خطة بريمر لإدارة الشؤون العراقية فيها ما ينبغي من الواقعية، ليس من المتوقع طبعاً أن تنتهي الى نجاح، لكنها يمكن أن تؤمن الحد الأدنى من إمكان تأجيل صدام لم تكتمل عناصره بعد، ومن ثم تطويل أمد بقاء القوات الأميركية كقوة محتلة لا تزال بلا تاريخ انسحاب محدد وغير متفاوض على وجودها، ولكن الخبير المعروف في شؤون الإرهاب، يبدو من جهة أخرى وكأنه يمشي فوق سطر ويترك السطر الآخر، مثلاً هو فهم الدرس وقرر على العكس من سلفه غارنر، أن جماعة ما يسمى المعارضة السابقة هم قوى غير مقبولة، على الأقل لا يمكن المراهنة عليها ضمن أي مشروع لإدارة البلاد، لكنه من جهة أخرى كرس بمجيئه أسساً لفصل استعماري تقليدي تماماً، قائم على الادارة المباشرة، ومعنى ذلك انه راهن بأن تأكل مساوئ خطوة اقامة ادارة احتلال مباشر، حسنات خطوته أو عزمه على تغيير طبيعة التعامل مع جماعة المعارضة المجلوبة مع الاحتلال والمرفوضة كلياً من المجتمع، بينما لا تزال الألاعيب والخطط المبنية على تخويف المجموعات بعضها بعضاً هي المتحكمة بمنطقه. من مشكلات ادارة الاحتلال انها تواجه شبحاً، فليس من الضروري دائماً أن تغدو السياسة مجسدة في مواقف تعكسها شعارات وتصريحات، ومدارة من جهات منظمة، والدرس العراقي منذ وقت بعيد، أفضى الى حلول نمط من تحقق الموقف السياسي الشعبي سبق وأطلقنا عليه تعبير - حركة مجتمع مقطوع الرأس - ولن نكرر هنا التمرين الذي سيعيدنا الى تحويرات جوهرية وتاريخية طرأت على آليات العملية الوطنية خلال عقود حكم صدام حسين فبدلتها كلياً، لقد سبق وتطرقنا لذلك خلال متابعة أجريناها لانتفاضة 1991 وأيضاً لظاهرة الصدر الثاني، والآن نريد أن نذكر بهذه الحقيقة الفاصلة لأنها هي التي تجعل إدارة الاحتلال، وتلك القوى العائدة في ظلها، تكرران انماطاً من الممارسات خارج الحقيقة التاريخية العراقية الراهنة، فيتابع هؤلاء منطقهم، بينما يتابع المجتمع الذي لا رأس له منطقه المستمد من تجربته واختباراته التي راكمها خلال أقسى ثلاثة عقود من تاريخه، وينبثق أمامنا عالمان لا لغة بينهما، أي أنهما كما تقول كل التجارب: الصحن الذي فيه تتفجر عادة الثورات. يفعل بريمر ما ينبغي له ولكن الحس الشعبي للعراقيين يلتقط الإشارات: لماذا لا ينزع سلاح القوى الكردية المسلحة وما الذي يعنيه عدم القاء القبض على صدام حسين حتى الآن مع مواصلة اللعب على أحجية موته أو حياته، لقد أصدر الحاكم الأميركي أخيراً أمراً يقضي بتجريد العراقيين من الأسلحة ولكن العمليات شملت النجف وكربلاء وجماعة فيلق بدر أكثر من أي مناطق أخرى، وأهملت زاوية التوتر في المثلث الشمالي الغربي بينما الكل يتطلع لمناطق الأكراد المدججين بالسلاح، سرق هؤلاء مئات الدبابات والأسلحة الثقيلة والمدافع من كل الأنواع، باعوا بعضها بأثمان بخسة للمهربين عبر الحدود، وكدسوا بعضها الآخر، كل هذا وهم لم يعودوا مهددين من المركز، لا وجود لجيش عراقي ولا دولة، وبما أنهم يملكون السلاح ولديهم برلمان وحكومة، إذاً فهم إما عصابة مسلحة خارجة على