كان الحي الذي اقمنا فيه في جنين اكثر بيوته العادة متكون من دور واحد. وكانت فيه غرف امامها ساحة، قد تكون ترابية وقد تكون مكسوة بنوع من الحجارة المشذبة. هذه الساحة كانت مكشوفة. لذلك فما يمكن ان يقال بصوت مرتفع في الساحة يمكن ان يسمع الى مسافة بعيدة، فالأمر يتوقف على درجة ارتفاع الصوت. كانت اقامتنا في جنين بين 1917 و1923. والحادثة التي أرويها كانت في سنة 1918. اذكرها جيداً لأنني كنت في مطلع السنة الحادية عشرة من عمري، وكانت المدرسة قد فتحت في تلك السنة. سمعنا اهل البيت الذي كنا نسكن فيه مع مالكته ام عمر، كما سمع جيران آخرون، ابا احمد يضرب ام احمد بعصا وهي تصرخ مستجيرة وهو يقول لها: "انا قلتلك إذا بتجيبي بنت تالتة بدي اقتلك" وهي تصرخ مستغيثة. اخيراً سمع بعض الجيران من اصحاب المكانة فقدموا البيت ودفشوا الباب وأوقفوا ابا احمد عن الضرب. وهو يصرخ انا قلتلها اذا جابت بنت تالتة بدي اقتلها. وبالتي واللتيا أوقف هؤلاء القوم ابا أحمد عن ضربه، وأخذه احدهم الى بيته. نحن الأولاد لحقنا وسمعنا الرجل يهدئ ابا احمد ويقول له هذه هبة الله وهي لا علاقة لها بالأمر. * * * تذكرت هذه الحكاية بعد هذه السنوات الطويلة لما قرأت كتاب فهمية شرف الدين "اصل واحد وصور كثيرة - ثقافة العنف ضد المرأة في لبنان" الصادر عن دار الفارابي في بيروت سنة 2002، ولكنني لم أقرأه إلا قبل وقت قصير. والمؤلفة فهمية شرف الدين استاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، وهي باحثة اجتماعية معروفة وطويلة الباع في موضوعها. تتساءل المؤلفة في كتابها لماذا هذا الموضوع؟ وتمهد لبحثها بقولها: "حتى الأمس القريب كان الحديث عن العنف ضد المرأة لا يزال في حيز الممنوع والمسكوت عنه، ولم تكن قضايا الاعتداء على النساء بالضرب او التشويه او حتى القتل تهز ضمائر المجتمع" وبعد ان تتحدث عن امور تتعلق بالمشكلة اصلاً وبالمنهج الذي اتبعته، تنتقل الى قوة التقليد في النظام الأبوي. لعل من الأمور اللافتة في هذا الكتاب انه ليس بحثاً نظرياً يعتمد على آراء العلماء. انه دراسة لنواحي العنف ضد المرأة المتعددة. ولا نقل هنا بعض ما قالته: "فالتمييز كان في كل شيء تقول لميا، في الملبس في اللعب في الدلال. ومع ان جميع الشهادات اكدت ان العقاب بالضرب والتأديب بالحجز او الحرمان كان الأداة التربوية للعائلة اللبنانية اينما كانت وإلى اي طائفة انتسبت، فإنهن اكدن من ناحية اخرى ان ضرب الفتيات كان مختلفاً جداً. كانت الطفلة معرّضة للضرب في كل مرة تخطئ هي او يخطئ هو. كان عليها ان تتحمل الضرب عنها وعن اخيها. وعليها ان تطيع وأن تخدم اخاها صغيراً كان ام كبيراً. وفي اجابتها عن السؤال كيف كان العقاب في البيت اجابت ماري: "عادي، طبيعي، وكان العقاب هو الضرب. كانوا يريدون تربيتنا". وعن السؤال هل كان هناك تمييز في العقاب؟ اجابت: "نعم لأن الصبي يجب أن لا يضرب لا في البيت ولا في الخارج". اما إلهام فتقول، وعيت على الضرب ابي يضرب امي والاثنان يضربوننا". وتروي عن لسان آمال وهي فتاة جامعية عن علاقتها بأخيها فتقول: "ان اخاها ضربها لأنها لم تطعه ولم تكو له ثيابه". وتضيف ان والدتها وقفت متفرجة عليها وتعليقها الوحيد كان: "خرجك، تستأهلين الضرب حتى تتعلمي ان تطيعي اخاك". هذه ليست قصصاً سمعتها المؤلفة شرف الدين لكنها نماذج من عشرات المقابلات لأنواع مختلفة من الناس ومن طبقات متباينة ومن طوائف مختلفة. وتبحث المؤلفة قضية الشرف وموضعها في القانون اللبناني. * * * المؤلفة قابلت مئات من النساء ممن تجاوزن الطفولة الى اللواتي بلغن من العمر عتياً، ومن الجماعات الفقيرة الى الجماعات التي ترفل بالثروة، وكما ذكرت في غير مرة مع مختلف الطوائف اللبنانية. وأخضعت هذه المقابلات للقواعد والقوانين المقبولة في علم الاجتماع. وكانت حصيلة بحثها كما هو عنوان كتابها: اصل واحد وصور كثيرة - ثقافة العنف ضد المرأة في لبنان". أعرف عن بلاد كثيرة في العالم العربي. وأود ان اقول، لا لأنني باحث اجتماعي، لكن لأنني ألاحظ وأرى وأتنبه للأمور في إقاماتي وزياراتي لبلادنا من شرقها الى غربها، ان المرأة تعاني العنف والإهمال و"الشرشحة" الشيء الكثير. ولا يغرنا ان البلد الفلاني فيه وزيرة او سفيرة او نائبة في المجالس النيابية او انها تتمتع بعضوية بلدية او المخترة. هذه كلها امور تشير الى خطوة قصيرة جداً في مجال الاهتمام بالمرأة. لكن المجتمع لا يزال بحاجة الى عمل كبير وجهد اكبر كي تصل المرأة الى ما تستحقه من الاهتمام والاحترام والمسؤولية في البيت أولاً ثم الباقي يتلو. ادعو الذين يحبون قراءة موضوعات تخرج عن نطاق "تخصصهم" - الذي كثيراً ما يكون ضيقاً - ان يقرأوا هذا الكتاب. انه يفتح عيونهم على مشكلة كبيرة جدية في حياتنا، ولعل البعض يرعوي.