اذا كان عنوان الافتتاح لفيلم"الصبي"الذي كان أول فيلم طويل حققه تشارلي شابلن يقول:"فيلم فيه ابتسامات، وربما فيه دموع أيضاً"، فإن أول النقاد الذين تحدثوا عن هذا الفيلم يوم عرضه، وافقوا تماماً على تلك العبارة، لكنهم استطردوا يقولون: يجب على أية حال محو كلمة"ربما"من هذا العنوان. فالحقيقة ان الدموع ماثلة في الفيلم من دون أي التباس، الى جانب الابتسامات التي تصل أحياناً الى حدود القهقهة. ولا بد من الاشارة هنا منذ الآن الى أن واحدة من السمات الأساسية لهذا الفيلم، الذي أسس في طريقه لنوع سينمائي لم يتوقف الفن السابع عن محاكاته على مدى تاريخه، تكمن في أن شابلن قد عرف كيف يمحي فيه جزئياً أمام"بطل"آخر في الفيلم، هو الصبي نفسه الذي يتحدث عنه العنوان. والحقيقة ان هذا الصبي أثار كل أنواع التعاطف والعواطف، بخاصة ان الطفل الذي لعب دوره، جاكي كوغان، كان من البراعة والشيطنة في الأداء، الى درجة انه سرعان ما صارت له شهرة شابلن نفسه... وهنا نفتح هلالين لنذكر ان تلك الشهرة لم تعد بالخير على الطفل، لاحقاً، اذ انه سرعان ما غرق في المآسي ثم في الفشل بعد الآخر، اذ اعتقد ان في امكانه ان يحلق بجناحيه بعد النجاح الذي أمنه له شابلن، فاختفى كحاضر ليظل حياً كماض... وهكذا، حتى وان ظل يمثل حتى آخر أيام حياته، فإن أحداً لم يعد للتنبه اليه... وحتى حين لعب دور العجوز الشرير، انكل فستر في"عائلة آدامز"... المهم أيضاً ان شابلن، بعدما رجحت كفة الطفل عليه في"الصبي"، عاد لاحقاً وعدّل الأمور متجنباً خوض تجربة جديدة تجعل لأي فيلم من أفلامه بطلاً مستقلاً ينافسه... باستثناء النساء اللواتي ارتبط حضورهن لديه، بوجوده في الفيلم، وصار ذلك الوجود محور وجودهن واهتمامهن، في"الصبي"اذاً، كانت الأمور على غير ذلك: سخر شابلن فيلمه وطاقته، وكل نشاطه وابداعه لخدمة الموضوع. والموضوع كان، وفي كل بساطة، أن ذلك المتشرد الذي كان صاره، انطلاقاً من عشرات الأفلام الصغيرة والقصيرة التي حققها وكتبها ومثّل فيها خلال العقد السابق من السنين، يجد نفسه فجأة، ومن دون ارادته، مسؤولاً عن طفل وجده مرمياً في الطريق. في بداية الأمر، لم يشعر بأية رغبة في حمل تلك المسؤولية ويحاول التخلص من الطفل... لكن ذلك يبدو مستحيلاً، على رغم كل الحيل التي يقوم بها. وتكون النتيجة ان الطفل يلتصق به، الى درجة انه هو نفسه خلال المرحلة التالية، لا يعود ، لا قادراً على ولا راغباً في ، الافتراق عن الصبي... ولا سيما حين يبدأ المجتمع، متمثلاً بالسلطة وبالأهل، محاولات مستميتة لانتزاع الصبي من بين يدي المتشرد. والحال ان جزءاً كبيراً من زمن الفيلم، يتمحور حول المحاولات التي تهدف الى انتزاع الصبي، ومحاولات المتشرد ، ثم الطفل معه ، للافلات من تلك المحاولات. وفي الطريق الى ذلك يعيش المتشرد والطفل حياتهما ، التي هي في الأصل حياة المتشرد ، ويتشاركان في اكتساب الرزق بأغرب الطرق وأكثرها مدعاة للدهشة. يصبحان شخصاً واحداً في جسدين... ويبدو واضحاً في كل لحظة انه بمقدار ما كان شابلن، ككاتب ومخرج، يبدع في رسم شخصية الطفل مضفياً عليها أبعادها، بمقدار ما كان الطفل يمثل، حقاً، بتلقائية وبراعة مجتذباً أفئدة المتفرجين... ما شكل خطراً حقيقياً كما أشرنا، على شابلن نفسه. غير ان قيمة الفيلم الأساسية والتي جعلته حياً حتى اليوم، بل، ربما جعلت منه واحداً من أجمل أفلام تشارلي شابلن وأقواها، بعيداً من حكاية التمثيل والمنافسة على احتلال المكانة الأولى في الفيلم بين شابلن وبطله الصغير، تكمن في"الصبي"نفسه كعمل فني انساني رفيع