عشرة أعوام من البحث و814 صفحة يتضمنها كتاب"ماو: الحكاية المجهولة"لمؤلفيه يونغ تشانغ وجون هاليداي - منشورات جوناثان كيب - 2005 حولت أنبل مقاتل إلى أسوأ قاتل، وشخصاً كرس حياته لقضية الفلاحين إلى عدو وكاره عنيد لهم. لم تكن المسيرة الكبرى التي كانت رمزاً لبطولة ماو تسي تونغ غير اتفاق بين تشان كاي تشيك زعيم القوميين الصينيين وبين ستالين. فما حدث هو أن الأول لم يشأ القضاء على الحمر لأنه أراد أن يشغلهم بحرب يخوضونها مع أمراء الحرب في الريف نيابة عنه، وكذلك لأن ستالين ساومه على حياة ولده الموجود لديه كثمن لتخفيف حصاره عن الشيوعيين. لهذه الأسباب فقط قام تشيك بخلق ثغرة مصطنعة نفذ منها الحمر المحاصرون. أما الثورة الثقافية فلم تكن سوى أعظم عملية تطهير شهدها التاريخ. ولم يكن الرجل محرراً للصين البالغ عدد سكانها آنذاك 600 مليون نسمة، بل كان قاتلاً أجهز على حياة 70 مليون نسمة موزعين على الشكل الآتي: 38 مليوناً في سنوات المجاعة في الأعوام 1958 - 1961، بعد القفزة الكبرى، حيث كان الغذاء يصدر إلى الخارج لاستيراد تكنولوجيا صناعية، عندما كانت العائلة تتسلم 1200وحدة حرارية يومياً، وهي نسبة تقل عما كان يتسلمه نزلاء معسكرات الاعتقال النازية. 27 مليوناً في السجون. أما الخمسة ملايين المتبقية فقد"نفقت"في الثورة الثقافية. من يقرأ هذا الكتاب سيفكر بكل أولئك الذين آمنوا بهذا الزعيم. إنني أفكر الآن بجان بول سارتر وهو ينتظر خروج عمال معمل رينو كي، يقف أمامهم على صندوق مقلوب يبشرهم بالجنة الموعودة تحت أقدام الفكر المأوي. أفكر في مقاتلي الدرب المضيء وهم يتقدمون نحو حتفهم بسرور، متعجلين الشهادة كي تتحول دماؤهم في ما بعد إلى سماد سينبت يوماً حديقة تتفتح فيها زهرات عدة من أزهار ماو المئة. من النادر أن تجد كتاباً مليئاً بالحقائق والتفصيلات المضجرة يحتل حال صدوره المرتبة الأولى في قائمة المبيعات، بيد أن هذا الكتاب حقق ذلك. إنه سيرة جديدة عن زعيم الصين ماو تسي تونغ. ولد في 26 كانون الأول ديسمبر 1893، لعائلة فلاحية في منطقة شوشان. أعطاه والده اسم تسي تونغ الذي يعني نحو شروق الشمس. أخذته أمه عند ولادته نحو صخرة قريبة، حيث غسل بماء نبغ قريب. فكانت له طباع شبيهة بصلابة تلك الصخرة. أحب أمه كثيراً لكنه كان يكره والده كرهاً أشبه بكره كافكا لوالده الذي كان يذكر ولده بنجاحه كأب وفشله كابن. كان في أوج سلطته يتذكره قائلاً:"لو كان والدي حياً الآن لأذقته المرار". لم يكن احتفاؤه بتدميره للثقافة التقليدية غير انتقام من والده الغائب. يزوجه والده وهو في عمر الرابعة عشرة. يذهب للدراسة في معهد إعداد المعلمين، حيث تعرف على مختلف الأفكار السياسية. لم يكن اختياره للفكر الماركسي نتاج قناعة أيديولوجية، بل غطاء يتناسب مع نزوعه الفطري نحو العنف والتمرد. ولم يكن شعاره الشهير"السلطة تأتي من فوهة البندقية"سوى موقفه الشخصي نحو الوجود: فرد محاصر وخائف يضع سلامته فوق كل اعتبار. عندما أكمل المعهد عام 1918، يقرر السفر إلى بكين، حيث يعمل موظفاً في المكتبة. في هذه الفترة بدأت تتكرس نظرته الأخلاقية نحو العالم: هو أولاً، مسؤوليته تجاه نفسه. هكذا كان يقول:"الشهرة بعد الموت ليست بذات بال، إنها ليست مهمة لي"، العالم المتناسق فكرة خاطئة"،"فترات السلم ليست سوى أوقات مضجرة"، الموت حال احتفالية:،"كيف نغير الصين؟ بتدميرها ثم إعادة بنائها ثانية". يعود بعد سنة إلى شانغهاي، حيث يلتقي هناك بمثقف يساري اسمه هين تو هوسياو. يتفقان على تأسيس حزب ثوري. يتزوج ثانية من ابنة أحد المدرسين. كان الكومنترن الذي كثف جهوده في تلك الفترة لتأسيس حزب شيوعي في الصين نجح في دفع مجموعة من الصينيين في عقد مؤتمر أول للحزب كان ماو أحد أعضائه الرئيسيين، إذ أصبح في ذلك المؤتمر كادراً محترفاً، بدأت موسكو بالضغط على الحزب الوليد كي يتعاون مع الحزب القومي الذي كان يتزعمه سن يات سن القومي. رفضت الغالبية ذلك وتطوع ماو بالقبول. أدى تعاونه المفرط مع الحزب القومي إلى فقدان الحزب لاستقلاليته، ففقد موقعه القيادي وتم إقصاؤه من اللجنة المركزية عام 1925. انسحب إلى قريته مهزوماً. بدأ يهتم بالمسألة الفلاحية. انتشرت آنذاك انتفاضات فلاحية متعددة كتب عنها الكثير في الصحف. تمت إعادته ثانية إلى الحزب. تعرض الحزب القومي إلى اصطفاف جديد خرج منه شان كاي تشيك الذي تحول إلى عدو لدود للاتحاد السوفياتي. كان ذلك في عام 1927، حيث بلغ عمره 31 عاماً. يقرر الحزب تأسيس قوة مسلحة للسيطرة على السلطة. يصبح ماو عضواً في المكتب السياسي يقترح تنظيم انتفاضة فلاحية ويتم اختياره مسؤولاً عنها. وبدلاً من القيام بانتفاضة فلاحية يتوجه نحو جبال وينجياشي القريبة من شانغشاي مع 1500 من أتباعه تقلصوا إلى 600 بعد أن فتك المرض بغالبيتهم. أصبح ماو في هذه الجبار أشبه بأمير حرب يعيش على أتاوات من الفلاحين. تحول الخوف على نفسه، في هذه الفترة، إلى بارانويا ستلاحقه طوال حياته. يقوم الحزب في هذه الأثناء بانتفاضة فاشلة يضطر معها آلاف الشيوعيين إلى الالتجاء إلى معاقل ماو الذي يستقبلهم كمنتصر. يعقد مؤتمراً جديداً يختار بنفسه لجنته المركزية، واضعاً نفسه في رئاستها. يعترف الاتحاد السوفياتي بالقوة الجديدة المطابقة أفكارها للمواصفات الستالينية: قوة طليعية تحت إمرة قائد مؤمن بأفكار البلاشفة. يضع الحزب والكومنترن كل بيضهم في سلة ماو الذي يشرع بتوسيع مناطق نفوذه إزاء قوات تشيك التي سيطرت تقريباً على معظم مساحات الصين. بانتهاء عام 1930، يصبح ماو الشخص الأكثر شهرة في الصين. يبدأ بتوسيع مصادر دخله عن طريق المتاجرة بالأفيون. ينجح في الخروج من حصار قوات تشيك بفضل ستالين الذي استخدم ابن تشيك لفك الحصار. ظلت القوات القومية تطارده. تقع زوجته في قبضة القوات المعادية التي تطلب منها البراءة منه لكنها ترفض ذلك فيتم إعدامها. يتزوج من امرأة في الحملة سرعان ما تفقد عقلها عندما يفرض عليها التخلي عن ولديها في المسيرة. لم يكن لديه أي اهتمام بمصير زوجاته وأولاده. فهو لم يسفح دمعة واحدة على ابنه الذي قتل في الحرب الكورية. فقدانه