نالت المخرجة السينمائية الإيرانية سميرة مخملباف جائزة تقديرية على فيلمها "اللوحة السوداء"، في مهرجان كان السينمائي أخيراً. وهذه جائزة جديدة تذهب الى السينما الإيرانية. ففي كل سنة، تقريباً، وفي كل مهرجان، يعود مخرج إيراني، أو أكثر، إلى بلده وفي جعبته جائزة. وليست سميرة مخملباف، المخرجة الأصغر عمراً وابنة أبيها المخرج، بدوره، محسن مخملباف، مفاجئة في هذا الميدان. ومع هذا، هناك ما فاجأ المشاهدين، وهو الفيلم نفسه. ولقد تطرقت المخرجة الى موضوع الأكراد المنشطرين على الحدود بين إيران والعراق وعالجت جانباً من حياتهم الصعبة. وهذا هو الأمر الجديد. فقد بقي موضوع الأكراد واحداً من المحرمات التي يتم تجنبها في إيران منذ زمن الشاه وحتى فترة قريبة. وإذا كانت جرأة المخرجة دفعت بها إلى كسر طوق التابو إلا أن الجرأة وحدها لا تكفي تفسيراً، فالحال أن الصورة كلها تجسيد للصيرورة الجديدة التي شرعت تمشي على قدمين مع بدء الرئيس محمد خاتمي في عكس سياسته أو فلسفته، على أرض الواقع. والمخرجة وفيلمها عنوان هذه السياسة: كسر الطوق الذي أحاط بكينونات كالمرأة والقوميات القائمة في إيران. وليس هذا إلا ثمرة أولى من الثمار الكثيرة التي تأتيها هذه السياسة. لا يمكن أن تقوم قائمة، في الواقع، للمجتمع المدني، المنفتح، التعددي، الحر الذي تجري الدعوة إليه ما لم ترفع القيود التي تغل أطراف هذا المجتمع. هذه مفكرة جلية في قوس التشييد للبنيان المأمول. وهذا ما يسعى في أثره أنصار خاتمي. وحين تزول العوائق من وجه النطق الحر بالرغبات والنيات تنهض الأصوات المقموعة لتغدو مسموعة أكثر وأكثر. هذا ما يفعله الفيلم، فهو شهادة على التحول الذي أصاب المجتمع من بعد مجيء خاتمي الى ساحة السياسة الإيرانية. والحال أن تحوّل الأكراد الى موضوع بمشهد في فيلم سينمائي هو جزء من الانشراح الذي بات يطاول وجودهم شيئاً فشيئاً. وعن طريق الخطوات الهادئة، ولكن الحاسمة، يصار الى منح الأكراد ما كانوا حرموا منه طوال سنوات. وحين ينظر المشاهد في لقطات متتالية من وقائع الحال، في العيش اليومي، وليس في الفيلم، يبصر أثر الخطوات التي سارت في هذا الطريق. أول الأشياء أن مسألة الوجود القومي للأكراد لم تعد محاطة بالشك. ويعطي هذا بعداً عميقاً لمعنى تشكيلة المجتمع وبنية قماشته. وكلما صار في وسع الكردي أن يجاهر بهويته وامتلاكه لغته الخاصة وثقافته وشخصيته القومية، نحلت المركزية الصارمة وتعددت الأصوات في محيط الواقع. كان ممكناً، في ما مضى، محو اللون الكردي، وكذلك القوميات الأخرى، من مشهد الحياة الإيرانية تحت ثقل فكرة الهوية الإيرانية الجامعة. ومع هذا لم يكن أحد ينخدع بالطلاء. فتلك الفكرة كانت زيّاً يبغي إخفاء المشاهد المتنوعة، والمختلفة الألوان، في اللوحة الكبيرة. وكان في وسع الشاه أن يرسم نفسه "شمساً للآريين جميعاً"، بعد الزعم بأن الفرس والكرد يجتمعون على هذا الرباط. ولكن في ما وراء القول المتبجح هذا، المحاط بالعنصرية، كان الغطاء الفارسي الثقيل يهبط لخنق الكردي ويصادر أنفاسه. وإذ تمرد الأكراد على ذلك حلت بهم البلايا فشتتوا وسارت في أعقابهم دوريات الملاحقة وأسلحة القمع. وبعد الثورة الإسلامية تكرر الخداع، ولكن بثوب ديني هذه المرة. وقيل للأكراء، وكذا غيرهم من القوميات، إن الإسلام جامع للكل فليس هذا أفضل من ذاك. ولم يكن الواقع قادراً على تمرير الخدعة طويلاً. فالعنصر الفارسي وكذلك اللغة الفارسية والثقافة الفارسية والحكومة الفارسية... الخ واصل هيمنته الطاغية. وكان ثمن ذلك، مما