هناك مشهد في "الخامسة بعد الظهر"، جديد المخرجة الإيرانية سميرة مخملباف، يقع في نهاية الفيلم يرثي فيه العجوز مدينة كابول. "لقد انتقلت من الإيمان" يقول، وهو يمسك بحجر يحفر به أرضاً صحراوية وعرة ووراءه رجل يبغي الوصول الى قندهار وضل الطريق لأن ما بقيت بين كابول وقندهار قرى يسترشد بها. وعلى مقربة منه حفيده الرضيع الذي جاع وعطش حتى مات. لكن لا مصير الرجل الضائع ولا جثة الطفل الميّت أهم لديه من رثاء المدينة. ليس لأنها انتقلت الى عصر التلفزيون او الهاتف الجوّال، بل كل ما فعلته أنها الآن تسمح للبنات بدخول المدارس وتغض النظر عنهن اذا ما رغبن في خلع النقاب. مرحبا بكم في كابول بعد "طالبان"! وتتعامل سميرة بحذر شديد مع شخصيات فيلمها الجديد، وهو الأول الآتي من أفغانستان بعد "التحرير"، بحيث لا تريد وصم ذلك العجوز، فهو حبيس تقاليده الراسخة وضحية الظروف الإجتماعية ذاتها. ليس رجلاً أنانياً تسبب في شتات عائلته، ولا هو سياسي يرثي زمن "طالبان". في الحقيقة كل ما يهمه في الحياة هو أن يجد مأوى بعيداً عن الخلق خوفاً من أن يدخل النار اذا ما اصطدمت عيناه بإمرأة سافرة او جاوره جار يحب الموسيقى. "الخامسة بعد الظهر" هو الفيلم الروائي الطويل الثالث لسميرة مخملباف التي أصبحت هدفاً لنقاد السينما وهواتها في العالم منذ فيلمها الأول "تفاحة" قبل نحو ست سنوات. وبينما تطلب الأمر نحو عشرين سنة قبل أن يصبح يوسف شاهين مخرج العالم العربي على شاشات المهرجانات الدولية، تخطت سميرة كل الحواجز والمسافات بفضل اختياراتها من المواضيع التي ترصدها. أفلامها هي استلهامات من أرض الواقع تمارسها على شكل تحقيقات مصوّرة. "التفاحة"، وقد حققته حينما كانت لا تزال في الثامنة عشرة من العمر عام 1998، كان تناولاً لقصة فتاتين صغيرتين تجهلان الكتابة والقراءة وتتصرفان على نحو ذهني متخلف نتيجة حجر والدهما عليهما طوال الوقت في البيت المعتم الى أن اكتشفت وجودهما مربية اجتماعية وأطلقت سراحهما. خرجا الى الحياة كاسرين طوقاً عازلاً الى الأبد. في عام 2000 قدّمت سميرة فيلمها الثاني "الألواح السوداء" الذي اختارت له المناطق الجبلية الكردية الوعرة على الحدود الإيرانية - العراقية: قصة أساتذة متعلمين يجوبون قرى الحدود عارضين خدماتهم لقاء الأكل والنوم فقط. في الفيلم فكرة رائعة وتعبير بصري جيد، انما لا يخلو من بضع مشكلات مهمة رأى معظم النقاد غض الطرف عنها. في مقدمة هذه المشكلات أنها، لتبرير ما تنقله الى الشاشة من مشاق حياة الأكراد، تسمح لمكان وزمان الموضوع ومنطقية الحدث فيه بالبقاء على نحو مبهم... كيف تغير الطائرات العراقية التي لا نراها على الأكراد اذا كان الموضوع آنياً والحظر الأميركي على العراق شمالاً وجنوباً كان قائماً الى عشية حرب تحريره؟ اذا لم يكن آنياً فما الحاجة الى تحقيق بائت. واذا لم تكن الطائرات عراقية فطائرات من هي؟ لكن "الخامسة بعد الظهر" هو أفضل أعمالها. وهو يعود بها أساساً الى موضوع "التفاحة". صحيح أن بطلة الفيلم أغيلة رزاي امرأة شابة واعية ولا تعاني من تخلف عقلي او نفسي، الا أنها عاشت حياتها في كنف أبيها المتزمت. وحينها نتعرّف اليها نشاهدها تدخل مدرسة القرآن كما يرغب فيه، لكنها تنتظر انصرافه لكي تدخل مدرسة تعليم البنات وتكشف عن وجهها وترتدي حذاءها الأبيض الجديد ذا الكعب الطويل. ايضاً من العناصر الجامعة بين الفيلمين شخصية الأب نفسه يؤديه هنا عبد الغني فرازي فهو ايضاً غير مدان بسبب وضعه. سميرة تتجنب الوسيلة السهلة المتمثلة بنقد الأب وتحميله المسؤولية وتستبدل ذلك بنقدها لثقافة وتعاليم وتقاليد هي بأسرها ضاغطة ومسرفة في قسوتها. بطلتها تحمل رغبة في أن تصبح رئيس جمهورية أفغانستان. والقلة التي تسخر من هذا الإختيار او تنتقده تجد أمامها انسانة مصممة على البحث عن الوسيلة لتحقيق هذه الرغبة بما في ذلك سؤال جندي فرنسي من قوّات الأممالمتحدة عما قاله جاك شيراك لناخبيه حتى ضمن أصواتهم. المشهد ذاته يبدأ كما لو كان تودداً لفرنسا، وهو بالتأكيد لديه وظيفة يلعبها في هذا الإتجاه، لكن ذكاء المخرجة واضح في معالجتها المشهد بقدر كبير من الإنسانية والتلقائية وتطويعه ليبدو من صلب الأحداث وليس دخيلاً عليها. "الخامسة بعد الظهر" هو ايضاً عن حب لا أمل فيه تتعرف الى أفغاني شاب يحاول مساعدتها على تحقيق حلمها، لكنه أساساً مشغول بحبها وعن شقيق لها مات بلغم مزروع وعن زوجته المنكوبة بطفلها والأب والحصان الكهلين. حياة عائلية لا تجدها في اي سينما أخرى تنبع من صميم الموضوع الإجتماعي وتبقى فيه بلا تغرّب بفضل حفنة ممثلين تلقائيين. ليس الفيلم بلا مشكلات، خصوصاً في نطاق التوليف: بعض المشاهد لا لزوم لها او مزروعة في توقيت سيئ. الممثلون يبدون في العديد من المشاهد وهم ينتظرون إشارة ما للبدء بالكلام. لكن سميرة تعرف شخصياتها وتعرف دوافعها وتجيد إنجاز التحقيق السينمائي متدخلة - هذه المرة أكثر من اي مرة سابقة - في سياق التحقيق لتصنع في طياته مشهداً مؤلفاً. تلك اللقطات الطويلة لبطلة الفيلم وهي تمشي في رواق القصر المهجور. القطع على حذائها الأبيض ثم وجهها والعكس مع تضخيم الصوت. هذا تأليف يثري الفيلم المعالج كتحقيق صحافي.