كنتُ اتصور بعيد نيلي شهادة الدكتوراه ان للبحث مجالات حيوية ومصائر محدّدة. كنتُ ما زلتُ على نسوية صباي، فأقول لنفسي: صحيح ان المجالات والمصائر هذه يحتكرها الرجال، لكن ما عليّ غير مزاحمتهم، كما زاحمتهم سابقاً في الهيئات الحزبية، داخل الحزب اليساري الذي كنتُ ملتزمة به. كان تصور خاطئ تماماً، مستوحى من شعارات عاجلة ورغبات غامضة مسْقطة على الواقع، العنيد دائماً. اليوم أتعجّبُ من سذاجتي، ولا أجدُ تفسيراً لها غير إيديولوجيتي "التقدمية" آنذاك: فعلى رغم الخراب التي أَنذرتْ به طلائع الحرب الاهلية في لبنان، إلا انني كنتُ مؤمنة بأن الزمن القادم يمشي بحسب "إرادتنا" نحن "التقدميين". تصوراتي هذه خابت منذ اللحظة الاولى التي بدأتُ بها مهنتي البحثية الجديدة. فبداية عهدي بالبحث العلمي دشّنتْ مساراً ليس بالتأكيد "تقدمياً"" بمعنى انه لم يحملني من مرحلة بحثية الى أخرى اكثر ثراء ان عمقاً أو إنتاجاً، سواء لجهة البحث نفسه أو لجهة تطوير الادوات المفهومية والسعي الى الوعي الأدق لتشابك الاشياء وتداخلها، سعياً الى معرفة تحرِّر العقل من عدم الفهم، وتنتقل به الى حرية جديدة. فالمجال الاول الذي صادفته أمامي كان مركزاً عربياً بحثياً، تموّله إحدى الدول العربية النفطية "التقدمية". الإغراء المالي كان قوياً: كان المركز يدفع بالدولار الاميركي، في وقت كانت العملة اللبنانية في سبيلها الى الانهيار. النموذج النسائي في هذا المركز، وهو الذي كان يتولّى قيادته بالنيابة عن الاخوان العرب المموّلين، كان ذو ملامح مغشوشة: تصمد قليلاً أمام أي احتكاك. هذا النموذج أجّجَ شغفي بالمعرفة الحقّة، وبالسعي الى قولها... مهما اختلفت المقامات" وذلك الى حدّ المغالاة في غالب الاحيان. الآن فقط أنتبه الى هذه المغالاة. الجامعة الوطنية كانت ثاني هذه المجالات. وهي لم تهتم بكيوننتي البحثية إلا مرتين: الاولى عندما احتجتُ الى تقويم بحثين، والتعيين بدرجة أستاذة مساعدة، إن كانا "أصيلين". والثانية في استمارة لكل أساتذة الجامعة حول عناوين الابحاث "الفعلية" التي أنجزوها. فكان ان عدد الابحاث التي قمتُ بها أكبر من العدد التي خصّصته الاستمارة. وفيما المرة الاولى كانت سبباً في ارتقائي، كانت الثانية حافزاً من حوافز التعسّف الإداري تجاهي. فالجامعة، كما باتَ معلوماً الآن، بالكاد تغطّي موازنات التدريس. وهي لم تَعُد معنية بالأبحاث، لم تعد تموّلها، إلا في حالة واحدة، الابحاث الوهمية. وقوام هذه الاخيرة ان الاستاذ يوقع على "مشروع بحثي" وهمي، بالتواطؤ مع الادارة. كان يمكن للتدريس الجامعي نفسه أن يخلق بيئة بحثية ذات ديناميكية خاصة" خصوصاً انني كنت أشرف على رسائل "المتريز" شهادة فرنسية تعادل إلا قليلاً الماجستير، غير ان طلابي كانوا قد شبّوا على مفهوم غريب للتعلّم وللسعي الى المعرفة. فطوال السنوات الثلاث الاولى التي يمضونها من أجل نيل الليسانس، يتعلمون سياسة "التنْجيح". والاستاذ الذي يقع عليه خيارهم في المتريز هو الذي "ينجّحهم". لذلك كانوا يصلون الى "المتريز" لا يعرفون كيف يقرأون كتاباً، كيف يلخّصونه، كيف يفرّقون في داخله بين الرئيسي والثانوي، ولا يريدون إلا في ما نَدر جداً ان يتعلموا. وهم بطبيعة الحال لم "يفكروا" طوال السنوات هذه. لذلك عندما كنت احثّهم على