المستوى، وتحديداً في ذلك الاجماع المبكر حول فكرة ان الفيلم عرف كيف يزاوج بين الضحك والبكاء... ما يعني، بكل بساطة، أنه عرف كيف يتعاطى مع العواطف، وكيف يخلق، بين الصالات العتمة، والشاشة، علاقات لم تكن السينما قد عرفت كيف تقيمها قبل ذلك... ولم يكن هذا، كل الفيلم على أية حال، ذلك ان شابلن عرف كيف يزرع في هذا الفيلم، كل أفكاره وآرائه في المجتمع والفن والصداقة، والانقسامات الطبقية... عرف كيف يشرح ويفسر ويدين، الى درجة ان أي باحث في التراتبية الطبقية، معكوسة حتماً في التصرفات والمسالك الأخلاقية يمكنه أن يستعين بما في هذا الفيلم لدعم نظريته، ولا سيما في مجال فكرة السلطة، ومن يقبض على هذه السلطة. وفي هذا الاطار، عرف شابلن كيف يرسم صورة ذكية وواضحة، حتى لأساليب مقاومة ممكنة في وجه ظلم المجتمع للمسحوقين فيه، كما للنفاق الاجتماعي. ولم يكن هذا جديداً على شابلن، اذ نعرف ان مثل تلك الأفكار كان عبر عنها في الكثير من شرائطه القصيرة، ولا سيما مثلاً في"حياة كلب"الذي يمكن اعتباره ارهاصاً ب"الصبي"... اذ انه في هذا الأخير، ابدل كلب الفيلم السابق بالصبي، جاعلاً منه في شكل فيه رمزية الكلب نفسها في الفيلم السابق وثروته الوحيدة، وسلاحه في مقاومة المجتمع... وشابلن هنا، يصور لنا متشرده شارلو، وهو ينتفض أساساً ضد ذلك المجتمع، وتحديداً كأن المجتمع أفاق فجأة، ليحاول ان ينتزع منه الثروة الوحيدة والسلاح الوحيد، اللذين يساعدانه على تحمل العيش ومقاومة تراتبية اجتماعية لا تكتفي بأن تدفعه دائماً الى القاع، بائساً اعزل من كل سلاح، بل تريده ألا يقاوم. ومن هنا، فإن الفيلم يصبح فيلماً عن المقاومة: مقاومة المتشرد لرجال الشرطة، لقبضايات الحي، لموظفي الانعاش الاجتماعي، الذين على تفاوت أساليبهم و"وظيفتهم"في المجتمع، يتطلعون دائماً الى تبرير وجودهم من طريق ابقاء الضعيف ضعيفاً والقوي ، الذي يمثلونه في شكل أو في آخر ، قوياً. ومن هنا يصبح واضحاً لدى المتفرجين كيف ان"النضال الملحمي"، بحسب الناقد جان ميتري ، الذي يخوضه تشارلي شابلن، عبر متشرده وبمشاركة حاسمة من الصبي، ضد المجتمع، بمكوناته الكثيرة، لا يعود نضالاً مضحكاً مثيراً للشفقة يطلب من المتفرجين التماهي مع خائضيه، بل بالعكس يصبح نضالاً اجتماعياً حقيقياً يخوضه البائسان، الكبير والصغير، باسم قطاعات عريضة من المتفرجين. ومن الواضح ان شابلن حدد في هذا الفيلم طريقه، التي ستصبح أكثر وضوحاً، فيلماً بعد فيلم، حتى وان كانت تلك الطريق ظلت معبّدة بالكوميديا و"القفشات"وما شابه. وكان من الواضح ان هذه الطريق، هي التي ستثير في وجه شابلن نقمة حراس المجتمع القويم، اذ تدخل في عمق الأمور وفي عمق ما هو سائد. ومن هنا انتفاض أولئك الحراس،"الصائبين سياسياً"بحسب تعبير سيسود لاحقاً طبعاً، ومضايقتهم لشابلن، متذرعين بما هو أقل خطورة مما في "الصبي": بالمكشوف والمزعوم من مواقف سياسية هدامة، برزت مثلاً في"الأزمنة الحديثة". حقق تشارلي شابلن"الصبي"في العام 1921، فيلماً صامتاً ، بالطبع -، لكنه أتى فيلماً صاخباً، صارخاً... وكان شابلن في ذلك الحين وصل الى ذروة مكانته كواحد من كبار مبدعي فن الهزل في السينما، بل فن السينما عموماً، ونعرف ان مسار شابلن 1889 - 1977 السينمائي قد تواصل أكثر من خمسين عاماً، ووسمته أفلام/ علامات، كان"الصبي"واحداً منها... ولكن أيضاً كان هناك:"اضواء المسرح"و"اضواء المدينة"و"مسيو فردو"و"الديكتاتور"و"الهجمة على الذهب"و"السيرك" و"ملك في نيويورك" وغيرها من روائع من الصعب تصور كيف كان لفن السينما أن يكون من دونها.