قد يكون عاصم أبو شقرا من أبرز الفنانين الفلسطينيين، خصوصاً إذا تذكّرنا أنه التمع مثل البرق والشرارة الملتهبة، ثم ابتلعه الموت وهو في التاسعة والعشرين من عمره، بل ولا يتجاوز عمره التشكيلي أكثر من سبع سنوات. رسم عاصم وطناً للمأساة الفلسطينية في أصيص الصبّار، ثم استمرت رنا بشاره في إنعاش أشواك وصيته هذه. هاكم قصة الشابين المبدعين من مواطني 1948، ونحيبهما التشكيلي: يتمثل شبق اسرائيل الإجرامي في طريقة تغطية تاريخ مذابحها ومحقها للقرى الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى اليوم. وقد يمهلها القدر أكثر لتمعن في تدمير الخريطة المادية التراكمية والروحية كما هي كل يوم، تمثل ملحمة عاصم أبو شقرا ارتباطه الطفولي بهذه المأساة والتيتّم المكاني السيزيفي الأبدي. وذلك من خلال تصويره لتحولات وجدانية على نبات الصبّار، ذلك الرمز الداخلي المرير الذي يرتبط بمأساة محق القرى والخرائط والذاكرة، وقدرة المقاومة الصبّارية والصبورة الفلسطينية على النهوض كل مرة من تحث أنياب ومخالب "البلدوزر" ليرسم فضيحة المقابر الجماعية تحث القرية المبادة أو المشطوبة من السجلات الرسمية. لا يمكن الوصول الى تجربة عاصم قبل المرور من لوحات ابن عمه المصوّر الأكبر سناً: وليد أبو شقرا هو حفار معروف أنظر لوحتين له على الصفحة 18 و19. تخصص في الرسم أو الحفر الطباعي في موضوع الخصائص البيئية للقرى التي يعيش في كنفها، والتي كانت تدمّرها اسرائيل بصورة آلية. يصوّر الكائنات النباتية وأشجارها بأسود درامي، شاهد على عناد الذاكرة "الايكولوجية" من الاندثار والموت والنسيان. يكتب كمال بلاطه عن شروط طفولة وليد أبو شقرا في قرية "أم الفحم": "كما أهل أم الفحم قد شهدوا كيف تم تهويد البلاد من حولهم كما تجلّى ذلك في حياة أقاربهم وأصحابهم من القرى المجاورة الذين لجأوا إليها بعد ان نسفت مساكنهم بيتاً بيتاً، واقتلعت كرومهم وأشجارهم وصودرت أراضيهم، وما ان تمّ طرد أهالي هذه القرى التي أبيدت عن بكرة أبيها حتى قامت الحكومة بحذف أسماء القرى من جميع الخرائط والسجلات والمراجع. وقامت السلطات بتشييد المستوطنات اليهودية على أنقاض القرى العربية البائدة التي استبدل اسمها العربي باسم عبري مستحدث". أما ابن عمه عاصم المولود بدوره في الضيعة نفسها أم الفحم عام 1961 فقد عاش في تل أبيب حاملاً معه من الضيقة المذكورة "أصيصاً من الصبّار"، يتأمله كل يوم فيرى فيه كل دماء وآلام وعذابات أهل ضيعته، القريبة من أشواك اكليل المسيح، عذابات النبتة المنتزعة من خريطة تربتها الطبيعية لتعيش إسمنت المدينةالقاهرة. في هذا المناخ بدأ الصوت التشكيلي لعاصم أبو شقرا يجهش بالبكاء ويرفع عقيرته بالغبطة والوجه الوجودي الذي تختلط في مشاعره لحظة الذبح بلحظة الولادة. عاش هذا الفنان في أتون الارهاب الثقافي الاسرائىلي، يبدو التماع سيرته أشبه بقصف الصاعقة أو الضوء المشتعل، فقد خطفه سرطان الرأس وهو في بداية عطائه عن عمر لا يتجاوز التاسعة والعشرين، كان من المتفوقين في معهد فنون تل أبيب، كليشر درس فيها ما بين عامي 1982 و1986 ليعمل مدرساً فيها بعد تخرجه وذلك حتى وفاته عام 1990. وكان قبل ذلك حاول الانزلاق للهجرة الى الولاياتالمتحدة، ولكن قدره كان أسرع من