انزاغي يختار بديل مالكوم أمام ناساف    بالتعاون مع 14 جهة حكومية.. طرح 21 مشروعا عبر منصة استطلاع لأخذ مرئيات العموم    برنامج "جودة المياه" يعمل على تحويل المياه المالحة الى مياه بجودة عالية بمعايير عالمية    الأحساء تحتضن منافسات الأمن السيبراني الوطنية    جمعية كتاب الرأي تحتفي بفيلم العوجا 17:47    الهيئة السعودية للتخصصات السعودية تعتمد برنامج طب التخدير في تجمع تبوك الصحي    هيئة التخصصات الصحية تُطلق برنامج متابعة التدريب TTS    أوروبا تشهد ارتفاعا في درجات الحرارة أسرع مرتين من بقية العالم    فعد الغامدي إنجاز غير مسبوق لأول سعودي يحصد تصنيف "الإيكاو" الدولي    ارتفاع أسعار الذهب    محافظة الفرشة بتهامة قحطان تحتفل باليوم الوطني 95 وسط حضور جماهيري واسع    وزارة الرياضة تصدر بيانًا حول أحداث مباراة العروبة والقادسية في كأس الملك    وطن شامخ ولا يهتز في ظل الملك سلمان    يوم لنا مشهود بعال المراقيب    قبل لقائه المرتقب مع نتنياهو.. ترمب: فرصة تاريخية للإنجاز في الشرق الأوسط    الديوان الملكي: وفاة عبطا بنت عبدالعزيز    الخريف يبدأ زيارة إلى هانوي.. تعزيز التعاون الصناعي والتعديني بين المملكة وفيتنام    مخالفو الصيد البحري في قبضة الأمن    "مع الأخضر قدام".. حملة جماهيرية لدعم المنتخب السعودي في الملحق الآسيوي    حائل تستضيف كأس الاتحاد السعودي للهجن للمرة الأولى    محطماً رقم رونالدو وهالاند.. كين أسرع لاعب يصل للمئوية    «هيئة الشورى» تحيل 20 موضوعاً للجان المتخصصة    خلال مشاركته في المؤتمر السعودي للقانون.. وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    22.8 مليار ريال استثمارات أجنبية جديدة    أول محمية ملكية سعودية ضمن برنامج اليونسكو    صعوبة بالغة لوصول الطواقم الطبية والمصابين.. دبابات إسرائيلية تتوغل في غزة    عسير: فرع هيئة الصحفيين ينظّم ندوة "الخطاب الإعلامي للوطن؛ بين ترسيخ الهوية وتعزيز القيم"    معرض الكتاب.. نافذة على عوالم لا تنتهي    أحمد السقا ينجو من الموت بمعجزة    أكد التزامها بالتنمية المستدامة.. وزير الخارجية: السعودية تترجم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لواقع ملموس    صالات النوادي والروائح المزعجة    ورقة إخلاء الطرف.. هل حياة المريض بلا قيمة؟    ترمب يجتمع بكبار القادة العسكريين    السودان: 14 مليار دولار خسائر القطاع الصحي بسبب الحرب    المتطوعون يشاركون في احتفالات أمانة الشرقية باليوم الوطني    السلامة الغذائية    الهوية الوطنية «بدل مفقود» عبر أبشر    تقنية البنات بالأحساء تطلق المسابقة الوطنية للأمن السيبراني    مزاد نادي الصقور السعودي 2025.. خدمات متكاملة تعزز الموروث وتدعم الطواريح    أكثر من 53 مليون قاصد للحرمين خلال ربيع الأول    نائب أمير الرياض يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    "الشؤون الإسلامية" تواصل جهودها التوعوية في الجعرانة    التحالف الإسلامي يطلق دورة تدريبية لتعزيز قدرات الكوادر اليمنية في مجال محاربة تمويل الإرهاب    حسام بن سعود يشارك منتسبي إمارة الباحة احتفالهم باليوم الوطني    نائب أمير الشرقية: مشروعات البيئة والمياه تحقق التنمية الشاملة والمستدامة    «سعود الطبية» تطلق ملتقى إدارة المشاريع والتحول الصحي    استشاري أورام: مستقبل القضاء على السرطان مشرق    الاتحاد يسرح بلان ويستنجد بخليفة    غداً .. الأهلي يواجه الدحيل القطري في دوري أبطال آسيا للنخبة    تمادي إسرائيل في حرب غزة ومقترح عماني يدعو لفرض العقوبات    