ذلك، وأحاول معهم "صوغ" فكرة، ولو بسيطة، كانوا يتوتّرون. وعلمتُ لاحقاً ان الكثير من "الاساتذة - الباحثين" يشغّلون طلابهم بما يشبه السخْرة، خدمة لأبحاث يوقعونها باسمهم الخاص" وتكون سبباً ل"نجاح" الطالب في هذه المادة او تلك. وقد يتحول بعض هؤلاء الطلاب الى شخصية موجودة بكثرة في البيئة البحثية، لكنها غير ظاهرة للعيان: انها شخصية "الصبي الباحث". ذاك الكائن الذي يمكن ان ينال الدكتوراه أيضاً، لكن واسطته قليلة ومعرفته باللغة الاجنبية أقل. هو وأمثاله هم الذين يحفرون في الميدان ويبوّبون ويقرأون ويختصرون ويفرزون ويفرّغون الاستمارات والأشرطة. عقلهم اكثر تنظيماً من اساتذتهم الكبار، لكن حظهم وتدبّرهم معدومان. انهم الجنود المغيبون للبحث العلمي، لو حَصَل. يئستُ سريعاً من الجامعة، وأخرجتها من بالي" وصرتُ أحضر اليها كما الى وظيفة مقيتة. اما "المجلة البحثية" التي أشتركتُ في هيئة تحريرها، والتي أعيد إحياؤها من الكلية في آخر سنتي فيها، فلم تنْتج شيئاً: فقط ساعات لا تنتهي من مناقشة "معايير" قبول الابحاث الى المجلة... مناقشة، كل هدف رئيسها، أي العميد، إعفاء هيئة التحرير من "المعايير" وقصر تطبيقها على الاساتذة المتبقين "العاديين". وهذا ما أكاد الآن ان أراه طبيعياً: فماذا يُنتظر من "عميد" عُيّن لولائه لزعيم طائفته؟ هل يُنتظر كفاية محدّدة؟ علماً؟ أو ناموساً؟ أن أكون باحثة وأستاذة جامعية كان يعني ان أحضر في الجامعة. لعلّ الوقت يمر بأسرع مما اطيق، ثم اقبض راتباً شهرياً ثابتاً، يؤمن لي المُعاش. فلا شيء في الجامعة يوحي لك بالبحث، يذكّرك به، كي لا اقول يحثّك عليه: لا جماعة باحثة، ولا سؤال، ولا حوار، ولا فضول ولا أخذ وردّ... بل فقط صراخ وتعبئة، يلقيان بظلال ثقيلة وقاتمة على العقل. المؤتمرات والندوات عرفتُ هذا المجال في منتصف طريقي الى الجامعة. كان مجالاً مبهراً بالنسبة اليّ: كنتُ أظن ان الذي وصلَ الى حد الإدلاء بنتائج بحثه أو فكرته امام حضور مهتم ومتابع، فلا بد ان يسعد بهذا. وبالصدفة المحْضة تعرفتُ الى جمعية اهلية عربية لعلماء الاجتماع، كان انتاجها البحثي الوحيد ينعقد حول المؤتمرات التي تعقدها. فاعتقدت بانني وجدتُ لقيّتي. لذلك عندما طلبت مني الجمعية، بواسطة رئيسها، الإعداد لندوة عربية حول "الحرب والمجتمع" بعد انتهاء الحرب الاهلية في لبنان، تحمستُ للأمر. هنا أيضاً كانت سذاجتي على المحكّ. فما ان انتهيتُ من إعداد المحاور واقتراح الاسماء والاتصال ببعضها، وبالتنسيق مع الرئيس... حتى جاء من "يموّل" الندوة في لحظة تعثّر أخيرة، مشترطاً إزاحة محاور واسماء، ومن بينها اسمي، واستبدالها باخرى منضوية تحت لواء المموّل ومحابية له... دافع الرئيس عن إسمي، ولكنه لم يستطع تجنيب الندوة التبديل العشوائي ل"محاور" والأسماء الاخرى. فأفْضت ندوتنا الى ما تفضي اليه عادةً كل الندوات والمؤتمرات العربية المدعومة: طاحونة هواء من غير طحين...! التجربة هذه كانت هي ايضاً مبكّرة" لكنها لم تثنني وقتها عن تلبية الدعوات الى معظم الندوات، بل كنتُ أعدّ الابحاث في تلك الفترة على وتيرة الندوات. كنت دائماً في حالة كتابة ورقة من اجل مؤتمر لاحق! بنفس العزم الاول على العرض والنقاش، وبصرف النظر عن إرادة القيمين، كأنني بذلك "أناضل" من أجل تحسين شروط هذه