قبل بضعة اسابيع، استضافت مدينة باندونغ الاندونيسية الشهيرة ممثلي دول مجموعة "اسروك" أي "مؤتمر المنظمات ما دون الاقليمية الافرو-آسيوية". افتتحته رئيسة وزراء اندونيسيا ميغاواتي سوكارنو بوتري بأن قرعت بالمطرقة على صاج آسيوي. انه تقليد نفير الخطر. شددت السيدة بوتري على بروز "أشكال جديدة من الهيمنة في العلاقات بين الدول المتقدمة والنامية. هل استعادت اصداء "صاج" آخر قرع قبل نصف قرن حينما استضافت المدينة نفسها القمة الاولى لعدم الانحياز التي حضرتها شخصيات وُصِفَت بأنها "تاريخية" مثل ابيها الراحل احمد سوكارنو والرؤساء جواهر لال نهرو وجمال عبدالناصر وجوزيف بروز تيتو. كانت العلاقة بين الدول النامية والمتقدمة في مقدم "خطاب" هؤلاء الزعماء الذين اسسوا لما سيعرف طويلاً باسم "كتلة عدم الانحياز"، قبل ان تجرجر "الكتلة" نفسها تدريجاً إلى الفشل ثم الزوال. وليس المقام هناك للسياسة، ولكن ثمة شيء ما يختمر ببطء ومأسوية في مسألة الهيمنة. وسنقصر الحديث هنا عن الايدز. فالحال انه بينما يهدد هذا الوباء الانسانية بالكوارث، خصوصاً مع توقع انتقال بؤرته من افريقيا إلى اسيا وروسيا، فان الدول الصناعية الكبرى "تهدد" بان تكمل الكارثة عبر منع انتاج ادوية رخيصة لعلاج الايدز. علاج بدولار واحد يومياً وفي التفاصيل، ان الطبيب الهندي يوسف حميد، رئيس شركة "سيبلا" Cipla تمكن من نقل تكنولوجيا صنع ادوية الايدز الى الهند. والمعلوم ان قوانين الهند في حماية الملكية الفكرية في الادوية تقوم على اساس الحفاظ على طريقة تركيب الدواء كسِرٍّ في يد من يخترعه. وتستمر هذه الحماية سبع سنوات، يصبح من بعدها من حق أي كان الاطلاع على طرق التركيب. وانتجت شركة "سيبلا" مجموعة من الادوية المتقدمة في علاج الايدز مثل "ترايوميون" Triomune و"زيدوفير" Zidovir و"ستافير" Stavir و"نيفيميون" Nevimune وغيرها. ووفرت تلك الادوية بسعر رخيص، بحيث لا يكلف علاج المريض اكثر من دولار واحد يومياً. ومثلها فعلت شركة "روكسباي" الهندية ايضاً. والحال ان المطلعين على الاحوال الاقتصادية للدول التي ينتشر فيها الايدز يرون ان حتى هذا المبلغ الزهيد ربما اعاق فرص العلاج وانقاذ حياة المصابين. ومثلاً، فان كثيراً من الناس في افريقيا يعيشون تحت دخل دولار واحد يومياً. يجب ان يكفي هذا الدولار لكل شيء: المأكل والملبس والتعليم والطبابة والسكن وغيرها. اذاً، حتى مبلغ دولار واحد يومياً للعلاج هو فوق طاقة معظم المصابين في افريقيا. وفي المقابل، فان ادوية الايدز التي تنتجها الشركات الكبرى في الغرب هي مرتفعة الثمن تماماً. وتصل كلفة علاج المريض الواحد في الولاياتالمتحدة مثلاً الى ما بين عشرة وعشرين ألف دولار في السنة الواحدة. وهكذا شعرت الشركات العملاقة بتهديد قوي من الادوية الرخيصة التي تنتجها شركة "سيبلا". وحاولت استخدام قوانين منظمة التجارة العالمية في حماية الملكية الفكرية. لكن فداحة