في السنوات الأخيرة شفي شاكر حسن آل سعيد من الرسم والكتابة معاً. الرجل الذي غادرنا نهائياً قبل أيام ولد عام 1925 كانت حياته ملعباً استفهامياً مفتوحاً على كل الاحتمالات. ففي كتاباته ورسومه على حد سواء انهمك آل سعيد في تفكيك عالم جمال شاسع لم تكن حواسه لتعينه على ادراك لذائذه ومباهجه واحتواء أسراره ومعانيه. فكان عليه أن يستعمل أدوات ومواد لم يسبقه اليها أحد من الرسامين العرب من أجل أن تقبض أصابعه على حبر حدسه وتنعم شفتاه بتمتمات نبوءته. لذلك عاش دائماً وكأنه الآخر الذي يحضر دائماً من جهة مجهولة ليبلغنا رسالة اختلافه الفاتنة والمثيرة للقلق والدهشة والارتياب. جهة تمتزج فيها رؤى ابن عربي والحلاج والسهروردي القتيل بأحدث نظريات علم الكلام، وتتناغم عبرها ايقاعات الزخرفة والخط العربي بعبقها القدسي بالجنوح المادي الذي تنطوي عليه تجارب ميشو وفوترييه وتابيس وسولاج. ومع ذلك فإن الرسوم لم تكن ضالته، بل كان من خلالها يرغب في التنقيب في مكان آخر، مكان لا تدركه الأعين بل تتنفس هواءه الأجنحة. عاش حياته الفنية كلها في منطقة ملتبسة يغلب عليها الغموض من جهته وسوء الفهم من جهة الآخرين. فما كان ينتظره من الصورة كان يدفع الآخرين الى الحيرة وما كان يمتعهم في رسومه كان يلقي به الى اليأس. فكان انفصاله في قلب المشهد الفني حدثاً لافتاً استمر نحو خمسين سنة، بدأها عضواً منظراً لجماعة بغداد للفن الحديث عام 1952 لينتهي وحيداً في بغداد، مدينته التي تسهر على نبوءات مضطربة. رجل تحولات، كان أسلوبه الفني يتبعه ليشير الى ما كان عليه في الماضي لا الى ما هو عليه الآن. ومع ذلك فإن العين الخبيرة لم تكن لتخطئ لوحته. كان نخبوياً من جهة ما انتهى اليه على مستوى التلقي رغم اصراره على أن يستل جزءاً من جماليات مشروعه الفني مما يتركه الناس العاديون من مخلفات في محيطهم. فكان في واحدة من أهم مراحله الفنية موثقاً وشاهداً ليس إلا. مثل شبح كان يتلصص على الجدران ليعيد انتاجها في مشاهد جمالية خارقة. رسم لي ذات مرة رقية وكتب عليها بضع كلمات غير مفهومة. تأملها وقال لي: احفظها قريباً من القلب. ولم تكن لوحاته ودفاتره وهي تشع بعرفان نبيل كما لو أنها تعبير عن الشكر المطلق بعيدة عن هذا المنحى. ذلك لأن الرسام من وجهة نظره لم يكن خالقاً أو مخترعاً، بل هو أقرب الى الشاهد الذي تلهمه معجزة الخلق القدرة على الكشف الذي هو اختراق لفضاء الوصف، وصولاً الى ما بعده. فكان هذا المفهوم هو الجذر الذي تعود اليه نتائج ما بعد التجريدية التي انتهى اليها هذا الرسام. لقد كانت يداه تحلمان المادة مثلما كانت عيناه تبصران المشهد الذي تتستر عليه الحواس. فكانت أصباغه تسيل على السطوح كما لو أنها تستمد خيالها من عجينة الروح. خفيفة، محلقة، نارية، متوترة، كما لو أنها على أهبة الزوال. حين التقيته آخر مرة قبل خمس سنوات وحدثني عن الرسم كان كمن يتذكر أغنية قديمة محا الزمن أجزاء منها. كان حديثه ذاك أشبه بمرآة يتردد في أعماقها دعاء خافت يعلي من شأن الزوال. زوال كل شيء. الرسم والإنسان والحياة. وهو ما كان قد تجلى في رسومه منذ زمن بعيد، لا على مستوى المشاهد الغامضة التي ترتجي الوصول اليها بصرياً، وحسب بل وأيضاً على مستوى المواد التي كان يستعملها، وهي مواد قابلة للزوال بطبيعتها. مثل لوحته المزدوجة التي ابتكرها أوائل تسعينات القرن الماضي، والتي يمكن النظر اليها من جهتي الوجه والقفا، كانت حياته، كاتباً ورساماً، تسير في خطين هما في حالة تقاطع مستمر. كان يستدرج الى الكتابة ما يخطئه رسماً وكان يستأنف في الرسم ما تعصاه الكتابة. لم يلجأ يوماً الى التوضيح لا في الرسم ولا في الكتابة. كانت تقنياته المبهمة في الحالين تشير الى صفته الاستثنائية، كاتباً يحيل الأفكار الى الرسم، ورساماً تصدر أشكاله عن مجازفات روحية. هناك دائماً نقطة تماس هي التي كان يلذ له أن يقيم فيها مكائده. فمع بيان جماعة بغداد للفن الحديث الأول الذي كتبه عام 1952 كانت واقعيته النقدية تعصرن التراث، من جهة مزج الأشكال بالحكايات، الصورة بمحتواها النفسي والاجتماعي. وفي الستينات كان بيانه التأملي 1966 تكريساً لمفارقة البعد التصويري/ الوصفي للرسم