ضاحية"أولني سو - بوا"، أكبر بلديات مقاطعة"سين سان دونيه"، في شمال باريس: هنا، بمحاذاة مركز"بارينور"التجاري، يقع فندق صغير لم يكن أحد ينتبه إليه من قبل. لكنه اليوم بات أشهر فندق في ضواحي باريس الشمالية، وصار يُلقّب تهكماً ب"فندق فلسطين"تيمّناً بالفندق البغدادي الشهير الذي يؤوي مراسلي الحرب الأجانب منذ بدء الاحتلال. مع اشتعال انتفاضة الضواحي الفرنسية، حطت أشهر القنوات التلفزيونية الغربية رحالها في هذا الفندق الصغير. وهناك، ثبّتت ترسانتها التكنولوجية على السطح العلوي للعمارة، وصار"مراسلو الحرب"المنتدبون من"سي إن إن"و"فوكس نيوز"يبثّون من هنا، وعلى الهواء مباشرة، تقاريرهم ومراسلاتهم عن"الحرب الأهلية"الفرنسية كما يسمونها، بينما يتصاعد دخان الحرائق من"حي الثلاثة آلاف مسكن"المجاور، في خلفية الصورة... من يذكر هذا الحي الشعبي الأضخم والأكثر اكتظاظاً من كل أحياء الضواحي الباريسية؟ هنا صوّر ماتيو كاسوفيتش، في منتصف التسعينات، فيلمه الأشهر"الضغينة"La Haine ونال جائزة أحسن إخراج في مهرجان"كان"عام 1995. كان هذا العمل السينمائي أوّل من سلّط الضوء على"حياة الأحياء"في الضواحي الباريسية الفقيرة. وحاول فيه كاسوفيتش، المغرم بسينما عباس كياروستامي، أن يضاهي مدرسة المعلّم الإيراني الكبير وطريقته في محو الفوارق بين السينما الروائية والتوثيقية، فقام بتصوير فيلمه معتمداً فقط على شلة من الممثلين الهواة الذين انتقاهم من شباب الحي أصبح اثنان منهم اليوم نجمين عالمين، وهما فانسان كاسيل وسعيد طغماوي. من يرجع اليوم إلى"الضغينة"لا يصدّق أنه أُنجز قبل عقد. فالصورة القاتمة التي يرسمها عن مشكلات الفقر والتهميش والعنصرية التي يعاني منها شباب الضواحي، تبدو كأنها مستوحاة من وقائع الانتفاضة الحالية وأحداثها. فهذه المشكلات تولّد مخزوناً من الضغائن يفجّر مواجهات متكررة بين شباب الضواحي ورجال الشرطة، كثيراً ما تنتهي بإضرام النيران في السيارات والمباني العمومية وكل ما يرمز إلى الدولة... وعندما تصل الأمور إلى درجات قصوى من الاحتقان، تتدخل قوات مكافحة الشغب لتفريق المتظاهرين، ويستتب الأمن لأيام أو أسابيع قليلة، ثم لا تلبث لعبة القط والفأر ذاتها أن تنشب مجدداً بين الشبان ورجال الشرطة، وهكذا دواليك... ظاهرة غير جديدة الظاهرة إذاً ليست جديدة. فمخزون الضغائن هو عينه. ومشكلات العنصرية والفقر والبطالة التي يعاني منها شباب الضواحي واسعة الانتشار. فما الذي استجد بالضبط، لتتحوّل نيران الحرائق المحدودة والدورية، التي تعد"الرياضة الليلية المفضلة"لشباب الضواحي إلى إعصار جارف يهدّد بتقويض الأمن والسلم الاجتماعي، إلى درجة اضطرار السلطات الى إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول ليلاً في بلد"الحرية والعدالة والإخاء"! يسعى يزيد خرفي الذي هو أحد"الاخوة الكبار"الى لعب دور التهدئة وضبط الأمن في الأحياء. كان في شبابه أحد أقطاب حركة الشباب المهاجر في فرنسا خلال الثمانيات، حيث شارك أيضاً في أعمال عنف، وسجن بسببها آنذاك. ثم انضم إلى حركة المطالبة السياسية بحقوق الشباب المهاجر. وكان أحد منظمي المسيرة التاريخية للشباب العرب التي جابت مختلف المناطق الفرنسية، سيراً على الأقدام، في العام 1983. وهو اليوم يدير جمعية تربوية تعنى بشباب الضواحي. يقول