من باب تحصيل الحاصل الإشارة إلى أن المجتمع العراقي مجتمع متعب مثخن منهك، بعد عقود من الاستبداد، وأعوام من الحصار، وأشهر من غياب الأمن والخدمات الوافية. ولا يقتصر الإنهاك على الجانب المادي والحياتي، بل يتعداه حكماً إلى البعد الفكري والخطابي. فالنظام السابق كان قد اعتمد منهج إغراق كامل للمجتمع العراقي بصيغة خطابية وبصرية أحادية وصارمة، تبتدئ وتنتهي بشخص صدام حسين، على خلفية من الشعارات البعثية القومية العربية. فانهيار النظام واختفاء قائده كان، حكماً كذلك، إسقاطاً لهذه الصيغة الخطابية، وإن كان اشتمال الإسقاط على البعد البصري أصعب بعد أن جعل النظام السابق من بغداد وسائر العراق معرضاً لتماثيل صدام ونصبه ولوحات تمجيده، وصولاً إلى إقحام الأحرف الأولى من اسمه في ترميم المواقع الأثرية. ولا بد للبدائل عن هذه الصيغة الخطابية من الوقت لتتضح معالمها وتستقر مقوماتها. إلا أن ثمة رصيدا فكريا تنطلق منه بعض هذه البدائل، ويشير لا إلى منحى توجهها الحالي وحسب، بل إلى الصيغة الثابتة التي قد تركن إليها بعد تهذيبها. وفيما يكشف استعراض النتاج الإعلامي والثقافي العراقي في مرحلة ما بعد نظام صدام عن تداول كافة التوجهات الفكرية الجامعة والمانعة على حد سواء، هناك ميل صريح إلى التخلي عن الطرح القومي العربي، وذلك بغضّ النظر عن إشهار بعض التنظيمات القومية، لا سيما الناصرية منها، لوجودها ميدانياً. وأسباب هذا التخلي أولها طبعاً اقتران الشعارات العروبية بالنظام السابق. والواقع أن هذا الاقتران يصل إلى حد الابتذال الفكري كما البصري، سواء في خطابيات صدام التي غالباً ما تذيلت بشعار "عاشت فلسطين" أو في هوس "السيد الرئيس القائد" بتقمص مختلف شخصيات التاريخ العربي الإسلامي في النصب والتماثيل واللوحات التي شذّبت الرصيد التشكيلي العراقي المرموق لتجعل منه مرآة لذوق رأس النظام وقناعته بمكانته التاريخية الفائقة. فبعد أن استحوذ صدام على القادسية ليجعل من حربه على إيران قادسية جديدة منسوبة إليه، وبعد أن فرض التطابق بين شخصه وشخص صلاح الدين الأيوبي، بلغ مبلغ التشبّه بالإمام علي بن أبي طالب، كما في تمثاله في قصر ابنه عدي. بل يسري في المجتمع البغدادي خبر حظر أحد الأجهزة الأمنية في العهد البائد حق استعمال تسمية "الفارس العربي" لأي غرض، باعتبار أن الفارس العربي الأوحد هو صدام حسين. لكن الامتعاض من الطرح القومي العربي في المجتمع العراقي لا يأتي فقط كرد فعل على استغلال النظام السابق له، بل السبب الأول للنفور منه هو الشعور السائد في الوسط العراقي بتجاهل عربي شبه كامل للمأساة العراقية على مدى الأعوام الماضية، بل ابتداء من استيلاء حزب البعث على الحكم في الستينات. فالمجتمع العراقي رزح تحت وطأة نظام شمولي استبدادي لا نظير له في المنطقة، وتعرض لقمع أودى بحياة مئات الآلاف من أبنائه، ولتسفير وترحيل قطّعا أوصال أُسره، ولإبادة جماعية في شماله وجنوبه تشهد عليها المقابر بعد أن راحت أصوات المستغيثين هباء، فيما الوسط العربي منهمك بتأطير النظام العراقي ضمن معادلة القوى في الصراع العربي الإسرائيلي وفي المواجهة الخرافية التي انغمس فيها البعض مع القوة العظمى الوحيدة، أي الولاياتالمتحدة. وسواء صحّت أو لم تصحّ الاتهامات التي تشير إلى إغداق صدام حسين الأموال على الصحافيين عربياً وعالمياً، فإن الممانعة العربية للاصغاء إلى الأصوات العراقية التي حاولت نقل صورة السطوة على الإنسان والمجتمع في بلاد الرافدين أسست فعلياً للقطيعة الحاصلة اليوم بين المجتمع العراقي وبُعده العربي. والقومية العربية ليست وحدها الصيغة العقائدية المتراجعة، ورغم أن سقوطها هو الأكثر دوياً نتيجة الإستخدام المفتعل لها في العهد البائد. فالوسط الفكري العراقي يكاد يخلو اليوم من أية صيغة خطابية تتجاوز الإطار القطري والذي يكاد يشكل الحد الأقصى للانتماء العقائدي. وفي حين أنه أمسى من غير المتوقع اليوم ما بعد سقوط المنظومة الاشتراكية أن تطرح الأحزاب التي تعتنق اليسارية والعمالية والشيوعية مقولاتها الأممية، فإن اللافت هو غياب الطروحات الإسلامية الجامعة. فباستثناء شعارات جدارية قليلة تدعو إلى وحدة المسلمين وإلى إقامة دولة الخلافة، تغيب عن الوسط الفكري العراقي الصيغ المنادية بإقامة حكم اندماجي إسلامي، آنياً كان أو في الأمد البعيد. فالسجال الفكري