والاستغراق في لذائذ الاشراق الروحي وفي كتاباته الكثيرة عن فكرة البعد الواحد وجد آل سعيد نفسه إزاء خزان لن يُملأ أبداً. كانت تجاربه في الرسم تنزلق بأفكاره كما لو أنه ينقب في منجم ليست له نهاية. غير ان كتاباته كلها كانت نوعاً من الالهام الفني. وكما أرى فإن تلك الكتابات ستكون في المستقبل معيناً لا ينضب يستلهم منه الرسامون المغامرون تجارب وقف الرسام عند حافاتها من غير أن يسمح له الوقت بخوض غمارها. سيرته المزدوجة هذه كان لها أكبر الأثر في تشكيل مفاهيمه رساماً. ففي كتابه شديد الغموض الحرية في الفن والذي سحب يومها من الأسواق ما ان وزِّع، استعرض الفنان حيرته الاستفهامية ازاء ما يتعذر رسمه. ذلك الجمال الممكن الذي يجاورنا من غير أن نعثر على تأويل بصري له يكون بمستوى الانفعال الروحي به. ربما حقق بعض ما كان يصبو اليه في التسعينات. فاللوحة المزدوجة وما نتج عنها من محاولات تقنية لحقت بها وهبته القدرة على أن ينسف كل يقين يستند اليه السطح التصويري بثقة تصدر عن كسل بلاغته. لقد انطوى ذلك التحول على تبدل في المفاهيم وليس في الأشكال أو في جهة النظر الى الأثر الفني. أطلق شاكر حسن آل سعيد في السنوات الأولى من سبعينات القرن الفائت فكرة استلهام الحرف العربي جمالياً وأسس من أجل ذلك تجمع البعد الواحد. وكان سبقه الى ذلك كل من مديحة عمر وجميل حمودي في العراق على الأقل. غير أن فضيلته في هذا المجال لا تنحصر في تفوقه الفني على من سبقه، وحسب، بل وأيضاً في حماسته التي جلبت أعداداً كبيرة من الفنانين للإسهام في معارض هذا التجمع. ولأن فكرة ذلك التجمع لا تقل غموضاً عن مشاريع هذا الرسام الأخرى، إذ كان العضو الثابت الوحيد فيه هو آل سعيد نفسه، أما الأعضاء الآخرون فقد كانوا نزلاء موقتين في عرباته المتحركة. كان البعد الواحد مفهوماً مفتوحاً اتسع لكل تحولات الرسام طوال ثلاثة عقود، هي الأكثر غزارة من جهة الكم والتحولات الأسلوبية والتقنية في حياته. لم يكن الحرف العربي إلا ذريعة استطاع من خلالها الرسام أن ينتقل من التعبيرية التجريدية التي غلب عليها طابع الارتجال الايقاعي الى استلهام سطح العمل الفني بصفته مادة لتوثيق يومياته. انتج آل سعيد في تلك المرحلة الكثير من روائعه الفنية التي وجدت لها رواجاً تأثيرياً بين الرسامين العرب وقدمته بصفته رائداً في مجال الكشف عن الجماليات الكامنة في الحرف العربي. غير أن آل سعيد حين فر من الحرف العربي وترك الآخرين مشتبكين به لم يتخل عن البعد الواحد مؤسسته الخيالية التي يحارب من خلالها الرسم. كانت تلك هي حربه المعلنة انحيازاً لاللارسم. لكن من أين استمد آل سعيد ذلك الوعد؟ من الحرية التي تفلت لشدة إفراط أم من الجمال الذي يرعاه الشك؟ هناك مكيدة صنعها هذا الرسام من أجل أن يكون رساماً بامتياز تخليه عن الرسم. حيث كان الجمال بالنسبة اليه يكمن في فعل استفزاز لما هو كامن من توتر في العادي والمهمل والمنبوذ والصدئ والخبئ والموحش. كما لو أن الرسم محاولة لقطع سبات الشيء والكشف عن الجمال النائم. "هذا المقيم في رأسي" كان يقول لي في اشارة الى الرسم وهي اشارة تليق بالجمال أيضاً. فهذا الرسام المنقطع تماماً عن الوصف ولا يرى في النظر الى الطبيعة أي متعة بصرية كان يذهب ببصره بعيداً في رحلة كونية تتجاوز ما هو مرئي الى ما يقيم في عبارات المتصوفة من تماس بالذات المطلقة التي تهندس الكون. ومثلما قطع آل سعيد صلة الرسم بأي أصل تصويري فإنه أكد ان صلة رسومه برسوم الآخرين ممن أعجب بتجاربهم لم تكن إلا نوعاً من التنصيص على نص هو الآخر قائم على نص سبقه. هكذا صنع آل سعيد متاهة، رجاؤه الوحيد فيها ان ليس هناك من وجود لنص أصلي إلا ذلك الذي أبدعه الخالق. "لأن جسمي لا يقوى على مشاركتي صرت أرسم وأكتب في الحلم" قال لي في آخر لقاء جرى بيننا في الدوحة. غير انه في كل ما كتبه وكل ما رسمه كان حالماً يقف خارج الزمن. كان يقاوم الزمن سلبياً من خلال ثقته بعبقرية الزوال. كان الرسم بالنسبة اليه نزهة خالصة في ثنيات ذلك الزوال. فكان لا يهمه أن يتثبت من قدرة لوحته على مقاومة الزمن. بل انه كان كمن يرهن أعماله للزوال. شاكر حسن آل سعيد لم يعد معنا الآن غير أن اسطورته باقية.