في ديوانه"رتق الهواء"، الصادر حديثاً عن دار النهار 2005، يحددّ وديع سعادة زاوية رؤيته الشعرية حين يجاهرُ في مفتتح قصيدته الطويلة الأولى بأنّ التقنية المستخدمة في شعره ستكون اللعب بإطلاق:"إني ألعبُ الآن، ألعبُ مع الكلمات وأغشّها". هذا اللعب قوامه الحلم، كما يوحي في قصيدة"طير سرّي"، حين يقول إنّ رؤياه تستند إلى انحراف في الدلالة، وليس إلى تطابق:"ليس هذا اختلال نظر/ إنّما تحوّلُ الغبَشِ في عينيه إلى طير". وإذا كانت الرؤيا مؤسسة على انحراف، أي على اهتزازات نفسية وفكرية ولغوية، فإن أسلوب سعادة يقوم على انزياح جوهري، يقصي الدال عن المدلول، ويوسّع الهوة بين القريب والبعيد، تاركاً في أفق العبارة مسافة جارحة للتخيّل. من هنا أهمية اللعب كقيمة فكرية ولغوية، يعتمدها الشاعر ليهرب من الراهن، المستقر، والمعلوم، في اللغة والفكر، ليكمل النقص الرهيب في الوجود، كأنما في سعي لجعل العالم أكثر جمالاً:"البدءُ كان لعبة، والبادئ كان لاعباً. فلنكمل لعبتَه برقّةٍ لم يكن يملكها، علّنا نضفي على وجهها جمالاً". وسرّ اللعب في هذا المقطع يكمن في مفردة"رقّة"، التي تحمي الحالمَ من ذكرى السقوط، أو الحتمية التاريخية المشروخة بالخطيئة. وكأن سعادة يعارض رؤيا إليوت الشهيرة لپ"الأرض الخراب"، واعتبار البوار ناشئاً عن طغيان الحسّ وفقد البعد الأخلاقي. فالبوار، في رؤيا سعادة، ناشئ عن إقصاء المرئي، أو الجسد، مما يفسّر دعوته إلى عالم مليء بالحسّ، أو بخطايا الظاهر، لأن شرارة الخلاص تبدأ بإيقاظ الحواسّ، وتذوّق العالم بصفته كينونةً وليس فكرةً:"اسمعوني يا زوّار هذه الأرض القاحلة، ازرعوا تفاحاً كثيراً وكلُوهُ كلّه. بذلك، ربما، قد تغيرون مبدأ الأرض المؤسّس على اليباب". لكن سعادة يدرك وحشية مبدأ السببية، وخطورة الركون إلى تعريف نهائي، مما يجعله يصغي إلى النقص الكامن في الماهية، حيث الأشياء تتعرّض لتبدّل مستمرّ، والذاتُ تقوّضُ، متحولةً إلى سراب:"لا العالم يُمسَكُ ولا الذات، ولا النظراتُ التي نرسلها للإمساك بشيءٍ في العالم ستعودُ إلينا". ويرى سعادة بأن العالم صدى لفكرة جوهرية متسامية، أما نحن فخطاة، نادمون، مطاردون بوعي مأسوي، لأننا ورثة الصّدى، وأبناء ذاكرة جمعية تعيد صوغ وعينا، رغماً عنا. وأكثر من ذلك، نحن أبناء ذكرى، لا نقيم في الحاضر أو في المستقبل، بل في الماضي، نسترجع وجودنا برمّته، بصفته تذكّراً:"فنحن الذين تحت، يا آتيةً من فوق، لا نرى غير ذكرى، ولا نسمع غير ذكرى، ولا نقول غير ذكرى". الرؤيا هنا استرجاع لميراث الخطيئة، لأن الحواسّ لا تعكس براءة الأشياء. فكلامُنا تذكّرٌ، أو محضُ استرجاع لأثر الإثم في أرواحنا. ولأن سعادة يشعر بأن الوجود مملوء بصدى التذكّر، يحاول التمسّك بنضارة الوهم، أو المخيلة، في رؤيا نزول المطر في المنام أو القصيدة:"هل يعجزون عن إسقاط ماء وهمي على رجل وهمي في ليل وهمي؟"