"ينزلون من الرحبة"رواية جديدة للكاتب السوري المقيم في أميركا حسين سليمان. صدرت في القاهرة عن"رامة"للنشر والتوزيع. رواية"أجيال"تتوسّل تيار الوعي والمونولوغ الداخلي وتعدد البنى السردية خلال خيط من الفانتازيا الشعرية. ترصد الصراع الأزلي بين التاريخ والمصير. وتقدّم تصوّراً باطنيّاً للعالم في لحظة البدء الأولى مروراً بالعالم الجديد. قصة هبوط الإنسان من"هضبة الرحبة". إلا أن الهبوط هو قرارٌ ذاتيّ اتخذه"سِنان"الذي أغراه النهر في الأسفل وكان يظنه"شريان الرب"يجري في السفح. رفضت زوجته"خود"أن ترافقه متمسكةً بأصولها الأولى في موطنها"الرحبة"لترمز إلى"التاريخ"العنيد الراسخ، فيما يرمز زوجها إلى"المصير"المجهول المغامر. يهبط سنان في رفقة ثلاثة من أبنائه تاركاً"خود"العصية العنيدة في الأعالي مع أربعة من أولادهما. أحد الأولاد الباقين هو"رطب"الذي سيتخذ صوراً عدة داخل العمل، ويراوغ الطفل"صوفي"- الراوي الرئيس في السرد. تتنامى الرواية عبر أكثر من بنية سردية ينتقل السارد عبرها في رشاقة تفوّت على القارئ فرصة التشبع بالحدث إذ يُبتر قبل الاكتمال. الزمن متشظ ومنتثرٌ في فوضوية فنيّة، فتتوازى وتتقاطع خطوط زمانية عدة: نقطة الصفر في التاريخ، حين قرار الهبوط، ممتدٌ خطُّها حتى لحظتنا الراهنة، ومتقاطعةٌ معها خطوط أخرى تسير عرضياً عبر شبكة الوقت لتشكل فانتازيا زمانية - مكانية أسطورية. وتتبدى خلالها إشارات لأحداث مفصلية واقعية تمثّل إسقاطات سياسية في بقعتين محددتين في الخريطة: سورية، موطن المؤلف، ونظامها السياسي الذي تسبب في هجرته، وأميركا، مهجره الراهن. يعمد الكاتب إلى أسلوب"الساركزم"الهادئ للنَيْل من أوضاع عبثية في الحياة، وينهل أحياناً من التراث. مثل عم إبراهيم الأعمى الذي أرسلته العشيرة كي يصعد إلى"الرحبة"ليأتيها بكتاب علّه يرفع عنهم غُمّة الإعصار الوشيك. وملمح العبث أن الرجل الأعمى لن يستطيع أن يرى الكتاب فضلاً عن قراءته، ما يذكرنا بديوجين الفيلسوف الإغريقي الأعمى الذي حمل مصباحه بحثاً عن الحقيقة. ومن جهة أخرى نجدها إسقاطة على سؤال سياسيّ شهير سبّب الكثير من كوارثنا: أأهلُ الثقاة أم أهل الخبرة؟ أسقط الكاتب الجدار بينه وبين القارئ فأطلعه على خطّة بناء الرواية والشخوص والمكان. بل أحياناً يداعبه ويعترف أن الحكي توقف هنا ولا يجد ما يقوله ومن ثم نجد كلمة"النهاية"غير مرة في منتصف الرواية. أو قد يعلن أنه غير راض عن العنوان وقد يغيره بعد قليل، أو يعترف أن أحد الشخوص غافله واختفى فكيف سيكمل الرواية؟ حتى أنه خصص فصلاً كاملاً لجملة واحدة:"أين أنت يا رطب؟"