يزيد:"عنف الأحياء ليس بالأمر الجديد، فهو موجود ومعروف منذ سنين طويلة. والسلطات لا تفعل الشيء الكثير لمعالجة جذوره ومسبّباته، بل تكتفي بالجراحة الموضعية أو بالمهدئات التي تنزع فتيل الاحتقان بشكل موقت. إلاّ أنّ المشكلات المتجذرة تبقى دوماً ذاتها، وبالتالي لا تلبث أن تشتعل ظواهر العنف مجدداً. لكن الشيء الجديد هو أن بعض الساسة اكتشفوا أنه يمكن استغلال"تيمة"العنف وانعدام الأمن لكسب الشعبية ونيل أصوات الناخبين المؤيدين لليمن المتطرف. وقد تمت محاولة اللعب بهذه النار مرة أولى، خلال انتخابات الرئاسة عام 2002، وكانت النتيجة - كما هو معروف - وصول المتطرف جان ماري لوبان إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وها هي التجربة تتكرر الآن، في ظل طموحات نيكولا ساركوزي الرئاسية. وهذا ما يفسر تصريحاته المستفزة التي وصف فيها شباب الضواحي ب"الحُثالات"وتوعّد بتنظيف أحيائهم بخراطيم المياه. أحدث المفكر فيليب سولرز صدمة قوية في صفوف الرأي العام الفرنسي بعد انتخابات الرئاسة لعام 2002، حين وصف هذا النوع من اللعب على المخاوف والاعتبارات الأمنية بأنه حالة مقلقة تفضح المخيلة المريضة لما سماه"فرنسا البيضاء المتفسّخة"! إلا أن البعض لم يستوعب ذلك الدرس. ما يفسّر التمادي في محاولة اللعب على الوتر الأمني، عبر شعارات وتصريحات مستفزة مثل تلك التي أطلقها وزير الداخلية الفرنسي، وكانت بمثابة الشرارة التي فجّرت الأحداث. لكن، كيف تطورت الأمور في ما بعد؟ ولماذا اتسعت رقعة العنف، ووصلت إلى الحد الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ في البلاد؟ لا أحد يدري بالضبط، فقد دبّ الحريق على حين غرة، وانتشر كالنار تحت الهشيم، إلى أن استيقظت فرنسا على وقع حريق ذي بعد وطني! الوزير ساركوزي وبعض السياسيين الآخرين عبروا عن مخاوف من أن تكون"أيد خفية"وراء انتفاضة شباب الضواحي العفوية. لكن سرعان ما اتّضح أن ذلك في غير محله. فما يحدث في الواقع هو أن الشباب الغاضبين يستخدمون، لتنسيق تحركاتهم والتواصل في ما بينهم، الوسائل المعتادة لديهم في حياتهم اليومية. فكليبات"الرّاب"ورسائل الهاتف القصيرة ودفاتر البلوغز على الإنترنت هي وسائل اتصالهم يضبطون عبرها حركاتهم، ومواعيد وأماكن تجمعهم. فمثلما اعتادوا التواعد ليالي السبت، للتجمع والسهر في"علب ليل"معينة، أصبحوا يتبادلون المواعيد بالطريقة ذاتها للتجمهر ليلاً لإحراق السيارات والاشتباك مع قوات الشرطة خلال الانتفاضة الحالية. المشكلة أن الشرطة ما زالت في عهد الآلة الكاتبة العتيقة، وبالتالي فهي لا تستطع مسايرة هذه"الثقافة الرقمية"التي هي بمثابة الروتين بالنسبة الى الشباب واستيعابها. وهذا هو السبب الحقيقي الذي جعل المحققين يقفون حائرين، غير قادرين على فهم أسلوب تواصل والشباب وتجمعهم، وبالتالي الاشتباه بوجود جهات خفية تحرّكهم! ولا يقتصر هذا الأمر على انتفاضة الضواحي فقط... ففي الربيع الماضي، وخلال الحركات الاحتجاجية التي نظّمها طلاب المدارس الثانوية، واجهت الشرطة المشكلة ذاتها، ووقفت حائرة أمام هذا الأسلوب الافتراضي في توزيع المناشير والتعليمات للمتظاهرين. ولأن الشرطة لم تر أحداً عند ركن الشارع يوزّع مناشير تدعو الى التظاهر، فقد اشتبهت بأن طلاب الثانويات هم أيضاً ضحية تلاعب من جهات خفية!