منتدى فكر بجامعة جازان يناقش الوسطية والانتماء    الجوال أبرز مسببات الحوادث بالمدينة    مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير تحتفل باليوم الوطني ال95    وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    نائب أمير تبوك يكرّم مدير الشرطة السابق ويستقبل خلفه المعين حديثًا    بن شفلوت يرعى إحتفال اليوم الوطني في أحد رفيدة    الاهتمام بتطوير التجربة الإيمانية لضيوف الرحمن.. «الحج» : التنسيق مع ممثلي 60 دولة للموسم القادم    الملك عبدالعزيز الوحدة والمنهج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستشراق ومستقبل الدراسات العربية والاسلامية
نشر في الحياة يوم 12 - 06 - 2004

لا يمكن القول ان وفاة ماكسيم رودنسون، المستشرق الفرنسي المعروف، قبل أسبوعين، وعن سنٍ عالية، تشكّل نهاية مرحلة في حياة الاستشراق الفرنسي، فما كان الرجل من كبار الدارسين المؤثّرين، ودراساته باستثناء عمله عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، لم تعد مقروءة. لكن قبل رودنسون مات جاك بيرك، وهنري لاوست وكلود كاهن وبلاشير وشارل بللا... وعندما يموت الزوجان سوردل، وأندريه ميكيل، لا يبقى من جيل مستشرقي فرنسا ما بعد الحرب الثانية، كبير أحد. ولا يرجع ذلك للفناء بطول العمر، بل للرؤية المختلفة، والثقافة المختلفة، والوظيفة المختلفة، وقبل ذلك المناهج المختلفة. فالمذكورون من الكبار تاريخيون وتاريخانيون، قام عندهم درس العربية والإسلام على دعاتين: التاريخ والفيلولوجيا. وجاء ماسينيون ليدخلهم ويدخل جزءاً كبيراً من الاستشراق في التاريخ الروحي والثقافي للدين الإسلامي. والمشهور ان "التاريخانية" الفيلولوجية ألمانية، لكنها في الاستشراق بالذات إذا اعتبرناه فرعاً من فروع العلوم التاريخية كما يحب دارسوه اعتباره فرنسي الأصل، فقد جاء ألمان وانكليز وعرب الطهطاوي! للتعلم على سلفستر دي ساسي في مدرسة اللغات الشرقية في عشرينات القرن التاسع عشر وثلاثيناته. وهو الذي أرسى تقاليد تابعها الألمان بعد ذلك أكثر من الفرنسيين: اتقان العربية الى جانب اللغات السامية الأخرى، مع الاهتمام الى جانب الكلاسيكية بالعربية الحية، والكتابة في النحو العربي وفقه اللغة، والكتابة في التاريخ الأدبي والسياسي للعرب والمسلمين، ونشر النصوص العربية نشراتٍ محققة استناداً الى المخطوطات الموجودة في المكتبات الأوروبية الكبرى. وإذا تأملنا مآل هذا التخصص بعد مئةٍ وخمسين عاماً على تطوير دي ساسي له، متخذين من رودنسون أنموذجاً، نجد ان معالم رئيسية بقيت بين المؤسس، في الربع الأول من القرن التاسع عشر، و"الوريث" في مطالع القرن الواحد والعشرين. فقد بدأ رودنسون بدراسة اللغات السامية مع اهتمامٍ باللغة الحبشية القديمة، واللغة السبئية العربية الجنوبية. ثم انه كتب في التاريخ والسيرة، كما تأمل بعض النصوص الأدبية العربية. لكنه ما نشر نصاً عربياً قديماً شأن دي ساسي أو المستشرقين الفرنسيين الآخرين حتى ماسينيون. ثم ان له اهتمامات سوسيولوجية واجتماعية واقتصادية ما عرفها دي ساسي وخلفاؤه، وإن يكن ذلك قد صار في القرن العشرين الاهتمام بالسوسيولوجي والاقتصادي عبر مدرسة الحوليات Annales بين خصائص الاستشراق الفرنسي البارزة. ورودنسون وتفرد بين أبناء جيله جيل ما بعد الحرب الثانية في أنه ظلَّ ماركسياً حتى وفاته، وان يكن قد ترك الحزبية منذ الستينات. وماركسيته هي التي دفعته للكتابة في الإسلام والماركسية، والإسلام والرأسمالية. وتبدو قراءته لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ذات أصولٍ مادية أيضاً.