عزيمته. بقدر خشية السلطات الاسرائىلية من موهبته وعناده الثقافي فقد حاولت ان "تؤسرله" وتستحوذ على اسمه في الخارج على وجه الخصوص ومصادرته كفنان اسرائيلي من أصل فلسطيني لعام 1948 أي الذين يحملون أوراقاً ثبوتية وجوازاً اسرائىلياً. باءت محاولاتهم بالفشل اثناء حياته فانتظروا ست سنوات بعد وفاته ليؤثروا على أهله ويستعيروا لوحاته ليقيموا معرضاً مشتركاً مع الفنان الاسرائىلي آفي تراينر في "غاليري ساييتا" في باريس عام 1996. وبدت المقارنة النقدية بين مستوى الاثنين فضيحة صهيونية، وورطة ثقافية تكشف خواء الإبداع الاستيطاني في اسرائيل. بعكس الدعاوى النقدية بما فيها الفلسطينية، بدليل ان المصادرة اقتصرت على الناحية الأدبية المعنى والرموز. فلنعد الى لوحة عاصم التي ورثت "رمز الصبّار" عن وليد وآخرين مثل الرائد نقولا الصايغ. لا يتجاوز الصبار في محفورات وليد أبو شقرا حدود التوثيق البيئي كما هو بالنسبة الى شجرة البرتقال أو الزعتر أو السنديان وغيرها من فراديس القرى التي تعرضت الى محق الآلة الصهيونية. وقد نجد هذا الصبار في لوحات بعض الفنانين العرب مثل السوري محمود جلال، ولكنها تمثل بالنسبة الى عاصم بركاناً اعتراضياً من نوع آخر. اعتمد عاصم في مقاومته لحضارة الارهاب على تمسكه برمز "نبات الصبار" ذلك الأصيص المحمول من جسد ضيعته وذاكرتها المأسوية. هو النبات الذي يفضح كما رأينا الخرائط المدفونة في ضمير الأرض. وغالباً ما كان يتمّ مع هذا الدفن الاغتيالات الجماعية والتطهير العرقي. يشق الصبار كل مرة التربة والمقبرة الباطنة ليرسم فضائح "البلدوزر" بالخط الذي يرسمه حول القرى المغتالة، متحدياً عنصرية الدبابة و"البلدوزر". حاولت اسرائيل تلفيق أبعاد هذا الرمز بإحالته الى صورة اليهودي التائه الذي حل بلاؤه على فلسطين من الجيل الأول. ولكن اختلاق وافتعال ثقافة أشد تعقيداً من تزوير انتساب سندويشة الفلافل. نعثر هنا على ارتباك موقف بعض الكتّاب الفلسطينيين في هذا الشأن بمن فيهم الناقد والفنان والباحث المعروف كمال بلاطة والكاتب زكريا محمد. فقد فصّلا الجدل حول تنازع ملكية هذا الرمز متجاوزين البعد الروحي والوجودي الهائل في قوة التعبير التشكيلي لدى عاصم، فقد صور حالات وجدانية - وجدية م أصيصه الحنون، وتجاوز بقوة شكيمة هذه الحرقة التعبيرية الرمز نفسه، وبعكس ما قرأت عن تأثره بأساتذته الاسرائىليين، فهو أقرب الفنانين العرب الى الحساسية الوجودية التي غذّت الطبيعة الصامتة لدى الفرنسي نيكولا دوستائيل، ولكن عاصم ذو ثقافة صوفية صريحة، تجمع أناء الفصول والليل والنهار في إطلاق ثنائي يتجاوز ثنائية "الوجود والعدم" الى "الفناء والبقاء" أو "الصحو والسكر" وبصيرية مطلق الزمان والمكان، وليس غريباً ان أخاه أحد قادة الحركة الإسلامية في فلسطين وليس مسيحياً كما أوحى تحليل بلاطه أما الإحالة الى أشواك اكليل المسيح فهي إحالة أدبية تقع بدورها خارج التحولات العاطفية واللونية الثرية في مواجيد ومحطات أصيص عاصم. للأسف فإن المتاحف الاسرائىلية، اقتنت لوحاته ولم يسعَ اي متحف عربي بما فيه الخاص بمعهد العالم العربي في باريس الى اقتناء اي قصاصة من آثاره. تتناسخ وصيته الوجودية الحادة في تجربة فنانة شابة موهوبة هي رنا بشارة، درست