1976 أُطراً قابلة للاستيعاب لم يملكها"القوميّ"الذي كانت تعصف به نزاعاته، ولا"الوعي"الذي كان، مع بداية التحرّك، أقوى بلا قياس من"المؤتمر"في أوساط الطلبة.
أمّا الثاني فقدرة"المؤتمر"على إحراز الدعم الدوليّ. فهو تلقّى عوناً عسكريّاً من المعسكر الشرقيّ ومساعدات إنسانيّة من الحركة الدوليّة المناهضة للتمييز في الغرب. وهو ما لم يكن بعيداً من خياره التعدّدي والمناهض للعنصريّة السوداء المضادّة. ذاك أن"القوميّ"تمتّع بتأييد أكبر من"منظّمة الوحدة الأفريقيّة"التي استهوتها نضاليّته السوداء، الا ان الدول الأفريقيّة المُفقرة والضعيفة لم تكن تملك الكثير تقدّمه. ويبدو ان علاقة"المؤتمر"، البراغماتيّة لا الإيديولوجيّة، بالشيوعيّين ساعدت في اجتذاب المعونات السوفياتيّة.
وفي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات أعاد"المؤتمر"بناء حركته التحت الأرض، كما نجح في تنفيذ أعمال تخريب في عدادها قصف مصافي ساسول عام 1980. غير أن حركة التخريب التي فشلت مثيلتها أوائل الستينات، وازاها تشديد الموقف الرسمي ل"المؤتمر"، طوال الثمانينات، على رفض الإرهاب، أي الأعمال التي تستهدف مدنيين وأهدافاً مدنيّة. مع هذا بدت قدرة القادة المقيمين في زامبيا على ضبط كوادرهم في الداخل محدودة، فنفّذ هؤلاء ثلاث عمليّات إرهابيّة على الأقلّ لم يُخفّف من وقعها إلا النشاط المبذول على الجبهة السياسيّة. فقد رعى"المؤتمر"، عام 1983، إنشاء"الجبهة الديموقراطيّة المتّحدة"التي وافقت على"ميثاق الحريّة"، وكانت المظلّة التنظيميّة للجماعات الأهليّة والسياسيّة المعادية للتمييز. وفي منتصف الثمانينات غدا مُسلّماً به ان"المؤتمر"الطرف الأقوى، بلا منازع، في الداخل.
ومن ناحيتهم، تحرّك خصومه السود، فنشأ"المنتدى الوطنيّ"ضامّاً المجموعات المختلفة ل"الوعي الأسود"، وأهمّها"منظّمة الشعب الأزاني"، لمقاومة التعاون العرقي، أو حتى التفاوض مع البيض. فشهدت الثمانينات، بالتالي، صراعات متوالية ضد القوى السياسيّة السوداء والمنافسة. وفي 1985 و1986 كانت رسالة قيادة"المؤتمر"في المنفى لعناصر الداخل تصفية"القوّة الثالثة"، الشيء الذي بالغ الكوادر في تفسيره بحيث تولّد إرهاب طال مَن هم على يسار"المؤتمر"ومن على يمينه.
لكن قيادة مانديلا، وإن ضمنت تمثيل نصف الأفارقة السود، بدت مُتيقّنةً من أن تمثيلها لا يمكّنها من إسقاط العنصرية بالقوّة، وأنها، من ثمّ، تواجه حالاً من التعادل تحضّ على مباشرة التفاوض، وهو فعلاً ما تحقّق بعد حين وكان إطلاق سراح مانديلا بدايته.
* كاتب ومعلّق لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.