رحلة أخيرة من النجمة الى سان جورج كما يرويها "ولا يرويها" تقرير ميليس

غادر الموكب منطقة ساحة النجمة وعبر شارع الأحدب ثم شارع فوش. عند تقاطع شارع فوش مع شارع الميناء تأخر الموكب دقائق بسبب الازدحام... استدار الموكب يساراً وأخذ الطريق البحري باتجاه عين المريسة وفندق سان جورج". من الفقرة 136 في"تقرير ميليس"
ساحة النجمة أو ساحة الايتوال أو ساحة البرلمان يتوسطها برج يحمل ساعة العبد تقدمة ميشال عبد لمدينة بيروت سنة 1933. الساعة المذكورة باتت مشهورة بسبب الفضائيات. ليلاً تشبه قمراً كامل الاستدارة. الميناء أبيض بأرقام رومانية سود. والعقربان - عقرب طويل وعقرب قصير - يتحركان. هل ترى العين البشرية حركة العقربين؟
شارع الأحدب هو شارع حسين الأحدب. ليس شارعاً طويلاً. تقطعه ماشياً في ثوانٍ. عن يسارك كاليري في واجهتها لوحات. بعدها"مطعم البلد". مطعم يقدم مأكولات لبنانية ويحتل قسماً من الطبقة السفلية لبناية كريستال 1931. اسم البناية منقوش في الرخام الذي يعلو المدخل. التاريخ منقوش أيضاً. بعد ذلك يأتي"مطعم زمن". هذا كان"بيت السلمون"قبل وقتٍ. تغيّر. عن يمينك بناية توشك أن تكتمل ثم أخرى اكتملت. في الأسفل"مكسرات الرفاعي"وبعده Second Cup. مقهى حديث أميركي الطراز تقدر وأنت قاعد فيه أن ترى - عبر الزجاج الواسع - جامعين. بعد 14 شباط فبراير 2005 بشهور افتتح في قلب هذا المبنى ذاته فندق جديد:"شقق الإيتوال". من هنا لا ترى جامعين فقط، ترى النوافير أيضاً، وترى مبنى البلدية العثماني الطراز الواقف في النقطة ذاتها منذ سنة 1928.
عن يمينك جامع السراي جامع الأمير منصور عساف. عن يسارك الجامع العمري الكبير. هناك زقاق ضيق يربط شارع حسين الأحدب بشارع الجامع العمري الكبير. موقع الكتروني الماني نقل قبل"تقرير ميليس"بوقت قصير ان الموكب السيّار الذي ترك ساحة النجمة عند الساعة الواحدة إلا عشر دقائق ظهيرة الاثنين 14 شباط لم يأخذ طريق الأحدب بل طريق الجامع العمري. هذان الطريقان الوحيدان بين ساحة النجمة البرلمان وبين شارع ويغان سوق الفشخة في بيروت القرن التاسع عشر.
بحسب تقرير ميليس: انحدر الموكب في شارع الأحدب - وليس في شارع الجامع العمري حيث مطعم بارلمانتو - وقطع ويغان عرضياً وانحدر في فوش صوب البحر. لا يمكن أن تصل من الأحدب الى فوش إلا قاطعاً ويغان. هذه الشوارع كلّها مبلطة بالحجر البركاني الأسود: صباح الاثنين المذكور كانت السماء زرقاء صافية. الطقس لم يكن شديد البرد. لكنه لم يكن حاراً. شباط من شهور الشتاء. لسنا في الشتاء الآن.
يتأنى الموكب لحظة قبل أن يقطع ويغان عرضياً الى فوش. ويغان شارع غزير التيار. في هذه الثانية يمكن أن نرى نوافير البلدية على اليسار. كم نافورة؟ 11 نافورة ماء تتوزع على قوس. اذا كنت داخل سيارة قد لا تسمع خرير الماء. أمام النوافير حوض تراب نصف دائري تتوزعه نباتات وزهور وأشجار صغيرة. السماء زرقاء ساطعة في نوافذ مبنى البلدية. مبنى بثلاث طبقات أحرقته الحرب الطويلة 1975 - 1990 ثم رُمم ورجع جديداً أصفر بعد الحرب. عن اليمين خمس أشجار أمام جامع السراي تتوهج بالزهور الصفر عند اقبال الربيع. ما زلنا في شباط. بعد أيام يحلّ آذار مارس وهذه الأشجار تشتعل بالزهور.