دفعه الأكراد، باهظاً. فلقد انقض عليهم حراس الثورة وتم الفتك بهم ثانية وثالثة، وهدمت دورهم وتدمرت مدنهم وقتل ناسهم واغتيل زعماؤهم في أماكن قصية. لكن الشأن الكردي الحزين كان علامةً على تقرح الجسد الإيراني كله. ولم يكن ممكناً مداواة ذلك الشأن بعيداً من علاج كلي للجسد كله. وقد فرحت غالبية الناس في المجتمع الإيراني حين اقتحم محمد خاتمي ميدان الحكم. وفرحت أكثر تلك الفئات المهمشة والمنبوذة: النساء والشباب والقوميات غير الفارسية. ولقد تطورت الأشياء على الفور وظهرت ملامح العافية في وجه المجتمع من خلال مجالات تنفسه: حرية الصحافة والتعدد في الآراء وانزياح القيود عن التعبير والإفصاح عن الذات. ونشدان التوفيق في البلاد يأخذ شرطاً ضرورياً أن تتعافى العناصر كلها. فلا يمكن أن يسير عنصر ويقعد آخر ملجوماً. وكانت الميزة الجيدة الأساسية في سياسة خاتمي، وجوهر فلسفته، التشخيص الشفاف للأشياء وتسميتها بأسمائها ونبذ الغموض والريبة والظن الآثم. واقتضى هذا شخصنة الحالات وإنزالها من سماء الضباب الى أرض الوضوح. ولقد أحيطت المسألة الكردية، شأن غيرها من القضايا، بهواء التفاهم وأزيلت عنها الأثقال الموروثة القائمة في الكبت والتجاهل. وصارت الصحف تطرح المسألة وراح الكثيرون يدلون بالآراء والأفكار من دون خوف. ثم تقدمت الأشياء الى الأمام أكثر، فصدرت صحف باللغة الكردية وقامت إذاعة وساعات بث تلفزيوني كردي، ثم أنشئت في جامعات محددة كليات لدراسة اللغة والآداب الكردية. ويتطلع الأكراد، في إيران، حولهم غير مصدقين للوهلة الأولى، فللمرة الأولى في تاريخهم الطويل يعود إليهم اعتبارهم بوصفهم جزءاً فعالاً وحيوياً في المجتمع، من دون تمويه لهويته أو طمس لمعالمه أو تشويه لغاياته ومقاصده. وللمرة الأولى ها هو ذا الكردي يسير مزهواً بنفسه من دون خوف من أن تأتيه لطمة من أمام أو رجمة من خلف. وبإعادة الاعتبار للأكراد، كقومية من نسيج المجتمع الإيراني، يعيد محمد خاتمي صياغة معادلة الحكم والناس، فتصير القوانين والأحكام وسائل تخدم الناس وتؤسس لهم مقومات حياة هادئة وجديرة بالعيش. فالذي يظهر الى الوجود هو منظور جديد للعلاقات التي تجمع الناس الى بعضهم بعضاً، وتشدهم الى الدولة، وتشدهم الى المجتمع. وإزاء العقلية الحضارية الجديدة التي بها يسوس خاتمي وأنصاره البلاد، وفيها الأكراد، يتحتم على هؤلاء أن يمتلكوا بدورهم، مقاربة جديدة تقربهم من الدولة والبلاد. يصير لزاماً على الجماعات الكردية، التي كانت تسلك مسالك الحدّة والعنف رداً على عنف الدولة وحدّتها، أن تستبدل حالها بحال من يفهم الواقع الجديد ويقدر على استيعابه. ويكون ذلك بالتحرر من أسر الأفكار المتكلسة القائلة بالمواجهة والداعية الى مناهضة الحكم والتمرد عليه. بل يتعين على هذه الجماعات أن ترمي أدواتها القديمة وأسلحتها البالية وتأتي إيران فتعكف على الانخراط في الموكب الملوّن والمبشر بالخير الذي يسير الآن في كل ركن من إيران. أمام اللوحة الجديدة التي تنهض في وسط الأكراد في إيران لا يمسك المرء نفسه عن السؤال: ماذا يدفع الجماعات الكردية المعارضة الى البقاء في المهاجر بعيداً من الواقع الجديد؟ ولماذا لا يريد هؤلاء الرجوع الى حيث يمكنهم قول ما يقولونه في العلن وعلى مسمع الجميع؟ فالتبدلات الحاسمة التي تطرأ في حياة، وأذهان الناس على أثر السياسة المنفتحة والهادئة لمحمد خاتمي تستوجب تبدلاً من الجميع. أليس هذا هو الدرس الذي نتعلمه على "الألواح السوداء" في فيلم سميرة مخملباف المدهش؟ * كاتب كردي عراقي.