وادي "الفطيحة" أجواء الطبيعة الخلابة بجازان    موسيماني: ما زالت لدينا فرصة للبقاء في "روشن"    بيريرا: التعاون فريق منظم ويملك لاعبين لديهم جودة    "الأرصاد": تنوع مناخ المملكة يعكس الواقع الجغرافي    شهداء ومصابون في قصف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    الأوكراني أوزيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع في الرياض    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    خبير سيبراني: تفعيل الدفاع الإلكتروني المتقدم يقي من مخاطر الهجوم    «هيئة العقار»: 18 تشريعاً لمستقبل العقار وتحقيق مستهدفات الرؤية    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    مقتل 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    «التعليم».. تكشف شروط نجاح الطلاب والطالبات بجميع المراحل    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    تنظيم جديد لتخصيص الطاقة للمستهلكين    زيارات الخير    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    طبخ ومسرح    مواقف مشرّفة    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    «باب القصر»    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    المملكة رئيسا للمجلس التنفيذي للألكسو حتى 2026    التخصصي: الدراسات السريرية وفرت نحو 62 مليون ريال    "إرشاد الحافلات" يعلن جاهزية الخطط التشغيلية لموسم الحج    توطين تقنية الجينوم السعودي ب 140 باحثا    البحث العلمي والإبتكار بالملتقى العلمي السنوي بجامعة عبدالرحمن بن فيصل    قائد فذٌ و وطن عظيم    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق .. ديموقراطية بلا ديموقراطيين ! . عقلية التسلط لدى نوري السعيد وطبقة العسكريتاريا العثمانية 1 من 3
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2005

كان المبرر المعلن لاحتلال العراق, إلى جانب التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر على أثر لها, هو إقامة نظام ديموقراطي يحل محل نظام صدام الدكتاتوري, ويكون نموذجاً يمكن أن يقتدى به في منطقة الشرق الأوسط. وبالنسبة إلى العراقيين في المنفى, بعد كارثة احتلال الكويت, والحرب التي تلتها, كانت كلمة الديموقراطية على لسان كل منهم, كأنهم يجدون في هذه الكلمة حلاً لكل مشاكل العراق, من دون النظر والسؤال: هل هناك إمكان تحقيق نظام ديموقراطي في بلد مثل العراق, وفي هذه الظروف بالذات؟
عقب الاحتلال الأميركي حدثت في العراق فورة في التعبير وحرية الكتابة, حيث ظهرت العشرات من الصحف والأحزاب والكتل السياسية، ما لم يكن موجوداً في العراق لفترة طويلة من الزمن. وجاء الإقبال الشديد على الاقتراع في صناديق الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني يناير 2005, بتحدٍ واضح للإرهاب, وهو تطور آخر عزز من الأمل بإقامة نظام ديموقراطي على أسس واقعية وقابلة للحياة. ومعلوم أن حرية التعبير والنشر والاندفاع نحو الانتخابات هي خطوات ضرورية تسبق تحقيق نظام ديموقراطي, وليس بالضرورة الديموقراطية كنظام يعكس تطوراً سلوكياً في السياسة. مع الأخذ في الاعتبار أن جزءاً من العراقيين قاطع الانتخابات, وأن قسماً منهم اعتبرها غير شرعية. وعلى رغم التطورات المشجعة, يبقى سؤال في العقل السياسي العراقي, عما إذا كان من الممكن فعلاً تحقيق نظام ديموقراطي سياسي في العراق على غرار الدول المتقدمة, حيث السلطة الحقيقية في يد ممثلي الشعب, الذين اختارهم اختياراً حراً؟ وهل ينسجم التركيب الاجتماعي والديني, والعقل السياسي العراقي مع فكرة إقامة مثل هذا النظام في هذه الظروف؟
إذا وضعنا الشعارات جانباً, ودخلنا في الموضوع من دون توقع ما سيكون عليه في المستقبل, لا بد أولاً من الرجوع إلى الماضي, واستعراض الحياة السياسية في العراق باسم الديموقراطية, سواء بالنسبة الى الحكام أو بالنسبة الى المعارضة السياسية, ومعرفة الفجوة بين رفع الشعارات والمناداة بالديموقراطية وبين السلوك الفعلي على الأرض. أي ما جرى فعلاً في النظام العراقي النيابي في العهد الملكي, أو في الفكر الديموقراطي المعارض لذلك العهد.
