«الحياة الفطرية» يطلق أكبر رحلة استكشاف للنظم البيئية البرية    أوامر ملكية بإعفاء ثلاثة مسؤولين من مناصبهم    «غابة العجائب».. تجربة استثنائية في موسم جدة    مصافي التكرير الأميركية تتلقى أولى شحنات النفط الفنزويلي    تحسين شامل لشوارع الصرار والهجر التابعة    الأمير تركي الفيصل ورسائل المملكة في زمن الاضطراب الإقليمي    واشنطن: بوتين وافق مبدئيا على ضمانات أمنية دون اتفاق نهائي    قمة ألاسكا والمتغيرات الاقتصادية    قوات "الدعم" تواصل مجازرها في دارفور    قنصلية السودان بليبيا تطلق مبادرة العودة الطوعية    فيضانات باكستان غضب شعبي وتحرك حكومي    القيادة تهنئ رئيسي إندونيسيا والجابون بذكرى استقلال بلديهما .. وتعزي رئيس باكستان في ضحايا الفيضانات    استعراض إحصائيات ميدان سباقات الخيل بنجران أمام جلوي بن عبدالعزيز    الخليج يضم اليوناني جورجيوس    "خيرية العوامية" تنفذ 39 برنامجًا لخدمة المجتمع    المملكة.. وقوف دائم مع الشعوب    أمانة الرياض تكثّف رقابتها على المقاهي ومنتجات التبغ وتغلق منشأتين    «إثراء» يدعم المواهب ويعلن المسرحيات الفائزة    مُحافظ الطائف يطلع على تقرير برنامج المدن الصحية    جامعة جدة تستعد لإطلاق ملتقى الموهبة للتعليم الجامعي    زرع الاتكالية    تجمع مكة الصحي يخصص عيادة لعلاج مرضى الخرف    حملة توعوية لطلاب المدارس بالتجمع الصحي بمكة    تعيين ثلث أعضاء اللجان في غرفة الأحساء    الأهلي يدشّن تدريباته في هونغ كونغ تحضيراً لكأس السوبر السعودي    أمير تبوك يطلع على تقرير بداية العام الدراسي الجديد بمدارس المنطقة    تجمع الرياض الصحي الأول يطلق حملة "تعلّم بصحة" للعام الدراسي الجديد    مركز الملك سلمان يدعم متضرري باكستان    تخلص آمن لمخلفات القصيم الزراعية    جامعة أم القرى تنظم مؤتمر "مسؤوليَّة الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري"    "قيمة العلم ومسؤولية الطلاب والمعلمين والأسرة" موضوع خطبة الجمعة بجوامع المملكة    المشاركون في دولية الملك عبدالعزيز يزورون مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف    مدير مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير يجتمع بالهيئة التدريسية مع إنطلاقة العام الدراسي الجديد    أسترالي يعتلي قمة السنوكر    Ulsan يحافظ على لقبه العالمي    خادم الحرمين الشريفين يصدر 3 أوامر ملكية    نائب أمير جازان يزور بيت الحرفيين ومركز الزوار بفرع هيئة التراث بالمنطقة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع وزارة الصحة بمناسبة تعيينه    القيادة تهنئ رئيس جمهورية إندونيسيا بذكرى استقلال بلاده    المياه الوطنية: 24 ساعة فقط على انتهاء المهلة التصحيحية لتسجيل التوصيلات غير النظامية    علماء كوريون يطورون علاجًا نانويًا مبتكرًا لسرطان الرئة يستهدف الخلايا السرطانية    «ماما وبابا» في دور السينما 27 الجاري    فسح وتصنيف 90 محتوى سينمائياً خلال أسبوع    ترقية آل هادي    49 % حداً أقصى لتملك الأجانب للأسهم    ترمب: نحتاج معاهدة سلام.. وبوتين: المحادثات بناءة.. واشنطن وموسكو.. مباحثات مثمرة لحل الأزمة الأوكرانية    المشاركون في مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون مكة متجهين إلى المدينة المنورة    