من الشائع الى حدود الافراط شعار: حوار الثقافات. شعار يعني الاعتراف المتبادل بين الحضارات المختلفة، مبشراً بالتسامح وبمجتمع انساني متآلف، لا عزل فيه ولا مفاضلة. ومن الشائع ايضاً شعار: ثقافة العولمة، التي ترى الى ثقافة ينتجها بعض البشر ويستهلكها البشر جميعاً، ونقيضها كما يرى العقل الاحتجاجي عولمة الثقافة، التي تشترك المجتمعات كلها في انتاجها واستهلاكها في آن. والموضوع، في شكليه، يحيل على الترجمة، ذلك ان المتحاورين لا ينتسبون الى لغة واحدة، مثلما ان المتعاملين مع البضاعة الثقافية الكونية لهم أكثر من لسان. ولعل موضوع الترجمة، الذي يدور بين قول أصلي وآخر صورة عنه أو صدى له، هو الذي يعين التأمل اللغوي مدخلاً الى حوار حضاري مفترض والى ثقافة متعولمة تخترقها جملة من الألسنة. ومع ان في الانتقال من الحوار الى اللغة ما يزيد الموضوع وضوحاً، فإن فيه ايضاً ما يكدر الارواح المتفائلة. يفترض الحوار المتفائل افكاراً انسانية متعادلة، يرضى عنها الجميع ويطالب الجميع بتحقيقها، ولغات انسانية متساوية تنقل الافكار المتعادلة، بشكل متساو، من لغة الى اخرى. لن تكون الترجمة، والحالة هذه، الا تعبيراً ميسوراً عن جوهري انساني متماثل شاءت الصدف الجغرافية، أو غيرها، أن يتجلى في لغات مختلفة، لا تعاند"الجوهر"الاصلي في شيء. بيد ان هذه الفرضية اللطيفة في مقاصدها لا تلبث ان تسقط في الماء لسبب بسيط هو: لا تكافؤ الافكار بين المجتمعات الانسانية غير المتكافئة. والسبب بعيد البعد كله عن"تفاضل العروق"، الذي تقوله به الافكار العنصرية، ذلك أنه قائم في"مبدأ الفضول"، الذي تغذيه تربية اجتماعية وتقمعه تربية اخرى. إنه الاتكاء على المعلوم والسير نحو أقاليم غير معلومة، أو انه مراودة المجهول والعمل على اخراج الخبيء، أو أنه نقض البداهات السائدة بمعرفة مكتشفة غير متوقعة. أفضى"الفضول"الى رواية الخيال العلمي، التي نصرها التجريب العلمي لاحقاً، وجعل ديكارت يبرهن ما هو ميتافيزيقي بمعطيات الرياضيات والفيزياء، وأملى على انيشتاين أن يتأمل اسرار الكون بمعادلة رياضية. اذا كان الفكر هو اللغة المحدثة عنه، وبين الفكر واللغة علاقة تطابق، فإن فكراً متعدداً في مواضيعه المتعددة لا يمكن ترجمته الى لغة تصاحب فكراً مستقراً فقير المواضيع. فلغة الفكر، وهما شيء واحد، تساوي مواضيع بيئته، التي تكاثر مترادفات موضوع زهيد قليل الاستعمال، أو التي تجبر مواضيعها المتجددة اللغة على التجدد. كان المصري عادل كامل، في بيانه الادبي الذي صدّر به روايته"مليم الاكبر"، قد تحدث عن البيئة واللغة العربية والرواية والنقد الادبي. وسواء كان مصيباً أو جانبه الصواب، فقد لامس في اشاراته المشرقة موضوع:"الرصيد اللغوي"، الذي يفصل بين لغة فقيرة واخرى ثرية، على رغم انتسابهما المشترك الى"الجوهر الانساني". شيء قريب جداً من موضوع"الرصيد النقدي"، الذي تعرفه الدول جميعاً، مع فارق جوهري يجعل عملة نقدية معينة قوية نافذة متسلطة، ويجعل من اخرى عملة باثرة لا يعترف بها أحد في اسواق المال والتجارة. لا غرابة والحال هذه ان يربط بعض الباحثين بين دينامية اللغة وصعود التجارة، لأن اللغة الرائجة تخضع اللغات الكاسدة وتكشف عن فقرها. ولا غرابة ايضاً ان يجري الربط، تاريخياً، بين الاصلاح اللغوي وصعود الليبرالية، على خلاف الاقاليم المغلقة التي تكره الحراك والتبادل، مكتفية باستقبال ما يجيئها، طواعية أحياناً وبالإكراه في احيان كثيرة. يحيل موضوع"الرصيد اللغوي"، الذي يغطيه الفقراء ببلاغة ساكنة ماسخة، الى"الرصيد المفهومي"، الذي لا ينفصل عن علوم متعددة، لها تاريخها الخاص بها ومقولاتها ولغاتها وفلسفاتها... فمراودة المجهول، بلغة يستعذبها بعض الشعراء، تؤدي الى نقد الفكر الرائد وتغيير مسلماته، وتملي عليه ان يشتق من ميدانه الجديد لغة تعبر عنه، لا يعيها الا من شاركه البحث، او تعلم اللغة الجديدة في مدارس لا تقمع الفضول. والسؤال البسيط، من دون مقدمات كثيرة، هو: كيف تترجم لغة تتعامل مع العلم بصيغة المفرد نصاً غريباً عنها يرى العلماء بصيغة الجمع ويغطي رصيده اللغوي المواضيع التي يتعامل معها؟ يمكن ان نشير توسلاً للوضوح الى فيلسوف فرنسي مألوف اسمه، نسبياً، بين المثقفين العرب هو: غاستون باشلار. فالمعرفة الموسوعية التي حصلها هذا الانسان تحتشد فيها، كما تقول سيرته الذاتية، الفيزياء الحديثة والكيمياء والفلسفة وتاريخ العلوم والتحليل النفسي، أي كل ما يعطيه"نسباً معرفياً"خاصاً به، محدد البيئة والفضول في آن. يأخذ السؤال السابق الصيغة التالية: من أين يأتي المترجم النزيه، الذي يعيش في بيئة ثقافية مغايرة، بلغة لا"تخون"نص الموسوعي الفرنسي؟ لا علاقة للجواب بالافراد ولا بكفاية الافراد لأنه مرتبط، جوهرياً بموضوع متعدد العلاقات، لا يقول بأفكار انسانية متساوية ولا بلغات انسانية متعادلة، بل يشير الى لا تكافؤ الفضول واختلاف المتعدد المتطور عن الاحادي الذي لا يبارح مكانه. وقد يقال هناك الاجتهاد النزيه واخلاقية المترجمين، وهذا صحيح، وإن كان من المحقق ان اللغة لا تشتق من اللغة، لأنه لا وجود للغة تحتضن في مفرداتها جميع المواضيع الغائبة والمستحدثة والقادمة. ولهذا فإن المترجم، من دون مشيئة منه، لا يترجم، احياناً، الا الكلمات أو ظلالها، منتهياً الى صدى النص وتاركاً النص الاصلي مدثراً بغموضه، أي بتاريخه"المعرفي"الخاص به. ينطبق هذا بالتأكيد على الفلسفات الحديثة وعلم النفس والنظريات الادبية وفلسفات العلوم والنظريات السياسية، من دون الاشارة الى"العلوم الدقيقة"التي لها موضوع آخر. تعلن النظريات، التي أعطت الازمنة الحديثة مواصفاتها، عن اسماء اسلافها الذين جاء بهم فضول المعرفة، وتهمس باسماء احفادها الذين يتابعون فضائل الفضول. لا يتبقى ل"المترجم الغريب النزيه"الا مراودة اللغة، مكتفياً بما جاءت به ارادته. ولهذا من العبث التوهم بامكان"الاستنساخ"الدقيق، لأن ابداع المترجم يكون في"تطويع"لغته، لا في نقل النص نقلاً كاملاً، لأنه يحتاج الى فكر آخر له لغة اخرى. ولن يكون واقع"القارئ الفضولي"أفضل، طالما انه يقرأ كتاباً، لا تعترف به مدرسته. وعلى هذا فإن سؤال الترجمة هو سؤال المدرسة الرسمية، الذي يتجاوز كثيراً كتاباً تجب ترجمته، أو مترجماً مجتهداً وقارئاً محتملاً اضجرته قيود السائد والمألوف. وفي الحالات جميعاً فإن الترجمة فعل ضروري، يفتح الثقافات على بعضها، ويكشف لبعض اللغات عن فقرها. مع هذا ينبغي التمييز بين الدعوة الى الترجمة، بالمعنى الاخلاقي، الذي يقول بالحوار والاعتراف المتبادل بين"الأنا"والآخر، وبين الدعوة الى الترجمة، بالمعنى الصحيح، الذي يتخذ من"اللغة"موضوعاً اساساً له، مدركاً ان اللغة هي الفكر، وان الفكر محصلة لجملة من العلاقات الاجتماعية، تتجاوز"المجمع اللغوي"واقتراحاته. ولأن الترجمة فعل ضروري مجيد، دعا اليها رفاعة الطهطاوي واستأنف دعوته طه حسين، في الجامعة ودور النشر وفي"دار الكاتب المصري"، التي اخرج عنها مجلة قصيرة العمر، وفي الزمن الناصري ظهر مشروع"الالف كتاب"، الذي حلم بألف كتاب غيرها. واليوم يحتفل"المجلس الاعلى للثقافة في مصر"ب"ألف كتاب"ترجمها حالماً باستئناف مشاريع سبقته. تقول بعض التقارير الدولية: إن ما ترجمه العرب منذ عهد المأمون الى اليوم ليس أكثر مما يترجمه بلد واحد من جنوب أوروبا في عام واحد. إن كانت الترجمة هي حوار اللغة مع ذاتها وهي تحاور لغات أخرى، فما هو"الرصيد الحواري"للغة تكتفي بقليل القليل؟ لا تحاور اللغة ذاتها الا اذا كان شعبها يعرف الحوار ويمارسه.