لم يكن المظهر الجذاب لخالد بن موسى وعادل الطائع يشي بانتمائهما الى"كاريان طوما" أحد أفقر أحياء الصفيح في سيدي مومن في الدار البيضاء. فعلى رغم الفقر المدقع، كان الشابان الوسيمان حريصين على مظهرهما. أحذية "النايكي" وقمصانهما الشبابية الخفيفة جعلتهما جديرين بصداقة يوسف الكوثري، أكثر أبناء "كاريان طوما" أناقة. كان يوسف في الثلاثين. وخالد وعادل في الثانية والعشرين. وكان للثلاثة موعد يومي أمام باب ثانوية محمد السادس للتحرش بتلميذاتها. لكن، في رمضان الماضي، وبشكل مفاجئ، تغير كل شيء. تخلى الشبان الثلاثة عن موقعهم أمام باب الثانوية، وعن أحلامهم في "الحريك" إلى إسبانيا. وفاجأوا جيرانهم وأصدقاءهم بمشهد استعراضي لافت وسط الحي. مشهد إحراق ملابسهم. أحد رفاقهم القدامى تقدم منهم محاولاً إنقاذ "تي شيرت" أنيق عليه صورة العلم الأميركي. لكنهم كانوا صارمين في إبعاده وبدأوا يصيحون وسط الحي بحماسة "الله أكبر، الله أكبر". كانت ألسنة اللهب قد أتت على مرحلة جميلة من عمر الثلاثة، ليراهم سكان "بلوك 5" في "كاريان طوما" في اليوم التالي متنكرين في ملابس أفغانية وملامح أكثر صرامة. لكن الأمر لم يثر أحداً. فأبناء "كاريان طوما" وغيره من أحياء سيدي مومن القصديرية البائسة، اعتادوا على مواجهة الفقر بالتدين والمخدرات. وهكذا صار خالد وعادل ويوسف يتزاحمون على الصف الأول في مسجد طوما الصفيحي. وهناك توطدت علاقتهم أكثر بأصدقاء آخرين في سنهم من أبناء الحي. كخالد التائب ذي ال22 ربيعاً، وسعيد عابد الذي كان يعيش في كنف زوج أمه بعد أن هربت والدته وتركتهما معاً، ومحمد العرباوي ابن بائع أكواز الذرة المقلية، وابن عمته رشيد جليل، ومحمد العروسي الذي عاش طفولة صعبة مع زوجة أبيه وحاول أكثر من مرة الهجرة سراً إلى إسبانيا من دون جدوى، وعبدالفتاح بوليقدام الذي لم يذق قط حنان الأب فهو يعيش مع أمه المطلقة في أحد الأكواخ منذ سنته الأولى، ومحمد مهيني الوحيد الحاصل على البكالوريا بينهم. التحق بالصف الأول في المسجد ثلاثة شبان آخرين من خارج "الكاريان". عبدالرحيم بلقايد القادم من دوار الغالية المجاور، ومحمد العمري حارس الدراجات الذي يسكن في دوار دراعو، ثم المعلم المتخرج حديثاً محمد حسونة المزداد والقاطن في إحدى عمارات حي الضحى المجاور، وهو حي راقٍ نسبياً. كان الفتية الخمسة عشر حريصين على الصلاة في الصف الأمامي مباشرة وراء الفقيه العربي القصراوي إمام مسجد طوما. وعلى رغم أنهم كانوا يحاولون فرض أفكارهم على أهل "الكاريان"، بالعنف أحياناً، حاول السكان تجنبهم قدر الإمكان. حتى يوم الجمعة 16 ايار مايو الماضي حينما شاهدوهم يغادرون "كاريان طوما" حليقي اللحى وقد ارتدوا ملابس من النوع الذي أحرقه يوسف وخالد وعادل أمامهم قبل أشهر فقط باعتباره يخالف السنة النبوية، لم يسألهم احد عن وجهتهم، ولا عن سر هذا التحول الجماعي المفاجئ. كان على سكان "الكاريان" أن