من غير أن نستطيع التأكيد أنها جزء من عالمه الشعري، ككل، تظهر مجموعةٌ من البنى المستترة الصانعة في قصائد الشاعر اللبناني جودت فخر الدين، في كتابه الذي صدر حديثاً "أربع قصائد الى اليمن". والكتاب من إصدارات وزارة الثقافة اليمنية 2004، من خلال المطبوعات التي تنشر مترافقةً مع فعاليات "صنعاء عاصمة للثقافة العربية"، والتي وضعت على جدول نشاطاتها طباعة عدد كبير من الكتب لهذا العام. المزاج العام في القصائد يعكس نوعاً من اللغة الداخلية التي آثرت توسيع المسافة بين الاسم والمسمى حتى ليغدو معها الفعل الشعري عملاً مجازياً كاملاً في إطار من التخييل والتوجس ومجانبة المعنى. قد تكمن البنية في الطبيعة، خصوصاً ان القصائد "...الى اليمن" فتأتي اللغة عبر استدانة غير قابلة للرد من نظام الطبيعة الذي وإن كانت سمته "الثبات" على رأي "اشبنجلر"، فمن سماته الضابطة الأخرى الغموض والامتداد: "لاحت أعاليهم وهم غابوا / كأن بيوتهم حجبٌ أقاموها على قمم الجبال / كأني في مهب للأساطير الوليدة / من أثار الرعب في هذي الوعور المشرئبة / ثم ذلّله / وألقى فوقه سحراً / فماجت هالةٌ مذهولةٌ فوق الشعاب". وتُلاحَظُ تقفيةٌ متكررةٌ لمفردة الجبال، نوعاً من الاستجابة غير المشروطة لرمزية الجبل المنطوية على القوة والغموض والاستعلاء والصمت، وكذلك الثبات، فكأنما الجبل تكثيفٌ متعمّد لمدلولات الطبيعة بالكامل. بنيةٌ ثانيةٌ تلغي الفصل المدرسي بين الطبيعي والانساني، استمراراً في أولوية الدور الممنوح للطبيعة كصانعة متمرّنة للمعنى، فيجيء التبادل ليس على خلفية أسطورية، وحسب، بل على خلفية استعادة المالك لملكيته: "لصنعاء وجهٌ قديم / ولكنه وجهنا / حين نمسح أوجهنا بالأكف، نراه / ونأبى له أن يغيب / لصنعاء وجهٌ قديم". وهي من الصور المبتكرة التي انتصرت للأثر الشعري بأقل كلفة ممكنة. في مكان ثانٍ تنجح "الكلفة الأقل" بتوليد معنى "مطروق"، الا انه استخدم، في غير مكان، بمستوى علمي. أمّا فخر الدين فقد ولّده شعرياً عبر سلاسة التنامي والعرض عندما أشار الى "البيوت" وسبب بنائها متلاصقةً: "بيوتٌ / تُرى، هل هو الخوفُ ألّف ما بينها / فتنادت الى بقعة في العراء / عساها إذا ازدحمت / أدركت نفسها في أمان مقيم". نعود فنكرر الاشارة الى اللغة الداخلية. فإضافة الى توسيعها المسافة بين الاسم والمسمى، نراها تستند الى حمولة ذات طابع ميثولوجي، من دون الاشارة العلنية المباشرة الى المصدر، كما يتطلب التعبير الشعري في أكثر الأحيان. فكتاب فخر الدين يوحي ببناه المستترة وينتج منها عبر تكوين داخل اللغة مما يجعلها - أي اللغة - نقطة التقاء المرئي باللامرئي، أو الواقعي بالأسطوري، هو ما دفعه الى الاشارة الى مرجعيتها الكامنة في لا وعيه: "عندما جئتُ من قبل / كانت رؤاي تشكل وجه المدى / وتشكل وجه الفضاء / وكانت تعيد اليّ المشاهد / عبر العصور التي رقدت، أو تداعت / لتطلق أصداءها في خطاي". والمقطع السابق من قصيدة "شرفة خائرة" التي تتألق فيها الايحائية والتنامي والأنا الداخلية العميقة. وإن كان من مجال للانتقال من الوصف الى الحكم يمكن القول ان "شرفة خائرة" أجمل قصيدة في الكتاب. هذا على رغم الوحدة الانفعالية والفنية التي تجمع القصائد بعضها بالبعض الآخر. كتاب "أربع قصائد الى اليمن" عبّر في كلفة أقل عن حضور الصورة في سياق، وعن التنامي الناشئ من تمهيد، وعن ضرورة التقاء ما لا يلتقي، في العادة، بين الطبيعي والانساني، الداخلي والخارجي من خلال تفعيل اللحظة الشعرية التي تتطلب، دائماً، المعرفة غير المباشرة للأشياء.