أرى في استعراض التجربة الماضية ضرورة من أجل دراسة الإمكانات الحقيقية للمستقبل، من دون الخوض في النظريات أو المزاودات السياسية. وإلى جانب دراسة الماضي لا بد من تحليل الوضع الحالي بعد الاحتلال، والوقوف على ما يجري فيه من ممارسات فعلية باسم الديموقراطية. وكذلك لا بد من التعرف على الهيكل الاجتماعي، والطبيعة العشائرية أو الانتماء القبلي، مما يميز العراق اليوم، الى جانب الفورة الدينية التي تحققت نتيجة القمع الوحشي في عهد صدام حسين.
يتناول هذا البحث الموجز بعض النقاط التي تستعرض الماضي مع الحاضر، وتشير إلى الإشكالات التي تواجه الديموقراطية في العراق، وتكشف زيف النظام الديموقراطي النيابي في العهد الملكي، ممثلاً بنوري السعيد، ورجالات العهد الملكي من جهة، والفكر المعارض باسم الديموقراطية، ممثلاً بالحزب الوطني الديموقراطي، من جهة أخرى. وبطبيعة الحال سيتناول البحث طبيعة الحياة السياسية تحت الاحتلال، وهيمنة الموجة الدينية والعشائرية.
دخل اصطلاح الديموقراطية إلى العراق مع دخول القوات البريطانية في آذار مارس 1917. إذ لم يكن لهذا الاصطلاح وجود قبل ذلك في معجم السياسة العراقية. يوم كان البلد جزءاً من السلطنة العثمانية، فكل ما كان يصبو إليه الفكر الحر، آنذاك، هو تحقيق ما يسمى بالمشروطية، ما يعني بقاء الحاكم في السلطة مشروطاً بالتزامه بأحكام الدستور. وهذا لم يكن موجوداً فعلاً قبل الانقلاب العثماني الدستوري العام 1908. وبأثره حدث تطور في الواقع لكنه لم يتجاوز التطور الشكلي، وهو تأسيس مجلس المبعوثين المبعوثان حيث يمثل كل ولاية عراقية الموصل وبغداد والبصرة عدد محدود من أعيان الولايات.
وبعد الاحتلال البريطاني تبلور اتجاه الحكومة البريطانية نحو تشكيل حكومة وطنية بدلاً من استمرار الاحتلال العسكري المباشر. وكانت هذه مدرسة تزعمها آنذاك وزير المستعمرات ونستون تشرشل ووزير الخارجية اللورد كرزن. وبناء على ذلك تقرر إقامة حكم ملكي دستوري نيابي، أي ديموقراطي مع تعيين ملك من أولاد شريف مكة الحسين بن علي. وقد بذلت جهود كبيرة من المندوب السامي السير بيرس كوكس، والمستشارة الشرقية غرترود بيل الملقبة في بغداد بالخاتون في نشر وتعريف الناس بالديموقراطية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لعقد مؤتمر تأسيسي، وإقرار دستور العام 1925. عكس ذلك الدستور أفضل المبادئ الدستورية في العالم المتقدم. وبموجب هذا تم تشكيل مجلس نيابي، يفترض به أن يملك السلطة التشريعية، وسلطة الشعب. غير أن تلك الديموقراطية المستوردة من الخارج، كما دونت على الورق، كانت في وادٍ والواقع السياسي العراقي كان في وادٍ آخر.