القانون - الاحتلال بحسب القوانين الدولية مسؤول عن تطبيق القانون - أو دولة مستقلة في مناطقهم، لا بل هم أكثر من ذلك وأغرب، خصوصاً حينما يتصرفون كقوة تمارس قدراً من السيطرة المسلحة تصل الى بغداد، انهم يملأون العاصمة بالمسلحين ولدى قادتهم بلاطات يستقبلون فيها الناس كحكام. وبينما تتواصل الآن العمليات العسكرية ضد جنود الاحتلال في الفلوجة وتكريت وبيجي وصولاً الى بغداد نفسها يسمع أيضاً صوت منادين - أين أبناء الجنوب - في حين الاشاعات تعمل حالياً بقوة كما في كل مفاصل تاريخ العراق، عمل الكشاف، والأسئلة تتردد همساً وفي العلن، ترى ما الذي جرى بين صدام حسين والأميركيين قبل ان تسلم بغداد؟ أليس هنالك من فصل أخير ما زال مخبأ في مكان ما، بعضهم يذهب الى حد القول ان غارنر ربما يكون أطيح به لأنه فتح بوابة المقابر الجماعية اعتقاداً منه بأن ذلك هو الرد المناسب على بدء صدام حسين بإرسال الرسائل للصحف، هل غارنر غافل أم ان الادارة الأميركية من سماتها الفوضى، وهل هو من الجهل حيث يمكنه ان ينسى أن قضية المقابر الجماعية هي جريمة مشتركة نفذها الأميركيون وصدام حسين معاً عام 1991، بوش الأب الذي شجع العراقيين وخذلهم، وطاغية بغداد المتعطش للدماء؟ من المؤكد ان صدام وعائلته هم الآن تحت الحماية، ولكن الحذر يجعل أهل الجنوب يتخوفون مما هو أسوأ، وبعضهم يتخيلون مشاريع قد تفتح الباب عند الحاجة للتقسيم، وهذه المخاوف ستظل تراودهم ما دام صدام مختفياً، إلا إذا بادر أهالي الشمال الغربي والبعثيون في العراق كله وأطلقوا موقفاً سياسياً من داخل حزب البعث وباسمه، مثال على ذلك ان يدعموا توجهات من قبيل تلك التي وقع عليها أخيراً نعيم حداد وقياديون بعثيون. على هؤلاء أن يفصحوا من دون مواربة عن تبرؤهم التام من الصدامية وصدام حسين، أن يقدموا تحليلاً قاسياً للأسباب التي جعلت مثل هذه الظاهرة الرهيبة والمخزية تحكم العراق باسم حزب البعث، عليهم ان يعتذروا علناً للشعب بكل فئاته، وألا يتركوا مجالاً لأي التباس يمكن ان يوحي ببقايا تعاطف مع تلك الفترة من تاريخ سيطرتهم على مقاليد حكم العراق، والأهم ألا يبقوا أثراً لأي تحفظات يمكن ان تشوب حكمهم عليها أو على رمزها، وسيكون مما يثمن على أوسع نطاق لو أنهم بادروا من تلقاء انفسهم الى انهاء الحزب، وفكروا جدياً وعملياً بتغيير اسمه ومنطلقاته قبل إعادة تأسيسه بوجهة تعريقه. ربما سيعترض البعض تحت حجة ان مثل هذا التوجه يوافق القرارات التي اتخذها الاحتلال الأميركي بخصوص حزب البعث، هذا غير صحيح على الاطلاق. فمحاكمة حقيقية وصادقة للحزب من قبل الحزب نفسه وبارادته هي اليوم مطلب وطني، يضر الى أبعد حد بالاحتلال ويهز أهم ركائز وجوده، وهو بالذات، وليس العمليات المنطلقة من اليأس والاحباط وممارسات جنود الاحتلال الفظة، الشرط الذي سيؤدي بأهل الوسط والجنوب لأن يتجاوزوا ريبتهم الحالية، والتي هي من دون شك، مفهومة ومبررة تماماً بحكم الوقائع والتاريخ، وستكون خطوة المراجعة أول دلائل النضج الضروري في الوضع