الناشئ في عراق ما بعد صدام، على رغم السهام الكلامية الموجهة مراراً باتجاه القومية العربية، هو أساساً تنافس وتجاذب بين عراق موحّد وعراقات مجزّأة. ومع أن المرحلة السابقة لسقوط النظام، في إطار حديث المعارضة العراقية عن إقامة نظام اتحادي فيدرالي، شهدت مشاريع أهوائية متضاربة متعددة تمنح القوميات المختلفة أوطانها القومية المتراكبة، فإن المسألة القومية، في العراق الواقعي في مرحلة ما بعد صدام، هي أولاً المسألة الكردية. إذ ثمة أمر واقع في شمالي العراق يقارب الحالة الانفصالية. وفي حين أن المنطقة ذات الغالبية الكردية منقسمة بدورها سياسياً وعشائرياً، بل لغوياً كذلك، فإن أهمية عدم التخلي عن مكتسبات المرحلة السابقة يجمع ما بين قيادتيها. أما على الصعيد الطائفي، فالحذر بين الشيعة والسنة لم ينحدر إلى مستوى الصراع، خلافاً لبعض التوقعات، وذلك للتواصل الاجتماعي بين الطائفتين في أماكن لقائهما، ولخصوصية تاريخية أدت إلى توزع العشيرة الواحدة أحياناً بينهما، كما إلى حرص القيادات والمراجع الدينية على تحريم أي عمل يندرج في إطار ثأري طائفي. فالتجزؤ الذي قد يتعرض له العراق يقع أساساً عند خطوط التماس القومية واللغوية. ولا بد هنا من الإشارة إلى ظاهرة الانضباط التلقائي التي أبداها المجتمع العراقي في مختلف المدن والمحافظات، حيث أن انهيار السلطة، على رغم طابعها الاستبدادي القمعي الشمولي، لم يؤدّ إلى انهيار اجتماعي أو إلى اقتتال فئوي. ولا شك بأن الوضع الأمني، لا سيما في العاصمة بغداد، على قدر من التردي، ولا شك كذلك بأن ثمة عمليات "تصفية" للعديد من المحسوبين على النظام حصلت في كثير من المواقع، بالإضافة إلى حالات تهجير ثأري في المناطق الشمالية، لكن المجتمع لم يفقد تماسكه. إلا أن هذا الانضباط معرّض للتبدد، وخطوط التماس الفئوية والطائفية معرضة لأن تصبح شروخاً، في حال استمرت السلطة المحتلة القائمة في تخبطها واستمرار غياب الخطاب السياسي الجامع. فهذا هو السياق الذي يتوجب أخذه بالاعتبار لاستيعاب الخطاب الناشئ والمتكرر حول "الأمة العراقية". إذ حتى عندما يتخذ هذا الخطاب أسلوب إشهار العداء للعروبة ول"الأمم العربية"، التي يبدو وفق هذا الخطاب أن فضائية الجزيرة "المعادية" هي التجسيد الجوهري لها، فالمقصود به أولاً وضع المشروع التوحيدي الداخلي موضع التطبيق، في مواجهة الانقسامات المحتملة. ويذكر هنا أن خطاب "الأمة العراقية" هذا يشمل الشقين الإسلامي والعلماني من الساحة الفكرية العراقية المتشكلة، بل إن بعض الزعامات الدينية التقليدية باشرت باستعماله. والمقصود بخطاب "الأمة العراقية" أن يشكل تحولاً نوعياً وتجاوزاً جذرياً للخطاب القومي العربي، إلا أنه يأتي غالباً مشابهاً لسلفه شكلاً ومضموناً، ويقتصر الاختلاف على الحد الجغرافي. فخطاب "الأمة" العراقي، كما العربي، قائم على افتراض أحادية جوهرية تُستقى من اختزالات تاريخية استرجاعية وتضع التعدديات المختلفة اللغوية والقومية هنا، مقابل القطرية هناك في موقع العرضية. وهو قائم كذلك على إصرار على استثنائية للأمة التي كانت "ذات رسالة خالدة" وصارت "أصل الحضارة" في الخطاب العراقي الحالي. فضلا عن تقديمه مشروعا طليعيا تتولاه النخبة المثقفة بالأمس كان الحزب للوصول بالأمة إلى شاطئ الأمان. وبعض أصحاب مشروع "الأمة العراقية" يشيرون إلى فائدته وطابعه العملي الهادف إلى توطيد وحدة وطنية، فلا يجدون حرجاً، ضمنياً على الأقل، في استعارة المصطلح القومي. لكن القضية ليست قضية مصطلح ومصطلح "الأمة" بحد ذاته مستعار قومياً من المخزون الإسلامي، بل قضية مخلفات الفكر الشمولي الصدامي في عمق المجتمع العراقي، وضرورة تهيئة الأوضاع الثقافية لتمكين الفرد من تجاوزها، بل من القبول بحالة ثقافية قابلة للتعارض الداخلي أو غير قائمة على سردية كبرى، وراضية بخصوصية محلية لا باستثنائية. فحلّ المسألة الكردية ومنع الانحدار إلى الصراع الطائفي لا يمكن أن يقتصر على شعار "العراق أولاً"، والتضامن الوطني داخل العراق لا يمكن أن يقوم على تحدي قطع التواصل مع محيطه العربي، فيما الأخير بأمسّ الحاجة إلى إعادة تقييم لخطابياته وتناقضاتها. وفي وسع عراق ما بعد صدام إما أن يكون نموذجاً للمراجعة المطلوبة عبر التريث في الصياغة الخطابية، أو محفلاً آخر للصيغ التعبيرية التي يزعم دعاة "الأمة العراقية" رفضها.