وقد ألمحنا أن"رطب"هو"ملهم"الراوي ودليله ربما. لعب الكاتب على المجاز المشهدي والصورة الشعرية التي أجاد رسمها. واللغة تتراوح بين الفصحى والعامية الشامية، ونلمح الكثير من التمرد على اللغة والصياغة وعلامات الترقيم التي يسقطها الكاتب عمداً في أوقات بعينها، وأعلن أنه سيكتب سؤالاً بلا علامة استفهام. وربما يلاحظ القارئ أن هذه التمردات تظهر كلما تناول الحكي ملمحاً سلبياً يرفضه الكاتب في النظم العربية. لكننا نلمح بضعة أخطاء نحوية قد تبررها هجرة الكاتب إلى الغرب منذ عقد ونيف، لكننا لن نقبل هذا التبرير. وعلى رغم أن المؤلف رجل إلا أننا نلحظ أن"الأنثوية"وليس النسوية تسيطر على العمل، بمعنى الانتصار لقيم الجمال والعدل في الوجود وأن المرأة هي أصل ذلك. وتُعلي الرواية من شأنها على نحو ملحوظ. فپ"خود"هي الأكثر أصالة وتمسكاً بالجذور، لم تبرح أرض الميلاد ولم تغرها طيوف السراب. وإن كانت النار رمزاً للتطهر المطلق فقد دخلتها"امرأةٌ"دون كل شخوص الرواية."هجع"، الفتاة السحرية وأيقونة الطهر، التي احترقت في نار التكوين فداءً لعشيرتها، لكنها لم تمت بل تحولّت روحاً تحلّق فوق سماء الرحبة. وهنا ثمة تماهٍ مع"التسامي"وهو ظاهرة فيزيائية تحول المادة الصلبة غازاً من دون المرور في الحالة السائلة، أي بلا موت. وتحيل إلى أسطورة"عروس النيل"الفرعونية ومبدأ"الفرد من أجل الجماعة". نحا السرد منحىً فلسفيّاً ذا مستويات تتناوب بين الأسطوريّ والواقعيّ، والعتيق والحداثيّ، عبر إحالات سياسية ووجودية. "المعرفة"لدى الشخوص تتطور تدريجاً في اطراد خلال التوغل في عمق النص، تماماً كما تراكمت المعارف والخبرات لدى الإنسان خلال توغله في عمق الحياة. فپ"سنان"الذي لم يستطع في البدء أن يحدد سبباً لقرار نزوله، ينفي ذلك بعد برهة ليقرَّ أنها شهوة التحرك إلى الأمام نادته كالمصير المحتوم. هذا التطور التدريجي للمعرفة يفسر غياب"الراوي العليم"واستبداله براوٍ يزعم الجهل بمآلات الشخوص وصيرورة الأحداث. فهو ينسج المشهد خطوةً خطوةً مع القارئ، ثم يتراجع أحياناً عن بعض الأحداث فينقض بعض خيوط غزله ليعيد بناءه من جديد على نحو مغاير. وهي لعبة أجادها الكاتب، فأضفت على العمل جوّاً مرحاً ينفي الرتابة والضجر ويفوّت على القارئ الشعور بطول الرواية على رغم ضخامتها النسبية إذ بلغت أكثر من 350 صفحة من القطع المتوسط، من ملامح ما بعد الحداثة في هذا العمل روح التوتر والقلق وعدم اليقين التي تشيع بين جنبات الرواية، حيث الشك والتفتت عند صخرة الواقع العجائبي الذي يحير الإنسان فيتخلى طائعاً عن صلفه القديم. حتى فكرة انقسام الأسرة الأولى تكرّس مفهوم التشرذم والتشظي والصدع الذي ضرب جزع"المفرد"الإنساني فسبب كل تلك الحروب والخرائب في المعمورة. وفي الختام، فالأولاد الباقون مع الأم أربعة، فيما المهاجرون مع الأب ثلاثة، فهل في ذلك إشارة إلى تفوق السلفية والمحافظة على التجديد والتمرد؟ أم هي إشارة إلى أن قوة التاريخ أعظم من قوة المصير؟ هذا هو السؤال الذي سيجيب عليه قارئ"ينزلون من الرحبة". والكاتب متخرج في كلية الهندسة في جامعة حلب عام 1980، يكتب القصة والرواية والنقد الأدبي وله روايتان:"صدى الزور البعيد"، وپ"غابة ظليلة لحصان أبيض".