لأخيه. وزوجاته وأولاده جعلته لا يبالي بمعاناة الآخرين. كان شقاء الأغيار وسيلة للسيطرة عليهم. كان يتخلص من الأشخاص عندما تنتفي حاجته إليهم، كما تطرح الثمرة الفاسدة، لكنه يعود فيستطيب مذاقهم عند الحاجة. كان معجباً بالحكايات الشعبية عن المكر، البلف، المخاتلة. تتميز السلطة لديه بأقصى درجات البذخ والبساطة. كان، وهو في قمة السلطة، يقضي معظم أوقاته مضطجعاً بتكاسل على ضفة بحيرته الخاصة بملابس السباحة ولأيام أحياناً، يأكل غذاء دسماً ومكثراً من شرب الشاي، يقضي لياليه مع فتيات يتم اختيارهن له بعناية. يكره الاستحمام. فهو لم يغتسل طوال 25 عاماً حتى وفاته. كان يكتفي بشطف جسده بفوط مبلولة بماء حار يقوم بها خدمه. كان يعيش في عشرات المساكن التي بنيت بتصميم خاص روعيت في بنائها متطلبات الأمن المبالغ فيها بسبب بارانويا شديدة أمسكت بتلابيبه حتى مماته تخلد"الليبيدو"لديه إلى الخمود في أوقات الهدوء ويتعذر على أية بهجة أن تستثيرها قدر المعارك والانتصارات. في سنة 1962 ينعقد مؤتمر الحزب الذي حضره 7000 مندوب. يقف ليو تشاوتشي الرجل الثاني في الحزب كي يعطي تفصيلات عن حجم الدمار في البلاد. يستمع إليه ماو بسيطرة مثالية على النفس وصبر لا يتعجل فيه. فهو يعرف أن المآل الأخير سيعود إليه. مشاعر الجميع مهزوزة باستثنائه. خرج وقد شحذ الغيظ حواسه، فقام بإخراج مسرحية جديدة: الثورة الثقافية. لم تكن هذه الثورة غير أكبر عملية انتقام وتطهير شهدها التاريخ. ولم تكن أعمالاً قام بها الطلاب المتوجهون نحو الريف، بل عمليات تصفية أسهمت بها سرايا سرية أجهزت على حياة الملايين. في مركز هذا الاحتفال كانت شخصية ليو تشاوتشي الذي أنزل به ثأر شخصي. أحضرت زوجته بعد اتهامها بالعمالة لأميركا. كان ليو شجاعاً أمام خصومه من الحرس الأحمر الذين انهالوا على رأسه بالكتاب الأحمر. انتهت مسرحية تعذيبه بفقدانه لعقله. فبات ينظف أسنانه بالمشط، ويلبس الجوارب على الحذاء، والملابس الداخلية على السروال. وعندما مات تم حرقه تحت اسم آخر. لا يوجد جدول أعمال لديه، بل يخضع برنامجه لارتجالات اللحظة الحاضرة. لا أحد يعرف نواياه الفعلية. ففي الوقت الذي يأمر بتدريس اللغة الروسية في عموم الصين كان يتعلم اللغة الإنكليزية سراً. يعتبر روسيا أكبر تهديد لبلاده مع أنه وقع معها معاهدة صداقة. بطانته القريبة راقصات يقمن مقام السكرتيرات. ولم يكن يحق لزوجته الأخيرة قائدة عصابة الأربعة الدخول إليه إلا بعد موافقة محظيته السكرتيرة. حتى انها وصفت نفسها بكلب ماو النابح. عندما فقد قدرته على النطق آخر أيامه. بات تصريف أمور الدولة حكراً على سكرتيرته القادرة على حل رموز تمتماته. كانت آخر شفرة قامت بحل رموزها هي تمتمات أطلقتها شفتاه قبل موته:"هل هناك من أمل؟". هناك بديهة متعارف عليها لدى كتاب السيرة الذاتية: حاذر أن تكتب عن شخصياتك وفق مبدأ أحب وأكتب أو أكره وأكتب. من لا يؤمن بهذه القاعدة سيجد أن نجاح ماو في الوصول إلى أعلى سلطة كان سببه إجادته للتآمر ولأنه كان قاتلاً