الندوات، من الداخل، كما كنت "أناضل" في آخر سنواتي الحزبية لتحسين شروط العمل السياسي الذي انغمست به في مراهقتي. لم يؤت هذا "النضال" شيئاً يُذكر، وبقيت الندوات أسوأ مجالاً من الجامعة: مفسودة من الداخل، تحكمها العلاقات العامة، وصفقات الصور المتبادلة" "مولد" في أظرف الاحوال، ومؤات للروح البحثية في أسوأها، وضجرٌ قاتل في الغالبية العظمى من الحالات، يتحمّله عادة المنتدون، ثمناً للجاه الثقافي او للسياحة في بلد آخر غير بلادهم. كتبتُ مقالين مطولين عن الندوات والمؤتمرات التي عايشتها. الاول أراه اليوم ألطف من الواقع. عنوانه "الندواتية الحادة، أو المعرفة الواهمة والمملّة "باحثات". العدد الاول. 1995. فيما اعتبرتُ الندوات في مقال ثانٍ مسؤولة عن السدود الذهنية الموضوعة امام إبداع المرأة" وعنوانه "نقد الخطاب "العوائقي" المهيمن على خطاب المرأة والابداع". "الحياة" 5/11/2003. اما الآن فبعدما امضيتُ فترة من النقاهة الفكرية بعزوفي عن الاشتراك في الندوات، أجد نفسي مجذوبة اليها من جديد. ولكن ليس للأسباب الاولى، بل لأنها المجال المتعارف عليه لإنتاج معرفة تحظى باهتمام الاعلام و"الساحة الثقافية". فما يهمّني ليس فقط المنتَج المعرفي المفترض هذا، بل معرفة عالم هذا المنتَج واهله وآليات سلوكهم على المسرح العام المفتوح: إذ هو المسيطر الآن على بقية الانتاج "البحثي" والفكري". المؤسسات الغربية والدولية انها المجال الوحيد لتمويل الابحاث، بعد تراجع الجامعة الوطنية وقحط المؤسسات الوطنية الاخرى. والمؤسسات الغربية والدولية هذه لا تبْخل كثيراً على طالب التمويل. لكنها ليست معنية بالبحث إلا عند مرحلة تقديم المشروع، من اجل الحصول على التمويل. وباستثناء ذلك، فهي لا تهتم لا بالنتائج ولا بالنشر ولا بالتفاعل مع الغير من الباحثين الآخرين المموَّلة أبحاثهم عندها... ولا بأي شيء آخر، يمكن ان يندرج في اطار المجال الحيوي للبحث. والعلاقة معها خالية من الندّية: فطالب التمويل فيها مثل طالب المعونة الخارجية... أربع مؤسسات موّلت ابحاثي: فرنسية حكومية، بريطانية اهلية بالاشتراك مع باحثة اخرى، وأهلية أميركية، والاخيرة دولية منظمة من منظمات الاممالمتحدة. جميعها اهتمت بالبحث في حدود "التزاماتها" هي: واحدة لم تطلب سوى تقارير شكلية عن موازنة البحث. والاخرى لم تنشر البحثين إلا بعد ورود تقويم لها من جهاتها العلمية العليا. أما الثالثة فاقتصر تفاعلها مع البحث على أسئلة خارجة عنه، فيما الاخيرة تدخّلت مرتين بوضوح من أجل تعديل "استشارة علمية" لم تأتِ على قدر كافٍ من التطابق مع "وجهات نظر" الدول المموّلة لها، هي الاخرى. هكذا أجد نفسي كل مرة لوحدي انا والبحث المُنْجز: منذ لحظة صوغ موضوعه وحتى خروجه الى النشر والتسويق. أي الى حقل، فهمتُ بعض لغته اخيراً، من دون أن أحْدس كل ألغامه. كتابي الاخير وقع ضحية جهلي بهذا الحقل. الناشر الذي التزم بطباعته وإنجازه عشية حدث ثقافي كبير، ربط التزامه هذا، وفي آخر لحظة، بدفع مبلغ من المال: أي انه لن يطبعه إلا بعدما اعطيه المبلغ. دفعتُ طبعاً، وخرج الكتاب بعد شهرين! عادة، يُطبع من الكتاب بين 2000 و3000 نسخة. ولو بيعت وطُبع الكتاب ثانية، ثم بيعت هذه الاخيرة أيضاً، يكون الكاتب قد حقّق ظفراً: "بستْ سلر". فالانتاج