الكارثة الانسانية حالت دون ذلك. وتمكنت الدول النامية من اعلاء المبدأ الانساني فوق مصالح الشركات الكبرى في الغرب الصناعي. وفي المقابل، استطاعت تلك الشركات ان تفرض انتهاء السماح بالحق الانساني مع حلول عام 2005. وهنا نصل إلى الكارثة: الحق في انتاج ادوية رخيصة سينتهي في الوقت الذي يكمل فيه الايدز استعداداته لضربته الكبرى في اسيا وروسيا. الخروج من أفريقيا يسود رأي بين خبراء الايدز ان الفيروس "زرع" البذور اللازمة لانفجار موجة وباء في آسيا وروسيا، لتصبح تلك المنطقة على غرار المشهد الافريقي. تضم اسيا وروسيا راهناً ما يزيد على سبعة ملايين مصاب بفيروس الايدز. وتضم الهند وحدها أربعة ملايين ونصف مليون مصاب. ولنأخذ فكرة عن الهول الذي سيرافق خروج بؤرة الايدز من افريقيا، لنبدأ بعرض سريع للوضع في افريقيا راهناً. ثمة 40 مليون شخص في العالم يحملون الفيروس المميت. يعيش اكثر من نصف هؤلاء في دول ما تحت الصحراء الكبرى. وتصل نسبة الاصابة بين السكان تلك الدول إلى تسعة في المئة ممن هم في اعمار تتراوح بين 15 و49 سنة، أي الفئة المنتجة من السكان. في أربع من تلك الدول، تتعدى النسبة الثلاثين في المئة. وفي بلد مثل بوتسوانا، تصل نسبة الاصابة بالايدز إلى مستوى "اسطوري": أربعون في المئة من السكان! في هذه الارقام، يصعب الحديث عن الايدز كمرض بيولوجي فحسب. الارجح انه اعتلال اجتماعي مركب. لعبت الحروب الاهلية، خصوصاً في دول منطقة البحيرات الكبرى، دوراً قوياً في نشر الايدز. ولا تزال الحروب تقوم بدورها هذا "بامتياز". في دول مثل ليبيريا والكونغو مثلاً، يضرب الايدز الفئات العمرية المنتجة، ما يقلص من قوى العمل نفسها. ثمة ثمن اجتماعي باهظ يأتي من تفكك الأسر التي تفقد معيليها، وتزايد الترمل واليتم. الثمن الحقيقي الذي يدفعه الجسد الافريقي يكاد يكون فلكي الارقام. وتزيد حدَّة المأساة ان هذه الكارثة الانسانية لم تثر درجة كافية من الاهتمام العالمي! فعلى رغم حديث الرئيس بوش خلال زيارته الافريقية الأخيرة عن مساعدات، خصوصاً في مجال مكافحة الايدز، الا ان المبالغ المقدمة هي اقل بكثير من مستوى الكارثة. والآن يصل بنا الكلام إلى نقطة الرعب. لنتخيل للحظة ان الايدز كرر صورته الافريقية في آسيا وروسيا. ان الصورة السابقة ستغدو، بالقياس والتناسب، مجرد لهو ولعب! الحديث يدور هنا عن بلاد مثل الهند والصين وروسيا. اما عن الاثار السياسية والاقتصادية المترتبة على هذا الاحتمال، فحدث ولا حرج. تضم آسيا وروسيا خمسة من كل ثمانية اشخاص يعيشون على وجه البسيطة. وتنتج 15 تريليون دولار سنوياً، أي اكثر من الولاياتالمتحدة او السوق الاوروبية المشتركة. وتحتوي حدودها على أربعة من الدول النووية السبعة المعروفة. وتنتمي اليها أربعة من أصل خمسة جيوش في العالم يزيد تعداد كل منها عن المليون جندي. انها ضربة كفيلة بأن ترج الكرة الارضية كلها رجاً. [email protected]