تحذيرات من تهديد للأمن الإقليمي وتصفية القضية الفلسطينية.. رفض دولي قاطع لخطة إسرائيل الكبرى    2.1 % نسبة التضخم    مرضاح والجفري يحتفلون بزواج فهد    إجمالي مبيعاته (29) مليون ريال خلال 4 أعوام.. شاشات إحصائية لتعزيز شفافية المزاد الدولي للصقور    دواء تجريبي مبتكر يعالج الصلع خلال شهرين    الاتفاق يتعادل إيجابياً مع الرفاع البحريني ودّياً    "الشؤون الإسلامية" بجازان تنفذ أكثر من 460 جولة ميدانية لصيانة عدد من الجوامع والمساجد بالمنطقة    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    نائب أمير منطقة جازان يقدّم التعازي لأسرة معافا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية سعودية وأخرى سورية ... تعكسان التجربة السردية الجديدة في العالم العربي - خليل صويلح يدخل عهد الأنترنت في "بريد عاجل"
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 2004

يتساءل الراوي في رواية خليل صويلح "بريد عاجل" عما إن كان حفيد ابن حزم أو عبدالحميد الكاتب أو ابن العميد، أم تراه "كائن عائم في خريطة ممزقة"؟ وهذا المسكون بالمراسلة يتساءل عما إن كان لديه من يكاتبه، أم إن رسائله لا تصل إلى أحد؟ وهل هو حقاً من كتب احتجاجاته على سوء الحال على رقعة من جلد الغزال قبل خمسة قرون، أم تراه "الشخص الذي يتخبط الآن في شبكة الإنترنت بحثاً عن صديق وهمي، في عالم افتراضي بلا حدود؟". وكما أسس الراوي أسئلته في ابن حزم وعبدالحميد الكاتب، يؤسسها في ابن الأثير الذي قال: "وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، لأن المعاني تتجدد بتجدد حوادث الأيام"، فمقولة ابن الأثير وصف بليغ للعالم الافتراضي، بحسب هذا الراوي الأربعيني الذي تطلع به الرواية علينا وهو في طابور لدفع فاتورة "الموبايل"، حيث يلتقط رقم من يسميها شاكيرا، ثم يعود إلى عمله في صالة الأرشيف مع زميلته المطلقة ريم. ومنذ هذه البداية ينتظم بناء الرواية بين زمن كتابتها بعد سقوط تمثال صدام حسين في بغداد، وبين يفاعة الراوي في القرية ثم في الحسكة، وعهده بالجامعة في دمشق.
يمتلئ الزمن الأول، بمشروع الراوي في كتابة تاريخ البريد، وهو الذي كانت الرسائل والطوابع هوسه في يفاعته. أما الآن، في الحاضر، فالراوي يبحث في المجلد الثاني من تاريخ الطبري عما يتعلق بتاريخ البريد، منذ الساعي الأقدم: الحمام الزاجل حمامات لويس التاسع في مصر والمعتصم والمعتضد وفي عهد الخيول المضمرة وهشام بن عبد الملك والمنصور... وإلى هذا الذي أرشفه الراوي في الكومبيوتر، وقع على كتاب عن تاريخ مهنة الرسائل فيه صفات من امتهنها في العصور القديمة. وإذا كان الراوي يؤرشف في الكومبيوتر ذلك أيضاً، فهو يؤرشف يوميات الملف العراقي بعد 9 / 4 / 2003، ويؤثث ذكريات الصبا والجامعة بأرشيف الجريدة التي يعمل فيها، حيث مجلدات النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. وجماع الأرشفة يتطلع إلى أمثولة متاهة بورخيس الذي حاول دائماً اكتشاف لغز الكتب. وليس هذا غير شطر من علامة الرواية التي ينشدها الراوي/ الكاتب. أما الشطر الآخر فهو كتابة سيرة ذاتية مثل السيرة المشوشة التي قدمها فيلم يوسف شاهين "اسكندرية له". إنها سيرة الجرأة والمكاشفة التي ندر أن اقترب منها المبدعون العرب، لأنهم أنبياء مؤجلون، بحسب الراوي.
