يتناقل الناس هنا في شمال العراق حكايات عن الجنود العراقيين الذي يقومون بتسليم أنفسهم إلى البيشمركة الكردية، وغالباً ما تترافق الحكاية عن جندي أو ضابط بكلمة "خطْي"، من باب الاشفاق على أوضاعهم. هم ليسوا أسرى، يؤكد الأكراد هذا الأمر، انهم ضيوف البيشمركة، وبإمكان من يرغب منهم المغادرة أن يفعل ذلك! ولكن أين يذهبون والحرب لم تنته بعد! وبالأمس سلم حوالى ستين جندياً عراقياً في منطقة بيرداود لعناصر البيشمركة. وصلوا في ساعات الصباح الأولى، فأنزلهم عناصر "الحزب الديموقراطي الكردستاني" في موقعهم على مدخل البلدة. أما حكاية تسليمهم أنفسهم، فقد رواها جندي عراقي ل"الحياة" التي قصدت هذا المحور، فقال: "في ساعات الفجر الأولى جاءنا أمر بضرورة الاستعداد لمواجهة انزال أميركي. لم يقولوا لنا أين وكيف، كل ما فعلوه هو أنهم طلبوا منا حزم عتادنا والصعود إلى الشاحنات، كنا نحو 41 جندياً وخمسة نواب ضباط وملازم ونقيب ورائد ومقدم. حملونا في الشاحنات، وتوجهوا بنا إلى منطقة مفرق ديبك. كل ما كان بحوزتنا سلاح فردي ورشاشات متوسطة. وبعد دقائق من وصولنا، بدأت القوات الكردية محاصرتنا، والتقدم نحونا. لم يطلقوا الرصاص في اتجاهنا، وإنما حولنا". ويضيف: "ولا يبدو الجنود العراقيون المتوزعون في باحة المنزل الذي تتخذه البيشمركة مركزاً لها في بلدة بيرداود، خائفين أو أنهم أسروا لتوهم. ويتقاذفون الكلام بوجوه منفرجة، وغبطة الناجي لتوه من موت أكيد". ووصف أحدهم حال رفاقه في المواقع العراقية بأنها غاية في الإدقاع. وقال: "نعيش في هذه المواقع بين نارين، الطائرات الأميركية المغيرة والمثابرة في اغارتها، والخوف من تلك الخطوط الخلفية وراءنا، تلك التي تعيدنا إلى الجبهة ما أن نحاول الانهزام". وأكد الجنود الفارون وجود فرق الإعدامات التي تتولى محاسبة الجنود المتراجعين، لكنهم أكدوا في المقابل أن اجراءات الإعدام لم تنفذ بعد، فجميعهم، بحسب ما أكدوا، حاولوا الفرار أكثر من مرة، ولكن حواجز "فدائيي صدام" المنتشرة على الطرق كانت تقوم بإعادتهم وبتسجيل نقاط سوداء في سجلاتهم العسكرية، على أن تبدأ محاسبتهم لاحقاً. جندي من بغداد قال إن على الطائرات الأميركية أن تغير على حواجز عناصر حزب "البعث" و"فدائيي صدام"، فتفكيك هذه الحواجز، برأيه، كفيل بانهاء الجبهة. وأضاف: "هؤلاء هم سر تماسك الجيش في مواقعه". لكن جندياً آخر قال إن ثمة سبب آخر لتماسك الجبهة، وهي اقتناع عدد كبير من الجنود والضباط غير الموالين أصلاً للنظام، بأنهم يحاربون جيشاً غازياً وأجنبياً. وأكد هذا الجندي أن اشراك قوات من المعارضة العراقية والبيشمركة الكردية على الجبهات سيؤدي حتماً إلى اهتزاز هذه القناعات. وتظهر على الجنود المتحلقين مع عناصر البيشمركة ويتناولون الشاي معهم، علامات الخوف والاضطراب ما أن يلاحظوا وجود كاميرا. فلهؤلاء عائلات وأقارب في الداخل، ولوحظ وعلى نحو واضح، انحياز عناصر البيشمركة إليهم في لحظات رفضهم التصوير، ففي هذه اللحظة كان مسلح كردي يتقدم ويطلب من الكاميرات الشرهة الابتعاد عن النافذة المطلة على غرفة المقدم الأسير، والتي حاول المصورون النفاذ منها لالتقاط صورة له. لم يمسك الجنود في لحظات أسرهم الأولى عن استخدام قاموس الجيش العراقي، وان في سياق ذم النظام، إذ قال جندي من مدينة البصرة إن أهله لم يغادروا المدينة في الجنوب منذ حصلت "الردة" عام 1991. ويشرح هؤلاء أوضاع وحداتهم في الجيش من دون حذر أمام من كانوا بالأمس تماماً على الطرف الآخر من الجبهة، فيرسلون عتبهم على وحدات الدفاع الجوي التي لم تنجدهم من القصف الأميركي قبل يومين، فيرد جنود آخرون من هذه الوحدات، وهم أسرى وجالسون بين مجموعة أسرى بيرداود، ان الأسلحة المضادة للطائرات التي بحوزتهم لا يمكنها التصدي للطائرات. وقال جندي من وحدة الصواريخ المضادة للطائرات: "إن الصواريخ التي بحوزتنا هي من نوع ستريللا المحمول على الكتف، ومدى هذا الصاروخ لا يتجاوز 5.2 كيلومتر، في حين تقصف الطائرات الأميركية عن ارتفاع لا يقل عن عشرة كيلومترات". وتشغل الجنود قضية أخرى غير قضية فرارهم من الجيش، وهي قلقهم على أهلهم وعائلاتهم في المدن العراقية الأخرى، خصوصاً في الوسط والجنوب. ويبدو أن معظمهم من بغداد ومن البصرة والحلة والنجف. ويقولون إنهم منعوا من الاتصال بأهلهم منذ نحو شهرين ويسهبون في وصف مخاوفهم. ويبدو أن الفرقة الأسيرة لم تكن من وحدة عسكرية منسجمة، فهناك بين الأسرى جنود من وحدة حماية آبار النفط وآخرون من المشاة، ولكنهم جميعاً يؤكدون ان وحدات الحرس الجمهوري تم سحبها إلى بغداد، وان وحدات الجيش المتبقية على محاور الشمال هي قطع تقليدية وتسليحها ركيك، وأن الآمر الناهي في المنطقة هم "فدائيو صدام" ووحدات ميليشيا "البعث". وأشار الجنود إلى أن تنبيهات تلقوها من قيادتهم تؤكد عليهم على ضرورة عدم اعتبار الأكراد أصدقاء، وأن الأحزاب الكردية تقوم بتصفية أي جندي عراقي يصل إلى مناطقها. ويبدو أن معظم جنود الوحدات العراقية الموجودة في الشمال هم من غير أبناء المنطقة، الذين يسهل تصوير الأكراد لهم أعداء متربصين. هذا الأمر أكده جندي عراقي قال إنه من الجنوب وانه لم يسبق أن احتك بالأكراد.