وبموجب الدستور يعين مجلس النواب البرلمان الحكومة، ويقوم بمراقبتها، ويحاسبها، ويحاسب أعضاءها فراداً أو جماعة، ويحجب الثقة عنها إن استوجب الأمر ذلك. إلا أن ما ساد في العراق كان العكس! فالحكومة كانت تُعين أعضاء مجلس النواب، والسلطة الحقيقة كانت بيدها شراكة مع البلاط الملكي. فما حدث كان تماماً عكس ما نص عليه الدستور، وكانت الحكومة تعكس تصرف عدد من السياسيين - العسكريين ذوي الثقافة العثمانية، من الذين قدموا مع فيصل الأول، وعلى رأسهم نوري السعيد، الذي كان مخلصاً مع نفسه عندما أدلى في العام 1944 بالتصريح التالي في مجلس النواب:"أن في الدولة حكماً نيابياً ديموقراطياً، ومجلساً مسيطراً، وحكومة مسؤولة، ترتكز على هذا المجلس، وهذا المجلس ينزع الثقة من الحكومة، ويعطي ثقته لحكومة أخرى. هذا هو نظام الحكم الموجود، والذي أقسمنا عليه. ولكن سادتي، نظام الحكم هذا كيف يطبق في المملكة؟ هل يطبق على الوجه الصحيح؟ وإذا لم يطبق على الوجه الصحيح، فلماذا؟". ويستطرد نوري السعيد قائلاً:"نظام الحكم يقضي بإجراء انتخابات في المملكة، وللشعب أن ينتخب مَنْ يعتمد عليه، ليراقب، ويسيطر على أمور الدولة. هذا هو أساس الحكم. ولكن بالنظر إلى قانون الانتخابات الموجود بأيدينا، هل في الامكان، أناشدكم بالله، أن يخرج أحد نائباً مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأت الحكومة وترشحه، فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه، ووطنيته، فليستقل الآن، ويخرج، ونعيد الانتخاب، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى! هل هذا النائب الرفيع المنزلة، الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين، يستطيع أن يخرج نائباً؟حسين جميل،"الحياة النيابية في العراق وموقف الأهالي"، صفحة 69.
كان أحمد مختار بابان، آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، صرح أمام المحكمة العسكرية الخاصة عقب ثورة 1958 قائلاً: إن كل رئيس وزراء يجري انتخابات يتفاهم مع البلاط، ويتفق على الأسماء. وهذه حقيقة يعرفها الجميع"المصدر نفسه. وبعد عشر سنوات من تصريح نوري السعيد، أثبت الرجل إخلاصه مع نفسه مرة أخرى. لكنه مارس ذلك في شكل عنيف عندما أصر على حل مجلس النواب المنتخب العام 1954، بسبب فوز أحد عشر نائباً من المعارضة السياسية، التي دخلت الانتخابات بجبهة واحدة، الأمر الذي خلق في حينه رجة سياسية كشفت عن زيف النظام النيابي العراقي، الذي أسسه المحتل البريطاني.
واستناداً إلى الدستور، فإن رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب. فإذا قرر مجلس النواب عدم الثقة بالوزارة، بأكثرية الحاضرين، فعليها الاستقالة. لكن، منذ تأسيس مجلس النواب حتى قيام ثورة 1958 تشكلت وأُسقطت ثلاث وخمسون وزارة من من دون أن يكون لمجلس النواب أي دور في تشكيلها أو إسقاطها، لأن الوزارات كانت تتألف في البلاط الملكي، ثم تسقط باستثناءات خاصة، بعيداً من مجلس النواب.
تتشكل الوزارات عادة برئاسة عدد محدود ومكرر من الشخصيات، يتناوبون الرئاسة فيها. لقد شكل نوري السعيد أربع عشرة وزارة بين 1930 و1958. ومنذ توليه منصب وزير الدفاع العام 1922 وحتى قيام ثورة تموز يوليو 1958 كان نوري السعيد في الحكومة رئيساً للوزراء أو وزيراً. خلاصة القول، ان مجموع الفترات التي لم يكن عضواً فيها لم تزد عن سنتين من مجموع ستة وثلاثين عاماً. وعند خروجه من ت جماعته مثل جميل المدفعي، وعلي جودت الأيوبي، وغيرهما. وقد ضمت هذه المجموعة في فترة من الفترات أيضاً ياسين الهاشمي، وجعفر العسكري. ويتحدر هؤلاء جميعاً من المدرسة العسكرية العثمانية نفسها، التي لا تعرف سوى التسلط والعنف في معالجة الأوضاع السياسية، كاللجوء الى الأحكام العرفية، وحال الطوارئ، وإصدار مراسيم مخالفة الدستور.
كان مجموع المدة التي سادت بها تلك الأحكام العرفية بين 1932 - 1958 بلغت 11 سنة، كما بلغ عدد المراسيم التي أصدرتها الحكومة خرقاً للدستور 27 مرسوماً بما فيها مرسوم إسقاط الجنسية عن عراقيين د.عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي، صفحة 211 و155. يكشف هذا عن مدى تسلط الفئات العسكرية على الحكم في العراق، ودورها في تعطيل الدستور. ولا يسع المجال لذكر الإجراءات القمعية المنافية للحياة الدستورية التي مورست إبان العهد الملكي من عذاب السجناء السياسيين، والنفي والفصل من الوظائف إلى جانب الإعدامات.