الموكب ينحدر في فوش. عن اليمين ورشة بنك الكويت. الرخصة أُخذت قبل سنة وتنتهي في 2008. خلال السنوات الآتية يرتفع هنا مبنى حديث ويخفي خلفه مبنى لم يُرمم بعد. بركة الماء عند مبنى"النهار"الزجاجي الأزرق لا تُرى من هنا. عن اليسار شوارع تتصل بأللنبي في الجانب الآخر. يوسف الرامي مسدود. سعد زغلول مفتوح من الجهتين. بنك بيروت عن اليمين ومحلات سبرنغفيلد وتمبرلاند. هذه العمارة احدى أجمل عمارات الوسط التجاري. شارع فوش ليس طويلاً. هذا كان سوق القطن في بيروت القرن الپ19. من ساحة الايتوال الى أسفل فوش لا تنتهي من تدخين سيجارة واحدة. أسفل الشارع: جامع الصديق. هذا كان جامع الدباغة في القرن التاسع عشر. مئذنته كانت خشباً. الجامع موجود هنا منذ قرون. مثل جامع السراي. مثل الجامع العمري. مثل جامع النوفرة جامع الأمير منذر التنوخي.
أسفل فوش، عن يسارك، بناية عالية المدخل تحمل تاريخاً: 1928. البنايات في هذه المنطقة، بين شارع الميناء وبين شارع الأمير بشير فوق ساحة البرلمان، ظهرت بين 1924 وپ1936 على انقاض بيروت العثمانية المدمرة. الانتداب الفرنسي ينفع؟ أحد الشوارع المتفرعة من فوش يحمل اسم الوالي العثماني الذي أمر بتوسيع أزقة بيروت القديمة الوالي عزمي بك. شارع آخر شارع المطران يصل فوش بأللنبي. اذا وقفت فيه ترى المنطاد الأصفر ? صباح الأحد 23 تشرين الأول أكتوبر 2005 - يرتفع في سماء بيروت، هناك، غرباً، في جوار أوتيل فينيسيا. من هنا لا ترى أوتيل فينيسيا. لكن من تقاطع فوش مع شارع الميناء تقدر أن ترى قمة فندق آخر:"فور سيزونز هوتيل"Four Seasons Hotel الذي لم يكتمل بعد.
عند هذا التقاطع تقاطع فوش - الميناء تأخر الموكب. لماذا تأخر؟ ميليس يقترح متابعة التحقيق في هذه النقطة. ما الذي أخّر الموكب المكون من 6 سيارات على هذا التقاطع؟ ماذا سبّب الازدحام؟ فقرة 139.
عند زاوية التقاطع المذكور ورشة بناء ضخمة:"مساكن فوش"Foch Residence. أمام الورشة لوحات خشب تحمل رسوماً. هذا مجمع سكني وتجاري يكتمل بعد عام أو عامين. توجد خريطة أيضاً. خريطة تقدمة سوليدير تظهر عليها ثمانية أرقام وثمانية مواقع توجز صورة الواجهة البحرية. الرقم 7 هو"مساكن فوش". الرقم 1 هو المارينا الغربية مرفأ اليخوت عند اطلال سان جورج. الرقم 8 هو المارينا الشرقية ميناء بيروت المجاور لبيال. الرقم 2 هو فندق فينيسيا. أرقام أخرى تدل الى فندق هيلتون كونراد الذي يبنى الآن، والى"بيروت تاور"والى فندق الحياة... هذه الأبراج ترتفع الآن على طول الطريق البحري بين هذا التقاطع وأوتيل مونرو. الموكب عليه أن يقطع الطريق من الرقم 7 فوش الى الرقم 2 فينيسيا ثم يكمل الطريق عبر كورنيش المنارة الى منطقة قريطم.
