مع انتهاء الحرب في العراق ، فان أحد الأسئلة المطروحة بقوة هو ما إذا كان الاستخدام الوقائي للقوة ينبغي أن يكون النموذج للتصدي لتهديدات الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، أو ان هناك بدائل أخرى يسهل التنبؤ بنتائجها، بل والأهم، أقل تكلفة في الأرواح البشرية. وكما نعلم، فانه حتى نهاية الحرب الباردة وفي عالم القطبين، فان الحفاظ على السلام والأمن الدوليين كان يتم من طريق نظام يجمع بين التحالفات ومناطق النفوذ، والأممالمتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية والإقليمية المتعددة الأطراف - ولو في شكل محدود نظراً لطبيعة الحرب الباردة - إضافة إلى توازن القوى من خلال الردع النووي المتبادل بين القطبين. ولكن مع تفكك وانهيار الإمبراطورية السوفياتية، وظهور عالم أحادي القطب، حدثت تغييرات هائلة على خريطة الأمن الدولي، ومن أبرزها اختفاء تنافس القطبين الذي ساد الحرب الباردة وبالتالي اختفاء الكثير من التحالفات ومناطق النفوذ القديمة التي ارتبطت بهما. وإذا كان الكثيرون علقوا أمالاً كبيرة في أعقاب انتهاء الحرب الباردة على بزوغ نظام عالمي جديد يترسخ في نظام الأمن الجماعي - الذي يجد أسسه في ميثاق الأممالمتحدة - إلا أن كثيراً من هذه الآمال تبخر سريعاً. فعلى رغم أن نهاية الحرب الباردة أفضت إلى تحرير كثير من الدول والشعوب التي عانت من القمع خلال الحرب الباردة، وقللت بشكل كبير من احتمالات مواجهة نووية بين القطبين، إلا أنها في الوقت نفسه أيقظت صراعات عرقية ونزاعات ثقافية قديمة ظلت كامنة - سواء بين الدول أو داخلها - نتيجة القيود التي فرضها التنافس بين القوتين العظميين. ومع عجز الأممالمتحدة عن تطويع نظامها للأمن الجماعي لكي يتواءم بسرعة مع الحقائق المتغيرة والتهديدات الجديدة، فانه للأسف إن بعض الصراعات التي نشبت حديثاً عولجت إما بشكل سيئ، كما رأينا في بوروندي ورواندا والصومال، أو خارج الأممالمتحدة، كما في كوسوفو. وفي كل هذه الأثناء، بقيت الصراعات القديمة مثل الصراع في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وشرق آسيا تتفاقم وتتزايد. ولكن على رغم من كل التغيرات التي طرأت على العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، ظلت الأسلحة النووية تحتل مكانة بارزة باعتبارها رمزاً للقوة المطلقة. وعلى رغم أن عدداً من البلدان - كجنوب افريقيا مثلاً - تخلت طواعية عن أسلحتها النووية أو طموحاتها التسلحية النووية، استمرت المظلة النووية لحلف شمال الأطلسي والأحلاف الأخرى في الاتساع. إضافة إلى ذلك فان الغايات والأهداف التي تضمنتها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، التي أبرمت في بداية السبعينات لمنع انتشار الأسلحة النووية والتقدم نحو نزع السلاح النووي، أصبحت تخضع لضغوط متنامية، وتواجه الكثير من التحديات. فلا تزال هناك آلاف عدة من الأسلحة النووية في الدول الخمس النووية الأطراف في معاهدة عدم الانتشار روسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. إضافة إلى أن من بين البلدان الثلاثة التي ما زالت خارج معاهدة عدم الانتشار، برهن بلدان منهما - الهند وباكستان - مؤخراً في شكل عملي على قدراتهما التسلحية النووية، في حين أن البلد الثالث -إسرائيل- يُفترض في شكل عام أنه يمتلك مثل هذه الأسلحة. وما زاد الأمور تعقيداً هو قرار كوريا الشمالية، وهي طرف في معاهدة عدم الانتشار، بالانسحاب من هذه المعاهدة ويشتبه في أنها تعمل - وهو الاشتباه نفسه الموجه الى عدد من أطراف المعاهدة - على امتلاك أسلحة نووية. وعلى الجانب الآخر، فان هناك دولاً أخرى فضلت "خيار الرجل الفقير" بسعيها للحصول على أسلحة كيماوية وبيولوجية. وما زاد الأمر