هنا تصبح اللغةُ وعاء الجسد، ويصبح المعنى ترجماناً للعاطفة. تصبح كل نبضة في الجسد علامة لغوية، وكل خلية حرفاً من حروف الأبجدية:"بالتحام الأحرف تلتحمُ الضلوعُ أيضاً". وغاية هذا الالتحام هي ابتكار أسطورة جديدة، يعود العالم من خلالها إلى أصله. هذا يفسّر، جزئياً، احتفال سعادة بالمسافة، أو ما يسمّيه البعيد الأكثر جمالاً، لأن التطابق شكلٌ من أشكال اليقين، والنأي طريقُ العاشق إلى محبة قصوى، حيث تنأى الدلالة عن مدلولها، وتظلّ العاطفة حية، متأجّجة، مشتاقة:"الجمالُ هو البعيد، البعيد فقط". ولكي يحمي البعيد من الدلالة المنجزة، النهائية، يلعب الشاعر بالحروف، ويتأمّل كيمياء الأبجدية. يبعثر مكونات الجناس والطباق، ويرمي المفاهيم جانباً، مطمئناً إلى متعة اللعب، حيث المسافة ذاتها متعة، خارج أوهام البداية أو النهاية:"أريد أن ألعب مع الأحرف. هي مثلي وحيدة وتحتاج إلى من يسلّيها". ولكي يكون اللعب شعرياً بامتياز، يلجأ وديع سعادة إلى أنسنة الحرف أو"تشخيصه"، وبث روح في عروقه، لأن الحرف ضلع أو خلية، أو سلّم عشق يؤدي إلى المجهول:"تعالي يا"ألف"أريد أن ألعبَ معكِ، أيتها العمودُ الجميلُ، السلّمُ الرائعُ إلى مجهول رائع". وما ينطبق على الألف ينطبق على حروف أخرى، تولد كعلامات سوداء جامدة، ثمّ تبدأ تنبض بالحياة. إلاّ أن حياة الحرف قصيرة على الورقة البيضاء، بسبب كونها نهباً للعبور، من الموقت إلى الأزلي. وسعادة يعي، كشاعر حداثة بامتياز، أن اللحظة في عبورها، تجعلُ كلّ ديمومة وهماً كبيراً:"فأنا هابّ وليس ورائي سوى غبار". ولأنّ العالم موقت، ونهبٌ لهبوب مستمر، تأتي اللغة الفانية لتسجّل لحظات التلاشي، أو فوات الأوان، كما في قصيدة"الصوت"التي تبحث عن أصداء ذات تتبعثرُ وتتفتّت وتموت:"بودّي أن أكتب روايةً عن صرخة خرجت من فم شخص وهو يموت، بودّي أن أعرف ماذا يقول ميتٌ لصرخته، وماذا تقولُ الصرخةُ للفضاء". في قصيدة"حيرة الذاهب"يعمّقُ سعادة شعورنا بفكرة التواري أو الغياب، لأن الموجودات تنزاح وتتلاشى، والحقائق تذوب، متخفّفة من كل ثقل معرفي، ليصبح الكون ذاته خفيفاً، سريعاً، زائلاً:"خفيفٌ حتى الإنهاك من مشقّة الخفّة". في قصيدة"العشبة"، يدرك الشاعر علاقة"الخفّة"بين الكلمة والجسد، أو بين الخارج والداخل، حتى أنّ الروحَ تورق خفيفةً في عزلتها:"وجدتُ روحاً، نبتت في غفلةِ فراغٍ صغير". لكن الكلمة تسعى دوماً إلى تجاوز الظاهر، ليصير الظاهر نفسه ديمومةً أخرى. فالكلمة تورق بين يدي الشاعر، وتصبح حيةً، مكتنزة بالوجود. فالناطقون بالكلام يتوهّمون أنهم صنّاع وقائع، لكنهم لا يدركون بأنهم، وهم يتكّلمون، إنما"ينكتبون"أو يُصنعون بالكلمات التي يستخدمونها:"الكلمات مخلوقات أخرى… شبحية، خبيثة ومفترسة. تكون تمضغهم في