كيف تقطع الطريق من الرقم 7 الى الرقم 2؟ السيارات سريعة. تقطع هذه الطريق في دقيقة، في 3 دقائق أو أقل تقطعها. مع بعض الزحمة تقطعها في خمس دقائق. انطلق الموكب من ساحة الايتوال قبل الواحدة ظهراً بعشر دقائق. وصل المنعطف عند أطلال سان جورج بعد ست دقائق ونصف. في تلك اللحظة دوى الانفجار.
لكن قبل تلك اللحظة: من تقاطع فوش - الميناء حتى فندق سان جورج توجد طريق يجب أن نقطعها. هذه طريق البحر: تفصل مكب النورماندي عن ورشة بناء ضخمة تبدأ عند شارع أللنبي وتمتد على مساحة كبيرة الى ان تبلغ منطقة فينيسيا وسان جورج. مكب النورماندي يمتد من"بيال"والمارينا الشرقية الى ان يبلغ حدود مرفأ اليخوت والمارينا الغربية قبل سان جورج. ليس مكباً صغيراً. هذا المكب تُعالج نفاياته منذ سنوات. تضخم أثناء سنوات الحرب وتضخم بالردم في حقبة الإعمار الأولى. المفروض بحسب خطط سوليدير ان يتحول الى حديقة خضراء. يوم تكتمل أبراج الواجهة البحرية الفنادق والمجمعات التي تضم مكاتب ومطاعم ومتاجر وشققاً سكنية تظهر قبالة الأبراج - وراء الطريق البحرية - حديقة خضراء. الحديقة ستظهر كالجزيرة محاطة بأزرق البحر. من جهة مرفأ ومن جهة مرفأ. هذه الصورة ليست ابنة المستقبل البعيد. بعد عامين قد تظهر. بيروت تثق - ولا تثق - بالمجهول.
ورشة البناء الممتدة من باب ادريس الى سان جورج ليست ورشة عادية. وكالات أنباء تربط هذه الحركة العمرانية المتسارعة بارتفاع أسعار النفط أخيراً وبالاستثمارات الخليجية في وسط بيروت. الوافد الى المدينة يرتفع في منطاد Sky Gate الأصفر فيرى العمال كالنمل تحته يلبسون الخوذ الصفر والزرق ويشبكون قضبان الحديد. الأبراج بسرعة تبنى. الأرض حديد وباطون. السقف حديد وباطون. لكن الحيطان زجاج وبلاتينوم. أبراج خضر وأبراج زرق. في وادي أبو جميل تُرمم حارات قرميد بثلاث طبقات. أو تبنى من الأساسات على صورة حارات قديمة مندثرة. أذرع عملاقة صفر تغطي السماء. ترفع الحجارة والعمال والحديد وألواح الزجاج. لا تتعب. هذا يستمر منذ شهور. لم يتوقف. كل هذه التظاهرات والتفجيرات والخوف والترقب، والعمال يعملون.
من ساحة الايتوال الى الأحدب الى فوش الى الطريق البحري الى منعطف سان جورج أمام فندق فينيسيا. رحلة ليست طويلة. 6 دقائق ونصف تقريباً. اذا سلكتها ماشياً - والشمس قوية على رأسك - تتعب ويعرق قميصك. اذا ذهبت بالسيارة تتعب أقل. لكنك بالسيارة قد لا ترى الأشياء كما تراها وأنت تمشي. كيف تقطع الطريق من الرقم 7 الى الرقم 2؟ هل تصل؟ واذا وصلت ووقفت أمام هوة سوداء تُملأ بالرمل الأصفر، اذا وصلت ورأيت ماذا تصنع؟
الستائر البيضاء الحزينة تطير خارجة من نوافذ سان جورج المحطمة. حمائم وعصافير دوري تتقافز على الاسفلت، وبين أشجار زيتون ونخيل وصنوبر.
أعلى النخلات عناقيد بلح أحمر. هذه التشارين. قطعنا شباط منذ شهور بعيدة. بعيدة؟ لم نقطع كلّنا شباط. البعض بلغ هذا الخريف. والبعض لم يبلغ هذه النقطة.
كيف تقطع الطريق وتصل؟