سوءاً فإن خطر انتشار هذه الأسلحة اكتسب بعداً جديداً في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 بتزايد احتمال سعي جماعات إرهابية للحصول على هذه الأسلحة واستخدامها. وأمام هذا الواقع، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا كان علينا أن نستخلص أن من غير المجدي أن نحاول مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل من طريق نظام أمني دولي جماعي تحكمه قواعد قانونية مستقرة - ويتعين علينا أن نرضى بالعيش في عالم يخيم عليه شبح التهديد المستمر بحدوث حرب نووية شاملة أو كوارث مماثلة؟ في اعتقادي ما زال هناك أمل في الاعتماد على نظام دولي جماعي للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، إلا أن ذلك سيتطلب بالقطع تفكيراً جريئاً، واستعداداً للعمل معاً، وجهداً متواصلاًً. وفي هذا الإطار فإنني أرى حاجة عاجلة للبدء في اتخاذ خطوات محددة، أهمها ما يلي: 1- تحديث نظام الأمن الجماعي الوارد في ميثاق الأممالمتحدة - سواء بالنسبة للديبلوماسية الوقائية أم بالنسبة لتدابير القمع enforcement measures. فهذا النظام الذي أرسيت أسسه في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي استهدف بناء نظام عالمي لحفظ السلم والأمن الدوليين يستند إلى قيم ومبادئ مشتركة لم يعمل للأسف على النحو المخطط له. فينبغي بادئ ذي بدء إعادة تشكيل مجلس الأمن ليضم القوى السياسية والاقتصادية الرئيسة في عالم اليوم، إضافة إلى استحداث مفاهيم وأدوات وأساليب عمل جديدة لضمان أن يتمكن المجلس من القيام بدوره بصورة فاعلة بصفته الجهاز الذي يتحمل بحكم ميثاق الأممالمتحدة "المسؤولية الأولى" عن حفظ السلم والأمن الدوليين. وعلى سبيل المثال، لا بد من إيجاد آليات للتدخل المبكر من أجل تسوية النزاعات الناشئة" كما ينبغي أن توضع تحت تصرف مجلس الأمن القوات الكافية لمعالجة العدد الكبير من النزاعات والمواقف الجديدة التي خلفتها الحرب الباردة - بدءاً من الإشراف على إجراء الانتخابات وانتهاء بالحفاظ على القانون والنظام ومراقبة الحدود. وينبغي أيضاً تطوير نظام للعقوبات الذكية تستهدف وتؤثر على الحكومات لا الشعوب، لا سيما حينما تطبق العقوبات على حكومات استبدادية تكون شعوبها مسلوبة الإرادة كما كان الحال في العراق. إضافة إلى ما تقدم، ينبغي أن يخضع استخدام حق النقض الفيتو لقيود متفق عليها - إذ يمكن أن يقتصر استخدامه مثلاً على الحالات التي يتخذ فيها المجلس قراراً باستخدام القوة - وذلك لمنع وقوع المجلس بكامله ضحية الخلاف في ما بين أعضائه الدائمين. كما ينبغي للمجلس أيضاً أن يعتبر محاولات الحصول على أسلحة الدمار الشامل وكذلك عمليات الإبادة الجماعية وغيرها من عمليات القمع الوحشي لحقوق الإنسان من الحالات التي تهدد السلم والأمن الدوليين - حتى يتسنى له التدخل مبكراً وبفاعلية في مثل تلك الحالات، التي تشكل في الزمن المعاصر أحد أهم الأسباب الرئيسة لما نراه من عنف وعدم استقرار في كثير من مناطق العالم. 2- خلق المناخ الذي يقتصر فيه استخدام القوة، كما هو وارد في ميثاق الأممالمتحدة، على حالات الدفاع عن النفس أو تدابير القمع التي يأذن بها مجلس الأمن فقط. أما الضربات الوقائية، وإن تكن مغرية في الكثير من الحالات، فإنها يمكن أن تدفع المجتمع الدولي إلى عالم محفوف بالمخاطر. فمثل هذه التدابير لن تحصل على الشرعية وبالتالي التأييد الدولي إلا من خلال مجلس الأمن. والأهم من ذلك هو أن هذه القيود والضوابط ستقصر استخدام القوة على الأوضاع التي تكون فيها القوة هي فعلاً البديل الأخير والوحيد. 