الوقت الذي يعتقدون أنهم ينطقونها". هذا ما سبق وألمحَ إليه الشاعر الأميركي ولاس ستيفنس في قصيدة بعنوان"بشرٌ من كلمات"حين يشير إلى أن"الحياة مؤلفة من فرضيات عن الحياة"، في إشارة إلى سلطة الكلام أو دوره في ابتكار الواقع. ارباك اللغة لا ينجو الشاعر من التشبيه في كل قصائده، حيث يصرّ على إرباك اللغة، عبر إرباك الواقع حوله، مستنداً إلى مخيلة شعرية قوية، لا نجدها إلا لدى كتاب الواقعية السحرية، ومنهم الشاعر ولاس ستيفنس نفسه. فالشاعر لا ينفر البتة من اللامعقول، ولا يخشى التحليق في عوالم خرافية، فالكون مصنوع من أخيلة عليا، ومن أرواح تتجول حرةً، أبعد من النظر، في ما وراء المرئي. في قصيدة"نظرتُهُ"يعبّر سعادة عن ولعه بخلق تناغم بين المجرد والمحسوس، الخارق والعادي، واصفاً"نظرة"تلخّصُ فكرة الغياب أو الرحيل:"نظرتُهُ الأخيرةُ ظلّت هناك، عالقة على شيء لا يتذكّره، ربما امتصّها روحُ مكانهِا، أو حطّ طيرٌ ونقَدَها". كأنّ هذه النظرة هفوة حياة، أو لحظة وداع، تطيل التحديق في الغياب:"لو يبقى الطقسُ معتدلاً هناك/ فلا ترتجفُ نظرته من البرد/ ولا تيبسُ من الحرّ/ وإن أمطرت فخفيفاً؟ لئلاّ تغرق". إنها نظرة وثنية، عصية، نائية، يتمنىّ الشاعر أن تظل نضرةً، متلألئة، لا يعكّرها حلمٌ أو طيف. ويصلُ التخيّل حدّاً مدهشاً، حين يحنو سعادة على رحابة فضائه المتخيل، محذراً من التناسق الذي يخلق وهم السكينة. يتطلّع المتكلم في قصيدته"الجهة"إلى تجاوز الجهات الأربع، متحدّياً"حارس الفضاء"، ومنادياً بإطلاق سراح الجهات كلها، فالسكون ليس دائماً سكينة، وهبةُ ريحٍ خفيفة تكفي لتغيير تضاريس الهدوء الأزرق في الأعالي:"يا حارسَ الفضاء الشاسعِ الجهات، كم جهةً يمكنكَ أن تحرسَ؟ ستفلتُ منكَ بالتأكيد ريشةٌ على الأقل، وتذهبُ على هواها، ستنتصر نثرةٌ عليكَ". وما الرّيشة إلا ومضة تقلبُ ليلَ الاستعارة رأساً على عقب، فالكون متحوّل، مصنوع من أطياف مهاجرة، وريشة واحدة تطير، يمكن أن تبدّل جهةَ الكوكب، وتحرفه عن مساره. قد تكون الريشة رمزاً للكلمة الحرة، لهفوة الشاعر، لغفلة الحكيم، أو لهذيان الفيلسوف. والمتكلّم في شعر سعادة كائنٌ حالمٌ بامتياز، لا يستقر حاله على حال، فهو يستلذّ بتفكيك كينونته، واللعب بعناصرها، والتأمل ببهجة المسافة. يحتفل بالبعيد، مرّة بعد أخرى، لأنّ الأكثر نأياً هو الأكثر جمالاً. ولأنَّ الحلم سمة انسحاب الكائن من مكانه، نرى سعادة يختم ديوانه بكلمات تتوجّه خصوصاًً إلى المرئي والملموس:"بودّي أن أكتب عن حجرٍ، لا يتحرّك أبداً من مكانه، وعن شخصٍ يجلسُ مطمئناً على ذاك الحجر". هذه الرغبة تعكسُ قلق الشاعر في العالم، وشعوره الدفين بأنّ الأشياء لا تفتأ تهبّ، وتتحرّك، تتبدّل، وتتلاشى، لتصبح الكتابة عن المكان ذاته تمريناً في التواري:"حَلمَ المسافات/ ففقدَ الأمكنة".