تفتتح الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت كتابها الجديد"فوق كف امرأة"، الصادر لدى وزارة الثقافة اليمنية، 2004، بما يمكن أن يشكل نظاماً داخلياً لمستوى القول الشعري ومدلولاته. فقد تعدد الصوت في طبقات من الحوار الداخلي المستمد تنوعه من تنوع الخارج: الآخر، حيث تتكيف معه الذات من خلال التحاور الضمني معه:"رفعتُ يدي في المحاضرة:/- لماذا سمّيت درجةَ السلم الأخيرة/: الدرجة الكاذبة؟/ أجاب حسن فتحي:/ - لأنها تفصل بين طابقين/ وفي المراجع:/ - الدرجة الكاذبة/ ما دامت قائمتها صفراً بدلاً من 15 سم". أفادت ناعوت من مونولوجها المتقطع هنا وهناك مما يمكن أن يقع من تبادل بين صفات الأنا وصفات الآخر. ولأنه ليس من الضرورة أن يكون المونولوج حواراً مباشراً مقسوماً بعناية ومنطق بين أكثر من ذات، فإن الاشارة الى الغائب تبدو استبطاناً لعالم داخلي تشكل في وقت ما:"مشجوجة الرأس/ تسمي الأشياء بأسماء جديدة/ لأن معجمها/- الذي جلبته من التيبت -/ لا يناسب سكان المدينة". ثم يصبح الغائب صانعاً للحدث المعبَّر عنه بالكلام والتخاطب المباشر:"تأمرين بشيء؟"لتجيب:"شكراً". تعكس ناعوت في كتابها الجديد مجموعة من الأصوات في قولها الشعري. فلم يظهر الانحياز إلى الصوغ وكذلك لم تبد التجربة الشعرية عملاً لغوياً صرفاً ولم تتكشف معنىً يتطلب استنطاقاً تأويلياً عالياً. بل عبّرت القصيدة عن امتداد أمين غير مشروط، أحياناً، بين الحياتي والشعري لتتحول معه اللغة قوةً جالبةً للتفاصيل والأشياء:"سأقوم من فوري/ لأعيد غسل يدي/ بعدما أنهي احتساء القهوة/ والحملقة في فنجان فارغ/ أو بالأحرى/ سيفرغ... منذ ساعة". وهنا في استدعاء آخر:"الخادمة/ ستجد من يدفع لها أكثر/ الهاتف: صامت منذ آذار - مارس/ الايميل: أغلقته مايكروسوفت". القوة التكوينية للأشياء لا تعبر بهدوء حال تفعيل قوتها تلك. فهي لا تترك النظام التعبيري مستقلاً كما لو أنه يمتلك المقدرة على الإفادة منها ومن ثم منع أثرها من رسم مكعّباته على النص. لتبدو التفاصيل آخذةً بقدر ما هي تمنح. هذا سببٌ من أسباب حصول الحالات التالية في التجارب الشعرية المنبثقة، مباشرة، من عملٍ خارج اللغة. ومن هذه الحالات: الحكاية والوصف، وسواها من حالات كالحال التي يختلف فيها شكل السطر الشعري من نص إلى آخر. ففي مرة يخضع التقطيع للحكاية فتكون الأسطر مجازية، على المستوى الفني. وفي مرة يكون التقطيع مرتبطاً بالنطق واكتمال المعنى، فتكون الأسطر حقيقية ومبرّرة. وهي الحال العامة الآن في كثير من تجارب النثر حيث يتنقل بين هذين التقطيعين السالفين. في حال الحكاية سنرى عند ناعوت نظام الحدث المتزامن والشخوص والحوار في أمكنة عدة مثلما سنقرأ هنا حدثاً مكتملاً يشار إليه كحدث تام من الماضي:"كنتُ صغيرة/ حين أخبرني جدي/ أن أحداً لن يراني/ وأني لن أرى أحداً/ قال عادل صادق ببصيرة نافذة:/ آلتكِ 110 فولت/ وتعمل على 220/ حاولي النوم/ كنتُ أصغر حين قال