الراهن، لدى فئة مطالبة بأن تتصرف بمسؤولية يفترض أن ترتقي الى مستوى تعقيد ونوع تحديات لحظة لا تعالج بغير تقديم اضافات نوعية تساعد مباشرة على تسريع آليات العملية الوطنية العراقية وترسي أسس المقاومة بمعناها الوطني الأشمل. ونحن إذ نتحدث عن هذه الناحية من نواحي الضرورة الوطنية لا ننسى أن موضوع مبادرة البعثيين الى "نقد وتشريح" تجربتهم هو من مقتضيات التغيير المؤجلة، فالاحتلال ترك على رغم الضجيج مهمة تغيير النظام وانشغل بتدمير الدولة، والفراغ والفوضى المريعة هي من الاثباتات الدامغة على كذب الدعوات التي كانت تبسط قضية التغيير الديموقراطي وتوحي بأنها يمكن أن تتحقق بالتدخل الأجنبي والحرب، بينما تدرج هذه الآن ضمن مسار تحول تاريخي طويل ومعقد، ربما ستتداخل فيه مهمات التحرر الوطني بالتغيير الديموقراطي، وفي هذا السياق لا بد من أن نتذكر وقائع العقد الماضي، وبالذات المهمات التي ألقتها على البعثيين مواجهة ما بعد 2 آب أغسطس 1990. لقد وضع الحزب المذكور منذ ذلك الوقت أمام ضغط ضرورات متناقضة وحادة، ومر في واحدة من أخطر محطات تاريخه تكرست خلالها الى أقسى حد سلطة الفرد والعائلة على حساب بقايا الحزب ودوره الذي ظل مهملاً، وفقد في بعض الفترات مكانته تماماً، ولكنه لم يستطع التعبير عن نفسه، وأثبتت التطورات أنه مفرغ من المبادرة وأضعف من أن يعين سبيلاً يعيد له المبادرة التي كانت ولا تزال محددة في ضرورة هجرانه موقع التفرد بالسلطة المطلقة والتحول الى قوة مشاركة في الحياة السياسية، وها هو الآن محكوم بأن يقوم بأسرع وأكمل ما يمكن بهذه المهمة إذا أراد أن يسهم في معالجة أو التخفيف من وقع الكارثة الوطنية التي تسبب هو في جلبها. لا أحد بالطبع سيقبل ما دون ذلك، وخصوصاً أن يوحي البعض بأنه في الإمكان لأي سبب كان الاستماع لنداءات الوقاحة التي يقال ان صدام حسين يطلقها من مخبئه الآن: لقد تسبب صدام حسين خلال ثلاثين سنة في: تدمير الحركة الوطنية العراقية، وتدمير ثروة العراق، وأعاد العراق الى عهد الاستعمار والاحتلال المباشر. وهذه ثلاث جرائم تاريخية لا يمكن أبداً تخيل ما هو أفظع منها على الاطلاق سوى الادعاء بأن هذا الشخص يمكن أن يكون قادراً اليوم على قيادة مقاومة ما أو على مجرد التفكير بأنه يملك حق الاستمرار في ممارسة أي نوع من أنواع العمل السياسي. قد يحتاج الجميع ومنهم أعضاء وكوادر حزب البعث اليوم الى تبين نمط المقاومة الوطنية الممكن بالفعل، فالبعض من هؤلاء يشجع أو ينخرط في العمليات المسلحة المباشرة، وقد يكون هنالك من يظن بأن هذا النمط من العمليات سيمنحه دوراً مؤثراً في الأحداث، ومع أن بعض هذه العمليات يمثل حالياً ردود أفعال مباشرة وغير منسقة، إلا أنها على العموم ستظل محصورة ولن تصبح ذات فاعلية من دون أن تحل المعضلة السياسية، التي لوحدها يمكن أن تنقل المواجهة الوطنية نحو سياق مناسب لطبيعة التحدي الملقى اليوم على العملية الوطنية العراقية، وهذا أمر يجب ألا تكون له علاقة أبداً ببقايا الصدامية المقبورة أو بتجلياتها