تنوي وزارة الثقافة العراقية نقل رفات الشاعرين الكبيرين محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي من دمشق - حيث أقاما سنواتهما الأخيرة وماتا هناك ودفنا، الى بغداد. فالجواهري كان اختار ان يدفن قريباً من مقام السيدة زينب، في حين أوصى البياتي ان يدفن قريباً من مقام الشيخ محيى الدين بن عربي، الذي طالما ردد اسمه واستهلم مواقفه ورؤاه الصوفية في عدد من قصائده. ولم تضف "الوزارة" إلى الخبر الذي نقل عنها أي تفاصيل أو اجراءات يمكن ان تعقب عملية "النقل هذه". ترى هل يكفي ان ينقل رفاتهما من حيث اختارا "المقام الأخير" الى مدينتهما الأم؟ أم ان في تفكير الوزارة وخطتها ما لم تعلن عنه، واقله بالنسبة لشاعرين كبيرين مثل الجواهري والبياتي هو ان تجعل من قبريهما، وهما من هما في تاريخ الشعر العربي في القرن العشرين، شيئاً آخر أكبر من مجرد قبرين لشاعرين ينتميان الى مدينة أرادت ان تسترد أبناءها، ولو كانوا عظاماً رميماً، بعد ان عاش كل منهما شطراً من حياته في الغربة، ومات في الغربة، ودفن هناك، حيث احتضنت الغربة قبره كما احتضنت حياته؟ نثير هذا السؤال لأننا، في العراق، لم نقدم شيئاً اكبر من هذا لمن سبقهما من الشعراء الذين كان لهم دور، أي دور، في الحياة الأدبية والفكرية والسياسية للعراق الحديث: فالرصافي الذي عاش حياته من أجل أن يرسي دعائم مجتمع حديث، وتفكير حديث، وكافح وناضل على المستويين السياسي والاجتماعي... مات ليستقر في قبر شبه مجهول. والزهاوي الذي كان أول المنادين بالحرية واتخاذ طريق العلم، وأول الداعين للتحرر من كل ما يعوق تقدم الانسان... لا يعرف الكثيرون قبره، ولا احد يُعنى بتراثه الفريد. ولبدر شاكر السياب، هو الآخر قبر بين القبور في مدينة البصرة... لم تمح معالمه بعد! واذا كانت تحققت التفاتة الى السياب، وثانية الى الرصافي، وثالثة الى الكاظمي، حيث حظي كل منهم بتمثال برونزي يقف أشبه بالغريب في ساحة من ساحات البصرة أو بغداد، لا تحمل قاعدته، حيث يقف، اكثر من الاسم وتاريخي الميلاد والوفاة، فإن آخرين، لا يقلون أهمية وحضوراً وأدواراً في تاريخ العراق الحديث، لم يعد لهم أثر يذكر لا على الأرض ولا في ذاكرة الأجيال. ما اريد قوله هنا، وادعو اليه هو: اننا اذا كنا نفكر جدياً بنقل رفات الشاعرين، الجواهري والبياتي، من دمشق الى بغداد، علينا ان نعد لذلك شيئاً اكبر من "عملية النقل" هذه. شيئاً يليق بتاريخ الشاعرين، ويمثل اعترافاً بما لهما من مكانة كبرى في تاريخنا الأدبي الحديث، وذلك في ان نحول قبريهما، وقبور كل الكبار في تاريخنا الثقافي والابداعي، الى متاحف تليق بهم، وتؤكد ما لهم من مكانة واهمية... وبأن نجعل من هذا المتحف متحفاً للشاعر: يضم ما تبقى من أوراقه، ووثائقه، وصوره، فضلاً عن مؤلفاته بكل طبعاتها، وما كتب عنه، مع "سيرة تفصيلية" تتابع مجريات حياته من ساعة الولادة الى يوم الوفاة... في مطلع سبعينات القرن الماضي، يوم وقف تمثال السياب في ساحة من ساحات مدينة البصرة، واقيم له مهرجان بهذه المناسبة - لم يتكرر بعدها! كانت النية، نية وزارة الثقافة، تتجه الى تحويل "دار جده" في قرية "جيكور" - وهو البيت الذي ولد فيه الشاعر وترعرع الى متحف للشاعر. وجرى العمل في هذا الاتجاه وتم إعمار أجزاء من البيت وإعادة سقوفه كما كانت في الأصل، ولكن العمل كان يجري ببطء ... حتى جاءت الثمانينات لتحمل الينا، بلداً وشعباً، أشأم ما حملت السنون: الحرب مع ايران، فتتحول بفعلها "قرية جيكور" والمناطق المحيطة بها الى "منطقة عسكرية" يطاولها القصف المدفعي الايراني في كل لحظة، كما طاول المدينة - الأم: البصرة، وانغرزت شظية في التمثال الذي ظلّ مع ذلك واقفاً.