متعطشاً للدماء. هذا التفسير هو نفسي إرادوي شديد السذاجة. فالأحداث التاريخية الكبرى يسهم في خلقها أشخاص"يصنعون تاريخهم بيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم... بل في ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم من الزمن الماضي"، هكذا يقول ماركس في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت. القول إن تاريخ الصين صنعه ماو على هواه يعني أنه قام بصنع الأحداث بالطريقة نفسها التي يرتب بها ساحر بارع الأحداث وفقما لم تنبئه به كرته الزجاجية. ما قام به ماو، في هذا الكتاب، هو أنه صنع تاريخ هذه القارة الفسيحة على هواه... من يقرأ الكتاب سيعاني من إجهاد عصبي من كثرة ظهوره وقد ركبه جنون الاحتفاظ بالسلطة من دون أن يكون هناك تهديد جدي لها. في كل منعطف هناك ماو: ماو وغيظه، ماو ونساؤه، ماو وستالين. لماذا انتصر ماو؟ الإرهاب لا يكفي بمفرده لإعطاء جواب. الأهم ليس ما فعله ماو، بل كيف أضحى ذلك ممكناً؟ الكتابة عن الشخصيات التاريخية العظيمة يجب أن تبتدئ من حالاتهم الذهنية: لماذا فعلوا ما فعلوه بهذه الطريقة وليس بأخرى. القول إن ماو وغد قادر على ارتكاب الفظاعات بمقاسات ضخمة لا يعني أنه لم يكن قادراً على اجتراح أفعال معاكسة في الاتجاه، أياً كانت درجة الرحمة فيها. لم يقل أحد إن الشخصيات التي غيرت التاريخ، بدءاً من جنكيز خان وانتهاء بهتلر، لم يكن يوجد في سلوكها ملمح لحنان، أياً كانت درجته وشكله. فالموت والخراب الذي ألحقه صدام حسين بشعبه وبلده لم يكن ليمنعه من إظهار لمسات من حنان مبالغ به تجلت في بنائه بيوت لصحافيين في بلد مجاور، أو لفتات كرم عز مثيلها عندما منح حسن هبري مليون دولار نقداً، أو توزيعه لكوبونات النفط على مرتزقة وبنبل لا يتلاءم مع شعب تحول إلى متسول في كل مكان. علينا أن نؤنسن الطغاة كي نفهمهم. وعلى الشعوب، كي تفهم واقعها الحالي أن تتساءل: لماذا ظهر بيننا شخص كهذا؟ ولماذا قبلنا بذلك؟ كي نفهم الأحداث التاريخية الكبرى علينا النأي عن تفسيرات تختزل الأحداث الكبرى إلى ساحة يظهر فيها البطل مواهبه. يتعين درس مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة وأين التقت؟ وأين اختلفت، ما الحتمي في ما حدث؟ وكم أسهم فيه الإرهاب؟ ثم ما نسبة الحظ؟ الحظ طبعاً. إن لم نكن قادرين على الإجابة على هذه الأسئلة فسينهض لا مناص سؤال آخر: كيف تسنى لشخصية هزيلة، لا تفتأ تهرع إلى الإرهاب كلما طرق طارق الباب، أن تحكم بلداً عظيماً كالصين. لم يشفع لكاتبي الكتاب المستوى المتقدم الذي حققته الصين بفضل القاعدة التي بنيت في عهد ماو وبتكاليف بشرية ضخمة قد لا تبرر، بحسب اعتقادي، ثمن ذلك التقدم. ما يحاول الكاتبان قوله إن الصراع بين الاستبداد الشرقي والديموقراطية الغربية مآله فشل الأول بسب ضخامة تلك التكاليف، من دون أن يدور بخلدهما أن المجتمع الرأسمالي الذي كشف ماركس عن سيرورة تطوره، بما أسماه التراكم البدائي لرأس المال، لم يكن عملاً بريئاً تمت فيه مراعاة لشعور الضحايا. كاتب عراقي.