3 - اتخاذ خطوات ملموسة لتحريم امتلاك أو استخدام أسلحة الدمار الشامل، وتطوير نظريات أمنية بديلة لا تعتمد على مثل هذه الأسلحة. ومن الواضح أن هناك حاجة لنهج جديد - نهج ينطبق على جميع أسلحة الدمار الشامل ويتوافر فيه عدد من السمات الأساسية: انضمام عالمي الى الاتفاقيات التي تحظر أسلحة الدمار الشامل" إنشاء نظم تحقق قوية وفاعلة تخص جميع اتفاقات أسلحة الدمار الشامل" وضع خطة طريق لإزالة أسلحة الدمار الشامل في جميع الدول حتى يختفي بمرور الوقت ذلك الخط الفاصل بين "الذين يملكون" و "الذين لا يملكون"" وضع نظريات أمنية جديدة لا تعتمد على الأثر الرادع لتلك الأسلحة" واتخاذ تدابير قمع يعول عليها، برعاية مجلس الأمن، للتصدي بفاعلية لأي جهود من أي دولة للحصول بطريقة غير مشروعة على أسلحة دمار شامل. 4 - وضع نظام شامل ومحكم يكفل عدم وقوع أسلحة الدمار الشامل ومكوناتها في أيدي أي جماعات إرهابية. وهذا يتطلب نهجاً عالمياً فاعلاً تجاه الحماية المادية للمواد النووية والمواد المشعة الأخرى والمنشآت المرتبطة بها، وفرض ضوابط مشددة على المواد الكيماوية والبيولوجية، ونهجاً فاعلاً تجاه الرقابة على الصادرات على نطاق العالم. 5 - حسم النزاعات المزمنة التي تهيئ أقوى الحوافز للحصول على أسلحة الدمار الشامل. وليس غريباً أن غالبية الشكوك حول مساعي الحصول على أسلحة الدمار الشامل موجهة إلى منطقة الشرق الأوسط، وهي أحد المناطق التي يشيع فيها عدم الاستقرار منذ أكثر من نصف قرن. ومن الأهمية بمكان، بل من الأمور الأساسية أنه في أي تسوية سلمية مستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط يجب أن تكون هناك ترتيبات أمنية إقليمية - بما في ذلك إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل - كجزء لا يتجزأ من مثل هذه التسوية. وينبغي أن ينطبق الشيء نفسه على أي تسوية في المستقبل لمثل هذه النزاعات، كالنزاع بين الكوريتين، ذلك لأنه لا بد من معالجة السلام والأمن كوجهين للعملة ذاتها. فلا يوجد سلام من دون أمن والعكس صحيح. 6 - وأخيراً، العمل بصورة جماعية على معالجة جذور أسباب انعدام السلام والأمن والاستقرار في العالم، والتي تشمل: الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء، حيث يعيش خُمسا سكان العالم على أقل من دولارين في اليوم" والافتقار المزمن في كثير من أنحاء العالم إلى أنظمة حكم رشيدة تحترم سيادة الشعوب وحقوقها وحيث يتخفى الحكام المستبدون وراء قناع "السيادة"" والقناعة المتزايدة بوجود خلافات أساسية بين الثقافات والحضارات. ولكي نتمكن من تخفيف تلك الأسباب في شكل فاعل، فاٍن ذلك سيتطلب تقديم البلدان المتقدمة مساعدات مالية ملائمة وكافية للدول النامية - فهذه المساعدات لا تتعدى في الوقت الحالي نسبة ربع في المائة من إجمالي الدخل القومي لتلك البلدان مجتمعة، وهي نسبة مفزعة وضئيلة. كما سيتطلب العلاج الفاعل أيضاً إشراك المؤسسات الدولية والحكومات والمجتمع المدني إشراكا ديناميكياً في المساعي الرامية إلى تشجيع التفاعل في ما بين الثقافات والشعوب، ومتابعة احترام حقوق الإنسان بصورة جدية وبصرف النظر عن الاعتبارات والمصالح السياسية الضيقة بين الدول، لندرك جميعاً أن ما يجمع بيننا أكثر بكثير مما يفرقنا، وأن اختلافاتنا الثقافية والعقائدية وغيرها - والتي يجب أن نحترمها أو على الأقل نتسامح إزاءها - هي في واقع الأمر إثراء للإنسانية ككل. وفي النهاية، قناعتي أننا لن نصل إلى ما نصبو إليه إلا عندما نصل جميعاً إلى الإدراك بأن هناك جنساً بشرياً واحداً وأننا جميعاً ننتمي إليه. إنها قائمة طموحة طويلة. ولكن إذا كان هدفنا هو أن نجنب الأجيال القادمة ويلات قرن جديد من الحروب يمكن أن تدمر فيه البشرية نفسها، فليس أمامنا بديل آخر. * المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. والآراء الواردة هي آراؤه الشخصية.