إن إظهار سلبيات السلوك الديموقراطي في العهد الملكي يجب ألا تصرف الأنظار عن إنجازات مهمة جداً تمت في ذلك العهد. تلك الإنجازات تجاهلها ما يسمى بالمعارضة الوطنية ظلماً، وكان همها التركيز على الجانب السلبي من دون القدرة على رؤية المنجز الايجابي في العهد الملكي. إن تأسيس مجلس الإعمار في العراق الملكي كان إنجازاً عظيماً من أجل استثمار عوائد النفط في التنمية، بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي، كان أعظم تجربة تنموية في العالم الثالث، ولم يكن له مثيل في الأقطار المنتجة للبترول. قام مجلس الإعمار بمشاريع كثيرة غيرت في البنية التحتية للاقتصاد العراقي، والتي لو استمرت لأصبح العراق في عداد الدول الصناعية الحديثة مثل كوريا الجنوبية والبرازيل.
لم تكن المعارضة العراقية آنذاك قادرة على فهم أهمية مجلس الإعمار في تطوير العراق فحسب، بل كانت تهاجمه حتى سمته ظلماً بپ"مجلس الاستعمار"! ولا يعني مثل هذا الهجوم سوى تخريب عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكان أن أول عمل قام به فؤاد الركابي وزير الإعمار، في حكومة 14 تموز، هو إلغاء مناقصات دولية، منها مشروع إنتاج المواد البتروكيماوية في البصرة، وذلك باستخدام الغاز الطبيعي، والذي كان يحرق هباءً، ولو تم ذلك المشروع لكان العراق من أهم مصدري تلك المواد في العالم. كذلك أن نظام التعليم في العهد الملكي في كل المراحل كان من أرقى الأنظمة، إن لم يكن أرقاها. فكلية الطب العراقية كانت الكلية الوحيدة في الشرق الأوسط المعترف بها في المملكة المتحدة. وخرجت سياسة التعليم، والبعثات إلى الخارج أجيالاً من المهندسين، والأطباء، والمثقفين، والعلماء ما لم يحصل مثله في البلاد الأخرى من المنطقة.
وباستثناء الريف الذي كان محكوماً بنظام العشائر، الذي جعل من شيوخها حكاماً فعليين في مناطقهم، إلا أن القضاء في المدن كان يتمتع باستقلالية، وكفاية، واحترام لأحكام القانون، مما تهدم في الأنظمة التي تلت العهد الملكي. وعلى صعيد آخر، حقق ذلك العهد خطوات هائلة في تطوير الحياة الثقافية، من الأدب والشعر، والفنون والموسيقى والرسم. ظهر جواد سليم، الذي أعطى فن الرسم والنحت في العراق أبعاداً لم تكن موجودة في المنطقة. وظهر الشعر الحديث عبر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وظهر أدب القصة من خلال فؤاد التكرلي وعبدالملك نوري، والثورة التقنية في عزف العود بقيادة محيي الدين حيدر، وظهور أول فرقة سمفونية في المنطقة.
لم يعط الفكر العراقي المعارض للعهد الملكي تلك الإنجازات حقها، بل كان ينظر سلباً كل ما كانت تقوم به الحكومة. وكانت تطلق الألقاب والأسماء على أي مشروع من مشاريع مجلس الإعمار، على أنها في خدمة أغراض حلف بغداد، وغير ذلك من السخف الذي يكشف عن العقلية السلبية التخريبية للفكر السياسي العراقي آنذاك.
بداية، يجدر القول انه ليس القصد من الكتابة حول كامل الجادرجي هو التعرض لشخصه، فهو كان من دون منازع زعيماً للمعارضة السياسية في العهد الملكي، وصاحب جريدة"الأهالي"، التي حظيت بإقبال شديد من الطبقات المثقفة آنذاك. كما أنه قدم خدمة كبيرة في التوثيق الفوتوغرافي للعراق، فله مساهمة كبيرة في التاريخ العراقي مستعيناً بقدرته الفائقة في فن التصوير. إنما القصد هو إيضاح الفجوة بين رفعه شعارات الديموقراطية، والدعوة لها من جهة، وبين سلوكه الفعلي في العمل السياسي، والعلاقة مع الطرف الآخر، سواء كان داخل حزبه أو مع السلطة، مما حال دون تطور الفكر الديموقراطي للحزب من أجل ديمومته في الحياة السياسية العراقية.