من تصريف الماضي في الحاضر ينهض من مثقفي دمشق أصدقاء هذا الذي يبدو أنه يعيش أزمة منتصف العمر بامتياز، وأولهم الشاعر المرحوم رياض الصالح الحسين، وذلك الشاعر الذي لم تسمه الرواية، واكتفت بلقبه "الكوزموبوليتي ماياكوفسكي"، ومثله الممثل العراقي المغمور شكسبير والممثلة جولييت اللذين تكتفي الرواية بلقبيهما طلباً للتقية، على رغم الادعاء الصريح المبطن بالجرأة. والتقية إياها تنتأ بصدد نادر حسن الذي حاول الانتحار لأن ذوي صديقته سناء ملحم رفضوا زواجها منه لدواعٍ طائفية. فالتقية فرضت غياب اسم تلك الطائفة المنغلقة في الجبال، بطقوسها السرية وبذلك "التواطؤ المكشوف بين السلطات الرسمية والسلطة الروحية لهذه الطائفة الصارمة"، فمن تراها تكون أيها القارئ النبيه؟
مع سناء ملحم تنهض سارة صالح أيضاً من ذلك الماضي الذي لا يبدو الحاضر غير تكأةٍ لنهوضه. فها هي رسالتها تصل الراوي بعدما هجرته فجأة منذ تسع عشرة سنة. وها هو - مبللاً بالذكريات المشتتة - يسير في متاهة شوارع يجهلها، تائهاً بين الأمس واليوم. وللمرة الأولى ينتبه إلى أنه يعيش في مصحة، وصدئ تماماً، ومعطل المخيلة. وفي هذا الذي آل إليه، يحاول أن يرد على رسالة سارة، فيكتب: "أغرق أمام مرآة ذاتي المغبشة وأتضاءل إلى مجرد سؤال حائر: كيف تبددت تلك الأيام كالصلصال من بين أصابعنا، لتتحول إلى مجرد رسائل متبادلة أو بطاقات بريدية مهملة في ركن ما؟".
بهذا الهتك الملتاع يعاين الراوي نفسه ويومه ويسترجع أمسه في مونولوجاته وفلاشاته المتوالية، رشيقة حيناً ومبهظة بالشرح حيناً. أما المفصل الحاسم من ذلك كله فهو قرار سارة بالهجرة، وهو ما سيكتشف الراوي سره بعد حين، إذ ورد اسم سارة في إحدى قوائم المطلوبين في ذلك المناخ المحموم بالريبة والتوجس. لكن الراوي سيلعق جرحه وينتقل إلى حنين سلوم صديقة سارة. وحين يعود إلى الحاضر، يستعيد من بداية الرواية شاكيرا فتتكشف عن عاهرة. وتقترب الرواية من نهايتها ببلوغها من مشروعها البريد - الرسالة زمن العولمة، فيشرح الشاعر المفلس للراوي: "فالعولمة يا صديقي أن تتصرف ككائن عولمي بصرف النظر عن الهويات القاتلة أو ما يسمى الغزو الثقافي". لكن الراوي كائن غير عولمي، وتروّعه تبدلات المثقفين: اليساري الراديكالي صار منظّراً أمنياً، والمغني السياسي استبدل العود بسبّحة طويلة من العاج المرصع بالفضة، ومن برع بكتابة النص المفتوح يعمل في مركز غامض للأبحاث الوطنية. وهكذا لا يبقى للكائن غير العولمي إلا أن يلجأ إلى شبكة الإنترنت، بحثاً عن أصدقاء افتراضيين ورسائل ألكترونية، فالعالم بات بالنسبة له شاشة صغيرة. وإذ يمضي إلى "موقع النفزاوي" تكون الرقابة قد حجبته مع مواقع أخرى على يد "رقباء أشاوس تدربوا جيداً على منع الكتب والمجلات الورقية، وها هم يتخبطون في شبكة العنكبوت الضخمة لإعادة العجلة إلى زمن المكتوبجي، وكأن الحياة لم تتغير منذ قرن إلى الآن، فالرقيب العثماني لا يزال يقبع في عقل هؤلاء، ويتنزه بين السطور، للقبض على جملة هاربة بالجرم المشهود".