الباقية. فالعراق اليوم ليس أقل من حال نموذجية من حيث طبيعة الاحتلال الواقع عليه، ذلك لأنه بلد يجرى احتلاله احتلالاً مباشراً وعلى طريقة الاستعمار القديم، على رغم أنه كيان متحرر وله دولة قامت قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن ومر بتجربة حكم شمولي عائلي شديد القسوة والدموية، وفقد في السياق نمطاً من المفاهيم والتشكيلات والقوى والأحزاب والأفكار التي كانت تمثل حركته الوطنية الأولى، التي نشأت مع نشوء الدولة الحديثة، ليعرف بعدها وتحت الحكم صدام حسين نشوء أنماط جديدة ومناسبة من التعبيرات والأفكار والتوجهات تجسدت بسرعة مع بدء الاحتلال، فسارت تباعاً تظاهرات كانت ترفض سلطة الأحزاب الميتة الآتية من الخارج من جهة، وجسدت ارادة المجتمع عبر تنصيب ممثليه في الادارات واشكال السلطات المحلية المنتخبة بعد انهيار الدولة، وهذان هما اليوم المحوران اللذان يمثلان قاعدة تعبير المجتمع عن ذاته، وعن مستوى وأشكال تطور منظوره السياسي المباشر. وفي الموصل كما في البصرة المدينتان الأكبر بعد بغداد والمختلفتان تماماً من حيث التكوين المذهبي والقومي، تتجلى هذه الإرادة بأوضح شكل وبصفاء لا يقبل الجدل وهما ليسا سوى مثالين بارزين جداً يتكرران في طول البلاد وعرضها. ويبدو النقص في الاستعداد الوطني الآن بارزاً على المستوى السياسي، فلم تثبت القوى الموجودة في الداخل على رغم فاعليتها النسبية انها مبادرة وفاعلة، وتيار الصدر الثاني الذي يتمتع بجماهيرية واسعة كشف عن قصور قيادي، وما زالت هنالك حاجة كما أسلفنا لأن يستكمل خطاب الشيخ أحمد الكبيسي الشهير بموقف أهم وأشمل يأتي من حزب البعث، كما يتعين على التيارات الوطنية غير المرتبطة بالاحتلال أن تتمكن من إقامة جبهتها الوطنية على الأرض، وهو ما تسعى إليه في الوقت الحاضر بعيداً من الضجيج والاستعراض، ولا بد من تأطير حركة العشائر وطنياً، كما يجب الاحتكام بوعي الى العنصر الحيوي في المشهد برمته اي الى الحركة الشعبية العفوية الأكثر فاعلية وصواباً حتى الآن، وعموماً لا بد من الاصرار على تثبيت شعار - المؤتمر الوطني التأسيسي المستقل - واعتباره مصدر الشرعية الوحيد وأساس اعادة بناء الدولة العراقية على أسس الديموقراطية والتحرر الوطني. وكل هذه كما هو واضح مهمات ليست للانجاز السريع، وان حضوراً منسقاً للسلطات الذاتية المنتخبة والعشائر والقوى الحية الجديدة مع الاصرار على تجاوز الحقبة الماضية بكل تعبيراتها وبقاياها، هو الذي سيهيئ أسس المقاومة الشاملة، وكل هذا بالطبع يتوقف على اكتشاف آخر يتعلق بالمحركات والأهداف البعيدة والقريبة، انها حقبة جديدة كلياً، غير تقليدية، وتاريخية، تنبئ بإعادة صوغ العراق وحركته الوطنية، بمواجهة خطوات احتلال تبدو تقليدية تماماً. ان حضور وتداخل الماضي والمستقبل فوق أرض العراق قد يجسده بجلاء، اجتماع العشائر الذي تجرى الدعوة والتحضير له الآن على أمل أن يعقد يوم 30 حزيران يونيو أي في ذكرى ثورة العشرين الوطنية الكبرى. * كاتب عراقي مقيم في باريس.