يتكلم الساسة العراقيون في الديموقراطية من دون أن يكونوا ديموقراطيين، فهناك ميل الى التسلط الفردي في داخل التجمع السياسي. نجح كامل الجادرجي في ايجاد هالة لاسمه كممثل للفكر الديموقراطي في العراق، على رغم سلوكه اللاديموقراطي داخل الحزب. حال هذا السلوك دون نمو التربية الديموقراطية فيه، وأدى إلى انهيار الحزب الوطني الديموقراطي بانقسامات حادة، فلم يتمكن من البقاء بعده. لقد مات الحزب بمجرد موت الجادرجي، وأكثر من هذا بدأ موت الحزب في حياة رئيسه، إثر ثورة تموز 1958، بسبب تلك الانقسامات وتسلط رئيسه كما سيرد بحثه لاحقاً.
ينتمي الجادرجي إلى عائلة أرستقراطية، اقطعها النظام العثماني أراضي زراعية مهمة، جعلت منه إقطاعياً لا يعيش في إقطاعيته، أي المالك الغائب، مما يدر عليه ريعاً واسعاً يمكنه من حياة فارهة، من دون أن يعمل لمعيشته، فهو لم يعش بأي جهد مهني على رغم حيازته شهادة في الحقوق. يعطينا نجله رفعت الجادرجي في كتابه"صورة أب"، صورة عن الملكية الزراعية للعائلة والخسارة التي لحقت بها نتيجة لتطبيق قانون الإصلاح الزراعي بعد 14 تموز، مشيراً إلى الإقرارات اللازمة التي تتعلق بپ250 قطعة من الأراضي، و تمثل ثروة طائلة صفحة 181. كما ورد في كتاب"كامل الجادرجي و دوره في الحياة السياسية العراقية"، تأليف الدكتور محمد عويد الدليمي، أن الجادرجي كان يملك 15 ألف دونم في الصويرة، أراضٍ زراعية للحنطة والشعير وللقطن، ويملك 600 دونم في الحلة لإنتاج التمرصفحة 35.
تجعل ملكية في هذا الحجم من الشخص إقطاعياً، وذا انتماء إلى وسط أرستقراطي مترفع، لا يقبل أن يخاطبه أحد من دون لقب بيك، ويرتبط بالقرابة أو المصاهرة مع عائلات أرستقراطية، تتحدر من أُصول تركية، يعيشون في معزل عن الشعب العراقي. يفسر حجم ملكية الجادرجي من الأرض الزراعة وعائديته إلى ذلك الوسط، مواقفه من أمور شتى، تتعلق بتغيير الأوضاع الاجتماعية بعد ثورة 14 تموز 1958.
بدأ الجادرجي حياته السياسية في ظل ياسين الهاشمي، رئيس حزب الإخاء، الذي كان يحيطه بعناية كبيرة، فبفضله أصبح الجادرجي نائباً عن لواء الدليم 1927، وكان أصغر النواب سناً، وبقي في البرلمان حتى 1930. وأخذ يتقرب من جماعة"الأهالي"، المكونة من المثقفين ذوي الثقافة الحديثة من خريجي الجامعات الأجنبية، أمثال عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وحسين جميل وعلي حيدر سليمان، الذين كانوا يحملون أفكاراً إصلاحية للبلد، من دون الانغماس في السياسة، واستغلالها لأغراض شخصية.
جاء الجادرجي بعد انضمامه إلى جماعة"الأهالي"بأحد الطامحين بالسياسة ومنتفعيها ومفسديها وهو حكمت سليمان. وهو كالجادرجي أتى من أُصول تربوية عثمانية. وبانضمام الشخصيتين إلى مجموعة"الأهالي"انقلب هذا التجمع الفكري إلى مؤسسة ذات طموحات سياسية، مما أدى إلى تشكيل جمعية سرية للعمل السياسي، انضم إليها جعفر أبو التمن. وكان للمنظمة صلة ببعض العسكريين. وهدفها بطبيعة الحال تغيير الأوضاع السياسية مذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني والديموقراطي، بيروت 1970.
كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.