في قلب حي "سان جرمان" معقل كبرى صالات العرض تستمر غاليري "آرليت جيماري" في عرض نحاتين بالغي الأصالة، وهما برنار أوبرتان من مواليد 1934، وبيكار دوجون مواليد 1958. مجموعتان متقابلتان توأميتان تُعلّق على الجدران مثل اللوحات التصويرية، تتواشج خصائصهما على رغم فارق السن بينهما ولذلك من خلال انتسابهما الى "التجريد المفاهيمي" الستيني، هو الذي قضى على آخر بقايا "التجريد الغنائي" مدرسة باريس لنعبر الى شجرة تأويلات تقع بين "الدادائية" و"الآربوفيرا" الايطالي. والى تجربة اللون الأحادي المتغلغل في هشاشة المادة وحجمها المتهافت، والقابل للاندثار على رغم تنويطه المنجز بحساسية اليد وحياكتها الصناعية، والاعتماد في الأساس على واحد من عناصر الطبيعة كجسد للتعبير أو أكثر مثل: الماء والهواء والتربة والنار، وتفريغ العمل الإبداعي من أدنى احالة الى دلالة العالم المرئي أو المتذكر، لأنه يستعيد جسد الكون في حالته الفكر. كما تجتمع التجربتان حول أفضلية تقسيم النوطة الشطرنجية البصرية وفق "مفردة المربع"، واعتماد النور والنار والضوء كمادة تعبيرية تنبجس من المادة. من الغريب أن الكثير من التجريديين الفرانكوفونيين العرب ما زالوا يجترون "غنائية" ما قبل هذه الثورة وكأن الحداثة توقفت لديهم عند عام 1961، هو العام الانفجاري الذي تظاهرت فيه تجارب فنان استثنائي هو ايف كلاين. اشتعل هذا الفنان مثل الشهاب لينطفئ بعد سنوات منتحراً. والمعرض الذي نحن بصدده يمثّل ما كان لدوره من أهمية، فالعارض الأول أوبرتان عمل معه في الفترة نفسها، وظل أميناً على التعبير بمادة "النار"، أما زميلته النحاتة الشابة دوجون العارضة الثانية فتمثل ميراث كلاين من أحاديّة اللون الأزرق الى صمته العميق. في العام الانعطافي المذكور 1961 أقحم أيف كلاين لأول مرةٍ في الفراغ التصويري اللون الأحادي الروحاني، المستقى من التراث التصويري "البوذي" والهندوسي بدرجة ما، لون الصمت والسكينة والوشوشة البصرية التي لا تكاد تضاريسه تبين إلا من خلال تحولات نسيج السطح الرهيفة، كان يغمس بعض العناصر الاستهلاكية مثل أكياس الخيش الصغيرة في لون أصفر أو أزرق أو أحمر، لترتشف صباغته حتى الثمالة قبل أن يعرضها مستقلة اللون حتى الهوس والهذيان، غلب على ألوانه الأزرق النّيلي، الذي كان يدهن به أجساد النماذج العارية، ليحصل على تبصيماتها على الجدران والأرض بما يذكّر بالطقوس السحرية في تبصيمات كهوف "ما قبل التاريخ". من هذه الثورة أيضاً انطلق تيار "فن الجسد" التوليفي "بادي آرت"، ولكن ثورة أيف كلاين واوبرتان تمثّلت في استبدال التوازن اللوني العريق في المشهد التجريدي المستقى من المنظر الانطباعي باللون الروحي أو الصوفي الأحادي، نجده في بعض النماذج الذوقيّة في الصناعة العربية - الإسلامية عندما نطالع التصوير بلون الذهب على الذهب وبلون النور على النور، والإحالة المبكرة في هذا المقام نعثر عليها في احدى رسائل فان غوخ الى أخيه ثيو عندما يسأل بطريقة عبثية لا تأمل جواباً: "لماذا لا نصوّر باللون الأصفر على جدار أصفر؟"