ينتظروا صباح السبت التالي ليستيقظوا على مشهد هوليوودي غريب: دوريات الأمن تطوق "كاريان طوما" وتشن حملة اعتقالات ومداهمات. فهم الجميع القصة. فيوسف الكوثري ورفاقه غادروا "الكاريان" بذلك الشكل ليس لأنهم اشتاقوا إلى التسكع قليلاً في ليل الدار البيضاء البهيج الحافل بالمتع والمسرّات، ولكن، لتنفيذ سلسلة من التفجيرات هي أكبر عملية إرهابية في تاريخ المغرب المستقل. أكثر من أربعين قتيلاً وعشرات من الجرحى كانت حصيلة التفجيرات الإنتحارية التي دبّرها آخرون بالتأكيد لينفِّذها يوسف الكوثري ورفاقه. لكن بينما كان الانتحاريون الشباب ينسلخون عن إنسانيتهم ليتحولوا إلى قنابل نسفت نادي دار إسبانيا، نادي الطائفة اليهودية، والمقبرة اليهودية، ومدخل فندق فرح، إضافة إلى مطعم مجاور للقنصلية البلجيكية، عاد رشيد جليل إلى إنسانيته حين فاجأته فتاتان تجمعه بهما قرابة عائلية أمام دار إسبانيا. تراجع في اللحظة الاخيرة. والشيء نفسه حصل لمحمد العماري الذي لم يتمكن من تفجير نفسه، فولى هارباً قبل أن يلقي عليه القبض سائق سيارة اجرة. وتحكي فاطمة الزهراء التاريخي، زوجة العماري، أن محمد كان أرسلها إلى بيت أمها المريضة في المدة الأخيرة. وأنه زارها يوم الثلثاء 13 ايار مايو الماضي حاملاً لها ساعة يدوية كهدية. وبقدر ما أسعدتها الهدية، أثارتها الطريقة الغريبة التي كان محمد يقبل بها طفلهما الزبير الذي لا يتجاوز عمره الستة أشهر. وقبل أن يغادر طلب منها أن تجهز نفسها للعودة معه يوم الجمعة المقبل. يوم الجمعة لم يأت الزوج. وفي صباح السبت، قبل آذان الفجر، كان رجال الشرطة يطرقون الباب بقوة. أخبروا فاطمة الزهراء أن زوجها تعرّض لحادثة سير وعليها أن ترافقهم. وهناك وهي تخضع للاستنطاق ستعرف أن الانتحاري الناجي الذي ألقي القبض عليه في أحداث الأمس لم يكن سوى زوجها أبي الزبير. أبناء "كاريان طوما" اليوم ما عادوا قادرين على الإفصاح عن انتمائهم الى هذا الحي الصفيحي. رضوان شاب من "كاريان طوما" يستعد لامتحانات البكالوريا يعترف بأن وضعهم صار أكثر حرجاً من السابق، ويقول "في السابق، كانوا ينظرون إلينا باحتقار باعتبارنا أبناء الأكواخ القصديرية. لكن اليوم سينظر إلينا الجميع على أننا إرهابيون". لكن بلدة المعمر الإسباني "مسيو توماس" لم تكن تخيف أحداً في السابق، على العكس. فحتى بداية السبعينات من القرن الماضي كانت هذه البلدة إلى جانب بلدات أخرى مجاورة تشكل منطقة "لو بو سيت" أو "الموقع الجميل". كان "سيدي مومن" حينها حياً نموذجياً بتصميم أوروبي رائع. شوارع فسيحة، وفيلات فرنسية أنيقة شاسعة تزهو بقرميدها الأحمر البهيج. لكن المستعمرين غادروا هذه الضاحية البيضاوية الهادئة تباعاً، وجاءت مافيات البناء لتُحول "الموقع الجميل" إلى مستنقع حقيقي. هجم الصفيح والبناء العشوائي. وهكذا تحولت بلدة "مسيو توماس" إلى "كاريان طوما"، المدرسة اليهودية المعروفة ب"سكويلة