سيد عبدالخالق قبل أن يموت:/ يا نادين / انتقي مصحة تناسبكِ/ لتكتمل روايتي". وهنا نلمح كيف تركت الحكاية أثرها في التقطيع ليصير مجازياً من خارج افتراض موسيقي معين أو من دون أن تفترضه ضرورةٌ لغوية وإيقاعية. في المقابل نقرأ مقطعاً مختلفاً عن السابق. فعلى رغم اشتغاله في أثر حكائي معين ومكتمل الزمن سنجد كيف أن شيئاً من التدخل الجمالي يترك أثراً في الصوت والنطق ليكتمل السطر منهياً معناه:"هم/ لم يدعوا أن أباهم ديبلوماسي/ أو عالم أنثروبولوجي/ لكنهم أقسموا للرفاق/ أن العقاقير التي يصفها الوالد لمرضاه/ تنجّيهم من تقيّح الجلد/ لم يكذبوا/ إلا قليلاً". وفي نهاية هذه القصيدة نجد المشار إليه ذاته:"يا عمّ/ في لحظة كهذه/ تمنيتُ أن أكون رجلاً/ أعطيك حذائي/ وتهبني فسحة من وقتك/ لأجد مبرراً للحوار/ ربما كتبتُ فيك/ شيئاً أفضل". وفي نوعٍ من الاصطدام بين الصوت والصوت، وبين اشتغال وآخر، لا يخفى الانتصار الجمالي على سواه. فالمسعى باتجاه الشعر، وليكن الطريق الى الشيء مدعوماً من الشيء ذاته. سنقرأ هنا مقطعاً ينتصر للجمالي ويشكل فراغاً من جاذبية الحياتي باتجاه الرسم والأثر الشعريين:"القمر لا يحب الناس/ ولأنه غير مضيء/ لن أغامر وأطلق النار عليه/ سأقعد صامتة شاخصة/ في غرفة مفرغة الحوائط/ خافتةً/ وذات ستائر ثقيلة". إن"الحدث"الشعري هنا هو حدثٌ لغوي تمكن من ايجاد جاذبية مضادة للمسمى والحياتي. وكذلك يتضمن ابتكاره الخاص سواء للمدلول أو الصوغ الذي بدا بأفضل حالاته. والحقيقة أن هذا المستوى من الانتصار للجمالي يظهر أكثر من مرة في كتاب الشاعرة ويؤكد أن جذب الحكاية أمرٌ مرهون بالمكان الذي تشكل فيه. كما سنقرأ هنا جاذبية مضادة أخرى أفادت من الحصانة التي يهبها اللامعقول للعمل الشعري:"بعد أن يسقط كأس الحليب من الطاولة/ وقبل أن يمس الأرض/ ستكتمل اللوحة/ ويمضي الفتى وحيداً/ الفتى الذي تعلم الصمتَ/ وعلّمه". الاشارة الى التجاذبين اللذين يتقاسمان نص فاطمة ناعوت تنقل الكلام عن نص بعينه إلى حال المزاج الشعري السائدة والتي تتنقل بين هذين الجذبين: الجذب الخارجي، ممثلاً باليوميات، والجذب المضاد، ممثلاً بحصانة اللامعقول الشعري. حيث اكتسب اللامعقول صفته تلك من منشئه الجمالي الأول ذي الصلة الخفية مع المجاز. وإكساب المجاز صفة اللامعقول ينفع لجهة منح الأثر الشعري تقسيماً نظرياً داعماً وهو في حال التفسير أو التأويل. وإذا عدنا أولاً إلى العنوان الذي ارتضته المؤلفة لكتابها نجده معتمداً بادئ ذي بدء على اللامعقول حيث تمكن مداخلة"فوق كف امرأة"مع كل ما تتضمنه من تناص تاريخي يتمثل ب"فوق كف عفريت"! وربما لا يكون إلا أنه أوحى بذلك وتكفي المقدرة الإيحائية لمنح فضاء للتأويل وهي المقدرة ذاتها التي تشكل انحيازاً مضمراً للمجازي واللامعقول وفي النهاية للشعر. ولا شيء إلا الشعر يستمد معقوله من لا معقوله وحقيقته من مجازه وقيمتَه التي لم تكن في يوم خارج الأثر والانفعال الداخلي.