المعرفي في بلادنا ليس من البضائع الرائجة. والمحظوظ من بين الكتّاب او الباحثين، ليس الذي بيعت كتبه بكميات، ولا الذي قرئت كتبه من اعداد، ولا الذي كان لكتابه صدىً مع الآخرين، كتاباً كانوا ام قراء، بل الذي يصبح نجماً في غفلة من الدهر، ومن هذه النجومية، يمْتشق الكاتب هيبة او صدقية علمية أو رئاسة مجلس أو لجنة، وكلها "نجاحات" تُغني عن شقاء الحياة. كان للرأي الذي كوّنته سابقاً عن "التسويق" لكتاب بحثي، نصيب من رفضي التام لكافة أشكال "التسويق". مناقشة كتابي الاول "دنيا الدين والدولة" في احدى الهيئات الثقافية البيروتية، كان لها الدور التأسيسي في تكوين هذا الرأي، بل الذهاب به بعيداً في المغالاة. فالمناقشون، وهم من خيرة الوجهاء الثقافيين، حضروا من غير ان يقرأوا الكتاب. أما الاثنان منهم اللذان تجشّما عناء تصفّحه، فقد قرآ أجزاء منه فقط: الأول اكتفى بالمقدمة والثاني بفصل واحد. لذلك عندما جاء من التلفزيون من "يحاورني" على كتابي من غير ان يقرأه، وكأنه بذلك يتباهى ب"شطارته"، رفضتُ من غير تفكير ولا تردّد. فهَوْل "المناقشة" المفتعلة كان قد استوطن بي عميقاً. لم أبق "متشدّدة" الى هذا الحد مع قنوات التسويق السائدة. انتبهتُ الى اهميتها بعيد صدور كتابي الاخير، فقررتُ ان اسوّق له بالقدر الذي يسمح لي وقتي وطباعي...أي انني لم أقم بالزيارات المعهودة الى "مفاتيح" الاعلام الثقافي، طلباً لل"دعم". وجلّ ما استطعته هو القبول بقيام بمقابلات صحافية حول كتابي هذا. ولكن هنا ايضاً كان العبث بانتظاري: فمن بين كل هؤلاء الصحافيين، لم يكن هناك واحدٌ قد قرأ الكتاب موضوع المقابلة... اما المقالات "النقدية" عن الكتاب، ايضاً وأيضاً، فأكثرها نجابةً هي تلك التي قرأ صاحبها الروايات، مادة الكتاب الجذابة، من دون لا المقدمة ولا الاستنتاجات. وأطرف ما وقع فيه واحد من هذه المقالات انه طرح على الكتاب تساؤلات بلهجة رصينة، توحي بأنها شائكة... كان الجواب البسيط عليها وارد في المقدمة والاستنتاجات....! انتقالي من بيروت الى القاهرة كان فرصة لتعديل مساري المهني: تركتُ الجامعة الوطنية اللبنانية من غير أسى، وتردّدت لحظات فقط قبل ان أهمل عرض التدريس في جامعة القاهرة... وانتظمتُ في كتابة عمود اسبوعي في صحيفة عربية يومية. كتبتُ في مقالي الاول عن اسباب هذا الانتقال "المعرفة بحثاً علمياً وصحافة... في هوامش تجربة شخصية" "الحياة" 5/9/1999، بالتمتع بالقدر الذي توفره الصحافة من حرية. هكذا صرتُ باحثة "حرة"، free lance، وكاتبة عمود في صحيفة سياسية" وذلك منذ اربع سنوات ونيف. وقد ولّد لدي اقتران هذين النوعين من العمل حالةً جديدة. فالقدوم من عالم الاكاديميا الى العمود الاسبوعي غيّر الكثير من "ثوابتي" الفكرية، بل جعلني أشكّكُ في "الثوابت" عموماً: كنتُ اعتقد نفسي راسية على منظومة من المفاهيم والتصوّرات" إذاً بهذه تتبدّل" بوتيرة مريحة في البداية... تصاعدت في السنوات الثلاث الاخيرة مع تسارع الاحداث الجارفة. فخلال السنوات الاربع هذه لم انقطع فيها اسبوعاً واحداً عن الكتابة، كان كل مقال يقتضي مراجعة لفكرة صغيرة، هي جزء من "البنيان" الفكري الذي كنت عليه قبل هذه السنوات. وكانت القاهرة خير إقامة عندي. خير مسافة بيني وبين لبنان، موطني، حيث انْبنتْ تصوراتي