اليهود" إلى "كاريان السكويلة"، فيما سطع فجأة نجم امرأة مشبوهة اسمها الغالية بدأت تقوم بدور الوساطة بين المهاجرين القرويين البسطاء وسماسرة غامضين، لينشأ حي صفيحي باسمها هو "دوار الغالية"، وتوالت أحزمة البؤس: "كاريان الرحامنة"، "زرابا"، "دوار الغازي"، ليصير ل"سيدي مومن" حزام واسع من أحياء الصفيح يغطي 30 في المئة من المساحة وتقطنه حوالى 13 ألف أسرة. كانت هذه الأسر طوال السنوات الماضية مجرد احتياطي انتخابي ينشط فيه سماسرة الانتخابات. وما إن تنتهي الانتخابات حتى تعود هذه الأحياء الهامشية إلى بؤسها. فعلى امتداد عشرين سنة لم تشهد المنطقة استثماراً عمومياً واحداً. هناك مؤسستان تعليميتان يتيمتان: مدرسة ابتدائية، وأخرى للتعليم الإعدادي. ولأن هاتين المؤسستين لا تلبيان احتياجات سكان الكاريانات بجيوش أطفالها، فضّل الصغار أن يتعلموا أشياء أخرى خارج أسوار المدرستين. وحتى المحظوظون في ايجاد مقعد مدرسي، سرعان ما يغادرونه بعد سنوات قليلة من التعليم الابتدائي مطرودين في الغالب. أو ينقطعون احياناً اخرى بلا سبب ليلتحقوا ليس بالشارع، ولكن بأزقة "الكاريان" المتربة. في أحزمة البؤس في "سيدي مومن"، ليست هناك دور للشباب ولا مراكز ثقافية. ولا أي شيء. حتى الأمن، يقول سعيد، أحد شباب كاريان السكويلة، "فهو غير مضمون. لدينا هنا في السكويلة ما يناهز 40 ألف نسمة يحرسهم دركيان اثنان فقط. لذا تعايشنا هنا مع كل أنواع الإجرام وكل أصناف المخدرات. وداخل غالبية الأسر تجد تعايشاً مستحيلاً بين أخ يتاجر في المخدرات، وأخ متطرف دينياً، وأخت تبحث عن رزقها في ليل الدار البيضاء. لذا تنشب معارك حقيقية داخل الأكواخ بين أفراد الأسرة الواحدة. أما المشاجرات في الأزقة فهي يومية. وكثيراً ما تُستخدَم فيها السكاكين". والطريف أن الأحزاب السياسية المغربية حذت بدورها حذو السلطة في تجاهل هذه الأحياء القصديرية تماماً. فباستثناء كوخ قصديري متهالك اتخذه حزب الاستقلال مقراً له في "كاريان طوما"، ليس هناك أي تواجد حزبي داخل هذه الغيتوات. في الانتخابات فقط تظهر الأحزاب عبر سماسرتها. جعلت ظروف العيش الصعبة التي يتخبط فيها سكان "كاريان طوما" خالد بنموسى وعادل الطائع ويوسف الكوثري يفكرون بجدية في ركوب "قوارب الموت" باتجاه الضفة الأخرى للمتوسط. لكن أنصار جماعتي "التكفير والهجرة" و"الصراط المستقيم" المنتشرين بشكل رهيب في أحزمة البؤس، اقترحوا عليهم وجهة أخرى. ربما أقنعوهم بأنه بدل المجازفة بحياتهم من أجل العيش في إسبانيا من دون أوراق إقامة، فالأفضل لهم أن يستقلوا قطار الرعب في رحلة مضمونة باتجاه الفردوس. لكنهم لم يقولوا لهؤلاء الفتية المغرر بهم أن رحلتهم الشيطانية لن تقودهم إلا إلى الجحيم. الجحيم الذي عاشته العاصمة الاقتصادية للمغرب، الجحيم الذي لن ينساه المغاربة بسهولة. - الكاريان : حي الصفيح. - البلوك: جزء من الحي. - الحريك : الهجرة السرية.