وما كان رودنسون يعتبر نفسه مستشرقاً بل مؤرخاً، وباحثاً سوسيولوجياً. لكنه ردَّ على ادوارد سعيد، ودافع عن الاستشراق: لجهة أنه ليس علماً، ولجهة أنه استعمار أو عمل في خدمة الاستعمار. لكن برنارد لويس عمره الآن 87 عاماً، وهو من جيل رودنسون يقول أيضاً إنه مؤرخ وليس مستشرقاً. وهو على يمينيتيه الفظيعة، يشترك مع رودنسون في الأصل اليهودي، وفي الاهتمام بفلسطين. لويس يعتبر ان لإسرائيل الحق في كل شيء، وأن الحداثة العربية الديموقراطية لن تتحقق إلا إذا تعايش العرب مع اسرائيل بإخلاص. أما رودنسون فيعتبر أن اسرائيل ظاهرة استعمارية. وهكذا فالمستشرق الذي كان عَلَمَاً على الدراسات الإسلامية الكلاسيكية، صار يعمل في المجال الحديث، وبمناهج متمايزة عن مناهج الفيلولوجيين التاريخانية. وبهذا المعنى فقد كان رودنسون حلقة الوصل بين جيل تلامذة ماسينيون، وجيل الدارسين المعاصرين مثل آلان روسيون وجيل كيبيل وأوليفيه روا. بيد أن هذا الجيل في فرنسا وبريطانيا والمانيا وايطاليا واسبانيا، مختلف تماماً عن "المستشرقين" الذين نعرفهم، فما عاد هذا الجيل يعرف غير اللغات الأوروبية الحديثة، ثم انه لا تهمه معرفة العربية كثيراً، لأنه، كما يقول، باحث سوسيولوجي وسياسي، ولا علاقة له بالنص العربي القديم أو الحديث. فقد تصادف أن اهتم بمصر والمغرب مثلاً في مطلع حياته، ثم بقي هذا الاهتمام، وقد كان يمكن له أن يهتم بالبيرو أو البرتغال. وهكذا ما عاد دارس "الشرق الأوسط" الصغير أو الكبير يملك أي خصوصيةٍ أو يريدها. ولا شك أن جزءاً من ذلك يعود لهجمة ادوارد سعيد على دارسي "الاستشراق" بحقٍ أو بغير حق. لكن من جهةٍ ثانيةٍ لتغير المناهج والرؤى، وايثار التحليلات السوسيولوجية أو النصية على ما كان معروفاً بأنه يقع كله تحت مظلة التاريخ. لكن إذا تأملنا أعمال هؤلاء السوسيولوجيين المتشرّقين، نجد أنها، بخلاف ما اعتقده ادوارد سعيد، الأدنى لما يتهم به أسلافهم: العمل للدولة وللمؤسسة وللاستعمار. فكل أعمال البارزين منهم تدور حول الظواهر الإسلامية المعاصرة. وبعض هؤلاء يعملون مستشارين لدى الحكومة الفرنسية أو الألمانية أو البريطانية، أو احدى وكالاتها. وما كان هذا شأن أكثر المستشرقين أو غالبيتهم العظمى قبل الحرب الثانية. فحتى أولئك الذين توظفوا في الدولة خارج الجامعات ما كانت الدولة تستطيع الإفادة من خدماتهم في مصالحها، لاهتماماتهم الكلاسيكية البعيدة جداً عن الهموم الحديثة. وقد أخبرني أستاذنا رودي بارت مترجم القرآن الكريم الى الألمانية أنهم أرسلوه الى شمال أفريقيا في الحرب الثانية ليعمل مترجماً للماريشال رومل، وقد فشل في مهمته لأنه ما كان يستطيع فهم عامية البدو في صحراء العَلَمين ومحيطها. ولست أفهم كيف تفهم الدولة الاستعمارية على ماسينيون حتى لو رغب في خدمتها. وقد صادف أن عمل في شبابه مع الحكومة الفرنسية بالمشرق وقابل لورنس العرب، وحدث بينهما نفور شديد، لأن ماسينيون ما كان يستسيغ أن يتدخل في شؤونٍ استعمارية، وانما همه الدراسات الثقافية، في حين كان لورنس يريد قيادة العرب للجنّة بالسلاسل!