في المعهد نفسه وأبدت التمايز والعناد نفسيهما. عرض عليها استاذها ان يشتركا في معرض واحد فأجابته أنه "من المستحيل ان يجتمع المحتل مع الفلسطيني حتى ولو كان مكان اللقاء صالة عرض". ورثت بشارة محطات القهر التشكيلي التي خلفها عاصم، لكنها عدّلت من وسائط التعبير باتجاه الانشاءات ما بعد الحداثية، عرفنا من أعمالها الباب الفلسطيني الذي يعشّش الصبار في حنايا مصراعيه، وعرفنا طقوساً ذوقية وشمية لتوابل الزعتر الفلسطينية وسواها. لا يعرف العرب هذين المصورين على أهميتهما وذلك بسبب النفاق السياسي والاداري الثقافي، فهما من فلسطينيي 1948، تتجنب المؤسسات والتظاهرات التشكيلية العربية دعوتهما أو استضافة أعمالهما بسبب جوازهما الاسرائيلي. حتى في الدول العربية التي مهرت تطبيعها مع اسرائيل في شكل رسمي. دعونا نرجع الى عالم رنا بشارة الرهيف: تعرّفت على أنين رنا بشارة من تشكيلات صبارها عام 1997 في معرض مغربي وهو يجهش ببكاآت "إلكترا" و"الخنساء"، يتلوّى مع أكاليل شوك المسيح، تعشعش مخالبه في حرقة القلب، يضرب أشواكه الرهيفة راسخة في أغوار الذاكرة الكنعانية" شهدته يتسلّق الجرح ونافذة الطفولة وأرحام شبابيكها، ثم يتشبث بجدار منزل دمّر لتوه في حيفا، يعانق بلاطة من سيراميك الذاكرة الحضارية المحلية، يرسم خرائط القرى التي حصدها شذاذ الآفاق" فقد كان الصبار دوماً رمزاً مقاوماً للنسيان والفناء، ينبت بعناد في كل مرة تقتلع جذوره فيها "بالبلدوزر"، فيخطط من جديد أسوار القرى الممحوقة، ويفضح الجرائم العنصرية المدفونة في أخاديد الأرض والذاكرة، يمثل بالنسبة الى الفلسطيني مخرز ادانة وشاهداً على غروب المدن وانبعاث معالمها، رمز للتجذر والاقتلاع في الوقت نفسه. وكما يتبدل الحزن مع كل مغيب وانبلاج صباح تتقمص تحولات التفافاته الشوكية كل مرة طقساً ومرارة تعبيرية جديدة" تتجاوز تشكيلات رنا في حدتها المأسوية ما ترمز وتغمز وتلمح اليه، فإذا كان الصبار اشارة الى قدر الاحتلال والرحيل عامة فأداءاته ترتبط بخصائص حساسيتها المرهفة. ثم تعرفت إلى مذكرات كتاباتها الملتاعة، موشحة شبكات حروفياتها العربية بالأنين نفسه، تحمل ألوان توقيعاتها سعير الصبار نفسه وشموسه الحارقة، تمزقاته نفسها وصدوعه وجروحه الشوكية نفسها، الشظايا المسننة نفسها، المصادفات المأزومة الصاعقة نفسها. تصبغ رسائل استنجاداتها ومناجاتها الحميمة بالحناء، تودعها في زجاجة تجوب عرض الأوقيانوس، تتقاذفها الرياح والأمواج من دون أدنى أمل في بلوغها الشاطئ أو بلوغ صوتها اذاً فارس يلبي نداء وامعتصماه"! ثم اكتشفت إنشاءات توابلها التي تعفّر وجدان المتفرج بعبق الحضارة الكنعانية التليدة، بأطباق عطرها، بموائد تحفل بما لذ وطاب من الاشارات المتناسخة منذ آلاف السنين. نعثر خلف هذه المحطات على الوعد الشاب، تكمن حساسيتها التي توحدها الصرخة المعترضة والتي تذبح كل يوم، مع كل حرف وشوكة صبار وحبة سماق. علينا ان نبحث تحت ركام شراذم هذه المواد التجريبية عن قلق رنا بشارة الوجودي، عن وجلها التشكيلي من أي صيغة نمطية مكرورة في التعبير، فمهما تباعدت وجوه توجهاتها تظل مسكونة بالأنين نفسه، مؤججة الصرخة نفسها، فقد وُلد القهر من صرختها ثم تقمص تشكيلاتها المأزومة مثل ملحمة عاصم أبو شقرا.