بالمهارة والسلاسة اللتين وسمتا رواية خليل صويلح "وراق الحب"، جاءت روايته "بريد عاجل" تجسيداً لما هو بحق شكل مرن، متوسلة ما يُدعى بالمنهج الكشفي. وبهذا وذاك طبعت الرواية بالنسبية ما هو راسخ من القيم والأخلاق والعقائد. وعلى رغم غواية الهيمنة للأنا الراوية، فقد ذلّلت الروايةُ الأنانةَ في معظم الذوات القائمة في الماضي، من سارة صالح إلى سناء ملحم إلى حنين سلوم إلى رياض الصالح الحسين. أما الحاضر، فلا تضارع منه تلك الذوات إلا ريم التي تكتب رسائلها بالموبايل. وعلى أي حال، فرواية "بريد عاجل" تبدو مفارقة لما يسوقه الكاتب خارجها في السيرة الروائية أو الرواية السيرية. فالكاتب يذهب مثلاً إلى أن بطل الكتابة الجديدة قد استقال من المهمات العامة ليتفرغ إلى ما يخصه وحده، بخلاف بطل الكتابة الكلاسيكية الذي يتحرك في عالم مملوء بالمعنى والغاية. لكن الراوي في "بريد عاجل" غاطس إلى أذنيه في العام، من فرار سارة لدواع أمنية إلى الطائفية إلى الرقابة إلى العولمة إلى حرب العراق. لكأن الرواية أخذت بما يردده الكاتب خارجها من وصية كالفينو: "فكروا بما يمكن أن يكون عليه الأمر في حال امتلاك عمل روائي متصور من خارج الذات، عمل سيسمح لنا الإفلات من منظور الذات الفردية المحدود، ليس لتدخل في ذوات تشبه ذواتنا فحسب، بل ولمنح كلمات لما لا يملك لغة. وفي هذه الوصية، وكما جاءت رواية "بريد عاجل"، تتخفف الذات من نرجسيتها، وتتشظى في الذوات الروائية ليكون لكل منها حضوره المميز مهما تكن فسحته الروائية ضيقة. ولعل من المفيد لتبيّن الموقع الحداثي المتميز لرواية "بريد عاجل" أن يشار إلى ما لعبته روايات أخرى، سواء في لعبة الأرشيف - كرواية فوزا حداد: الولد الجاهل - أو في لعبة الكتابة السيرية بضمير المتكلم، والتي بلغت مبلغ حمل الراوي للاسم الأول للكاتب، كما فعل منذ ربع قرن غالب هلسا في أكثر من رواية أو عبدالحكيم قاسم في رواية "محاولة للخروج" أو كاتب هذه السطور في رواية "المسلّة"، فضلاً عمن لم يسموا الراوي في رواياتهم كما فعل جمال الغيطاني أخيراً في الروايات التي تجمعها "دفاتر التدوين". وقد يكون من المهم أن يشار هنا إلى أن تشغيل ضمير المتكلم في الرواية السيرية، وكما نوه رولان بارت منذ عقود، لا يتعلق بالكاتب، كما يحسب بعض من يؤثر هذا الضمير أو بعض من يستهجنه، بل يتعلق بالشخصية الروائية ما دمنا نتحدث عن الرواية وليس عن السيرة الذاتية، وسواء كانت تلك الشخصية الروائية هي الراوي أم هي أيضاً من يروي عنها الراوي، فتتعدد بها أصوات الرواية ولغاتها، وهذا ما نراه مبكراً - ومثلاً - في رواية هاني الراهب "المهزومون" كما نراه الآن في رواية خليل صويلح "بريد عاجل". وهنا، ربما كان الامتحان الأكبر لمثل هذه الروايات منذ عهد المعلم دوستويفسكي هو أن تكون الرواية عالم الذوات المتكافئة، وليس عالم الذات الراوية أو الكاتبة المهيمنة. أما رواية "بريد عاجل"، وعلى رغم ما اعتور شخصيات بثينة ونادر والشاعر الكوزموبوليتي، فقد جاءت رواية الذوات المتكافئة في بناء رهيف ودقيق، اغتنى بالمتناصات من رياض الصالح الحسين أو الشيرازي وطرفة بن العبد والمتلمس وابن حزم وابن الأثير. ويبدو أنها اللعبة الأثيرة للكاتب من "وراق الحب" إلى "بريد عاجل"، ولكن بمهارة أكبر هذه المرة، وحيث تعضد الرواية نسبها الحداثي بامتصاصها للغريب، وبلعبة الرسائل التي كثيراً ما بنت الروايات، وكثيراً ما كانت الحلقة المركزية في لعبها، وها هي ترمح بنا في هذه الرواية من عهد الحمام الزاجل إلى عهد الإنترنت.
نبيل سليمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.