، نقع في هذه الحقيقة العدمية على معنى التصوير الجديد، حيث يؤكد إيف كلاين بأنه: "أينما نجد فراغاً نعثر على النار". نقع في هذا المحور على عقيدة أوبرتان التي حافظ عليها واختص بها الى اليوم: غبطة النار وأبعاد حرائقها الوجدية - العدمية، وتراكم علاقتها بالإنسان منذ اكتشافها وعبادتها وتراكم الصناعات التي تدعى "بفنون النار" مثل الخزف والسيراميك والزجاج المعشق. كتب الناقد شارب عام 1968، عن تجربة أوبرتان مذكّراً بموجة استخدام عناصر الطبيعة في التيارات البصرية والحركية عموماً مستعرضاً تحت عنوان: "النحت في النار" معارض أوبرتان وعناوينها: عام 1961: "اسطوانات من النار"، وبداية استخدامه لأعواد الكبريت بحالة اشتعال، ثم معرض 1962: "طريق النار" حيث استخدم رسوماً. تمثل آثار حرائق أعواد الكبريت كأحدث ضوئية - ثم في العام نفسه معرض "قفص الدخان" عارضاً علباً معدنية مثقوبة عند مصابيح الكهرباء ثم "كتب النار" عرض قسماً منها في المعرض الراهن صفحات من كتب محترقة، ثم "جدران النار" ثم "أشياء نارية". ابتدأ "أوبرتان" في العام نفسه الذي اكتشف زميله "كلاين" اللون الأحادي باستخدام المسامير المغمسة باللون الأحمر يزرعها ضمن حياكة شطرنجية في الفراغ مغتبطاً بتحولات اللون وفق زاوية رأس المسمار، تماماً مثل سطوح تربيعات السيراميك التركوازي، والتي درج الصُنّاع على تجنّب تماثل اتجاهات سطوحها مقابل الشمس، من أجل أن تعكس كل تربيعة الأشعة بصيغة متغايرة. سطوح أوبرتان"المزروعة بالمسامير واللون الواحد تملك هذه السمة الصيروراتية. حين ينتقل الى حرائق صفحات الكتب نحس بالتنوع الرهيف نفسه في تواتر الصفحات، يرى الناقد "هانز هاك" في مجمل هذه المخططات الذهنية صراعاً ديناميكياً بين نار فان غوخ وديكارتية موندريان. يعترف "أوبرتان" بتأثره بكلاين عام 1957 عندما كانا يعملان معاً وينتقد عام 1965 شتى أنواع التعبيرية واللاشكلية بأنها منطوية على طوباوية من السيرة أو البطولة الملحمية الذاتية، في حين أن نقطة التواصل مع المشاهد تبتدئ من شمولية التعبير، وليس من الاستغراق في عزلته الذاتية، يتناسى في هذه الأطروحة أن العادات الجمالية، أو التعبيرية لا تخلو من التواصل الأليف. العارضة الثانية دوجين أشد تأثراً بأيف كلاين بسبب فارق السن ربما، تتعقّب الأثر المتهافت في اللون الأزرق نفسه، تبدو منحوتاتها أشد "مفاهيمية" وانسلاخاً عن مفهوم سطح اللوحة، تعرض شطرنج منحوتاتها على الأرض ضمن احتمالات الدوس بالأقدام. كثيراً ما تعتمد على التأثير الكرافيكي المباشر، وعلى صراحة اختيار المادة مثل الرصاص والبرونز والزنك والزجاج، هو الذي يحمل الصباغة والأكاسيد المهندسة، تحيك الفراغ بطريقة أوبرتان نفسها، عبر شطرنج "ديكارتي" متعامد، أشبه بسطوح تربيعات السيراميك. ولكن أعمالها تبدو أقرب الى المجسمات أو الانشاءات الفراغية، لأنها تستخدم رزماً من السطوح المعدنية المكدّسة فوق بعضها البعض وكأنها رزم متوحدة الشرائح. تتفوق أهمية أوبرتان من ناحية تفوّق خصائصه المتميزة عن زميلته "دوجين" ولا يوحدهما سوى الاتجاه النقدي نفسه، وخرائط الفراغ الشطرنجي المتعامد. تتفوق أهمية المعرض بالنسبة الى الذائقة التشكيلية العربية بسبب "رجعية" التجريد الشائع في محترفاتها مقارنة بقوة حداثة التيارات التشخيصية، وهي ظاهرة تحتاج الى تحليل نخبوي قد يكون من هواجس أهل الاختصاص أكثر من الجمهور العريض.