وإذا نحيّنا هذه التحليلات والمقارنات جانباً، يبقى أن هناك استشراقاً جديداً يتوسل المناهج الانثروبولوجية في الغالب في قراءة الموضوعات الكلاسيكية، والمناهج السوسيولوجية في قراءة موضوعاتنا وظواهرنا المعاصرة. ولا يمكن الحكم الآن بأن هذا الوضع أفضل من السابق أيام الاستشراق الفيلولوجي، على رغم ان زوال الخصوصية فضيلة كبرى. بيد أن الخصوصية التي يحبها الإسلاميون كثيراً أيضاً! تطل من جديد بصيغٍ غير متوقعة. كيبيل يقول الآن ان العنف في الإسلام تكويني، ويقترب من آراء برنارد لويس في مسألة اسرائيل وفلسطين. وباتريشيا كرون تقول ان الإسلام في الأصل شراذم يهودية. ووانسبورو يزعم أن القرآن الكريم ظهر في القرن الثاني الهجري. والفقه الإسلامي ذو أصول يهودية ورومانية. وعلم الكلام ذو أصولٍ مسيحية. فإذا كانت المناهج "الجديدة" توصل الى مثل هذه النتائج المضحكة وما يشبهها، فلا داعي للاستمرار في العمل بهذه الدراسات. لكن الدراسات الجديدة عن الموضوعات القديمة، والأخرى المعاصرة، في الجامعات، حافلة بالجديد والواعد أيضاً. بل ان دراسات المستشرقين الكلاسيكية ما تزال مفيدةً أيضاً مثل كتاب بيكر عن الخراج، وكتاب نولدكه عن القرآن الكريم، وكتاب فلهاوزن عن الدولة العربية وكتاب هلموت رية عن جلال الدين الرومي، وكتاب ماسينيون عن الحلاّج... الخ. بل ان دارساً للانثروبولوجيا والأديان المقارنة مثل ولفريد كانتويل سميث، وآخر مثل هاملتون غب، كان يكتب فيلولوجيا وحسب، يظلان أساسيين لفهم كثير من ظواهر الإسلام المعاصر، في دراساتهما عن الهند الإسلامية.
عبر الاستشراق إذاً - بسبب الثورة في الدراسات الاجتماعية، وقراءة النصوص - في مخاضٍ عنيفٍ يوشك أن ينجلي عن مشهدٍ آخر تماماً فيه ما يعجبنا وما لا يعجبنا، لكنه مختلف تماماً عما ألفناه من المستشرقين بالسلب وبالايجاب. بيد أن هذا الإلحاح على تبين مصائر الاستشراق يخفي وراءه مشكلاتٍ كبيرةً نعاني منها أشد المعاناة. فنحن مفتقرون - باستثناء تحقيق النصوص - الى الدراسات الغربية عن أمورنا الكلاسيكية، وأمورنا المعاصرة. ومهما شتمنا ما يكتبه الآخرون، فالمكتوب في التاريخ والفقه والثقافة والفن بالعربية عند العرب رديء النوعية في الغالب، نتيجةً لتراجع التعليم الجامعي، وفورة الأصولية الإسلامية التي تعمي الأبصار والبصائر. وقد كان الجيل الماضي أفضل من هذا الجيل من حيث عدد الدارسين الجادين، الذين تتوافر لهم المعلومات والمعارف الجيدة، والمناهج المتطورة. وسنظل من أجل هذا السبب، ولأسبابٍ أخرى تتصل بعالمية حضارتنا، وحق الآخرين في الاسهام في تأملها، محتاجين للتعرف إلى دراسات المستشرقين القدامى والجدد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.