وتوجهاتي، فالقاهرة مختبر لكل الافكار ومكان ولادة أشياء وتصورات، ريادة في طريقها الى الانتكاس، محمولة على ماضيها القريب والبعيد. وهي تضجّ بأسباب إعادة النظر بتصوراتي وتوجهاتي. لذلك عندما شرعتُ في صوغ كتابي الاخير، وكان عن الحداثة في مصر، صرت اقل وثوقاً بمفهومي السابق لديناميكية الحداثة وطبيعة علاقتها بالتقليد. فأتى كتابي هذا معبّراً عن تبدل الشيء الكثير من قناعاتي. وعنوانه يشي بذلك "السياسة اقوى من الحداثة". أتيح لي ان اكتب ما اشاء من الموضوعات في العمود الاسبوعي" ما ألزمني الدقة ومتابعة تفصيلية للحدث وآراء مختلف الاقلام فيه. وبما انني لم اتوقف عن البحث، فقد تداخل في ذهني زمنان: الزمن القصير المباشر الحيّ، زمن الحدث. ثم الزمن الاطول قليلاً او كثيراً والممتد على الايام والسنوات... واحياناً القرون، زمن البحث. كم تسبّب لي هذا التداخل من ارتباك... كلفتني مرة من جامعة بيرزيت بكتابة ورقة عن العولمة: وما ان شرعتُ بها، حتى سيطر عليّ احساس بأن ما اكتبهُ الآن في سبيله في هذه اللحظة الى تحوّله الى ماضٍ. كنتُ أصيغ الورقة وأتابع ما يدور في العالم إعداداً لمقالي الاسبوعي. فحصلَ الارتباك في الازمان، ووجدتُ نفسي أكتبُ عن العولمة بصفتها وجهاً من وجوه الزمان. ندْرة القراء بالعربية، وتساؤلي الاسبوعي عما يمكن ان يجذب القارئ العربي الممْتَنع من القراءة، جعلاني أفكر بجاذبية النص الذي اكتب. "كأن القارىء صديق": نصيحةٌ تراودني في بداية أي مقال، ثم اصبحتْ تلازمني طوال بحثي الاخير. فالجاذبية هي التي حدّدت شكل كتابي البحثي عن مصر، والجاذبية هي التي دفعتني الى تبنّي الروايات مادة هذا البحث وتساؤلاته الكثيرة، وليس أي "نظرية علمية جديدة" كما يلحّ البعض. لا اعرف ما آل اليه مسعاي هذا. لا اعرف الى أين سيفضي، ولا إن كانت له إضافة الى غيري أو الى نفسي. فأصداء الكتابة في الصحافة كما في البحث نادرة وبعيدة وتقتصر غالباً على إطراء محْرج فحسب. وعلمتني ردود الفعل على كتابي الاخير، أن هناك من يقرأ فعلاً ما يدعي انه قرأ لكنه كأنه ما قرأ. كأنه وضع على النص المقروء نظارة "ثوابتِه"، فالقراءة تعامَل مثل رفع العتَبْ كأنها فرض سمج ومملّ، لا يرجى منها لا متعة ولا معرفة، على افتراض ان المعرفة بحد ذاتها تأتي ولو في الدرجة الثانية بعد المتعة. لا مجال حيوياً للبحث - وحتى للمقال الاسبوعي-، لا تفاعل، ولا تحاور، لا اخذ ولا ردّ. فقط لا مبالاة تامة وإهمال. عندما تشتدّ احياناً غلَظة هذه الصحراء الشاسعة التي اسمها عالم البحث والمعرفة والثقافة، أجد نفسي تحت وطأة السؤال: ما الذي أفعله؟ ولماذا؟ من أجل ماذا؟ ما معنى ما أفعل؟ كيف لي ان أتيقّن من وعيي لأشياء؟ لا جواب ولا صدى" كأنني شجرة صبار في هذه الصحراء، أكابد الصمت والعطش، واخزّن أي نقطة ماء تتكرّم بها سماء شحيحة او جذور بعيدة... لا أبدّدها ولا أهدرها. فأستمر هكذا في العيش تحت الشمس الحارقة. ولكن، يبقى السؤال: ثم ماذا؟ فالذي "أقاومه" من اجل العيش، ليس العطش في حد ذاته، بل عبثيته: فانا أعرض من غير طلب يُذكر، من غير طلب يحيي دورة حياة. * كاتبة لبنانية، والنص ورقة قدمت الى مؤتمر "حالة العلوم الاجتماعية في العالم العربي وايران وتركيا". الذي عقد في تونس بين 24 و26 كانون الثاني يناير 2004.