من المعروف أن القراء العراقيين يلتهمون الكتب الواردة اليهم. وسابقاً قيل: مصر تؤلف ولبنان يطبع والعراق يقرأ... وعلى رغم ظروف الحصار القائم استمرت دار الشؤون الثقافية العامة في اصدار كتبها وسلاسلها. ومن بين هذه السلاسل، سلسلة "ثقافة ضد الحصار" التي من المفترض أن تصل اصداراتها الى مئة عنوان... ومن العناوين الصادرة حديثاً: "أيوب" و"العصفور الأخير" و"حدث ذات مرة" و"عود الرمان" وهي على التوالي للكتاب الشباب: عبدالكريم حسن، عبد الأمير المجر، سلام نوري، ماجد فاضل زبون. في مجموعة "أيوب" ينطلق القاص الشاب عبدالكريم حسن عبر تغليف الجملة السردية باستعارات تنجح غالباً، وخصوصاً عندما تأتي في استهلال النص وتكون الموضوعة ضمن الخطاب بصيغتها الخبرية فقط بعيداً من تناميها وتوترها. أما القصص القصيرة جداً فقد استطاعت توظيف المفارقة واللغة الشعرية ذات الاستعارة الشكلية ضمن اطارها العام. جاءت القصة القصيرة جداً "الروح" التي افتتح بها مجموعته باستهلال ذكي الروح تفرّ منه غفلة ليلاً... تحلق في السماء... تعابث النجوم... تدغدغ وجه القمر... تتبجح في تحليقاتها... تهبط أرضاً حافلة بحالات شعرية تتيح مزيداً من الحرية للنص في رسم أمداء وصور كثيرة تمهد للانتقال الى ما بعدها، وتكمن الخطورة في الاستطراد في عبارات كهذه، تشل النص، وتحيله الى مفردات تزيينية غير موظفة، وغير خاضعة لهدف الفكرة. لكن القاص هنا يحكم قبضته الأسلوبية منطلقاً من العبارة الأخيرة في الاستهلال تهبط أرضاً أي الروح التي أدخلها الكاتب في منعطفات الحياة الأرضية: الشوارع. الأرصفة. الأزمة الضيقة. أعمدة الكهرباء. وهكذا يتم نقل عين الكاميرا من هذه الروح غير المستقرة الى هو الواقف خلف قضبان نافذته قلقاً لنعلم أن تلك الروح هي روحه. وهكذا دواليك حتى نصل الى القصة التي حملت اسم المجموعة "أيوب" وجاءت عبر ضميرين، الغائب الذي يرسم المشهد بعناية، والمخاطب الذي يوسع من فجاعة المشكلة التي يعنيها بطل القصة أيوب حيث كان التداخل مثمراً. أما في مجموعة "ليلة العصفور الأخير"، فإن علاقة القاص بالنص تأخذ نواحي عدة وارتباطات معرفية في تكوين موقف لديه، يتمحور حول أسس الدلالة التي ينشئها ويكونها كإشارة مقصودة ضمن خطاب سردي واعٍ يمتلك حقيقة الإفصاح عن نفسه. وهي تزوده ملامح خاصة تميزه عن غيره... وعندما يكون القاص واعياً ومسكوناً بهاجس الكشف والإدانة لحال قسرية جاء بها القاص عبد الأمير المجر في رشق دلالات سامية تشي بحب الوطن. وحين ندخل عوالم "السور" نجد أن بنية الحلم تتخذ تركيباً مزدوجاً في خطاب السرد القصصي، حيث كلام الأب هنا يبقى هو المسيطر على ذهن البطل تماماً المدن أناث، أسوارها، ملابسها، تزيّنها وتسترها وحين تتعرى تستباح. أما الأم فهي لا تؤثر في البطل لكنها مؤثرة ضمن السياق الكلي للنص. وتنفرد هذه القصة عن بقية قصص المجموعة بكونها تخاطب الذهن قبل العاطفة. وفي مجموعة "عود الرمان" لماجد فاضل زبون تتبنى القصص خطاباً سردياً واقعياً لرسم بيئة ريفية تخص احدى محافظاتجنوبالعراق. وتمثل بعض الشخصيات نموذجاً للإنسان العراقي وهو يواجه الانكليز أثناء حركة رشيد عالي في العام 1941. ويفصح خطاب السرد عن الشخص البطل/ حسان الذي قرر مغادرة القرية بسبب رجال من الحاشية الى قرية أخرى. ويصور القاص حال التيه والفطرة المحببة للبطل وابنته التي أضفت على سلوكه مسحة صادقة ونقلت ملامح هذا الإنسان الجنوبيالعراقي في ذلك الوقت. وفي مجموعة القاص سلام نوري "حدث ذات مرة" لا تخرج القصة عن كونها احدى المحاولات الشابة التي دخلت العوالم الغريبة، ومن دون أن تضع امكانات النجاح والفشل ضمن دائرتها. فهي عملية بحث وانطلاق وسقوط في متاهات النص. والنص هنا هو البؤرة التي تجمع فيها أفكار القاص. ولعل موضوعة الغربة هي المحور الأهم في تشكيل عوالم القص، إذ عولجت هذه التيمة بأنواعها المتعددة في فضاءات سردية تتحدد دلالاتها - نوعاً ما - في التفجيرات اللغوية، وأيضاً في اختيار إشارات السرد المعلنة والخفية كفنارات تهدي الطريق الى التأويل... لذا فإن قصة "حدث ذات مرة" تشي بحقائق وتخطيطات وهمية تمهد لتشكلها وفق ذخيرتها المعرفية. يشكو بطل "حدث ذات مرة" من وسط لا يفهمه، ولا يستمع الى نصائحه، ويشاهد أهل قريته ينحدرون نحو هاوية محققة، فيقرر المغادرة صوب "مدن بلا أسوار وبلا مستحيل، وبلا ضجيج". ويعد التغرب بين الأهل من أصعب أنواع الغربة التي يتعرض لها الإنسان، إذ لا يعدو الأمر مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل هو انعكاس مضاعف، ربما يدفعه الى أمور كبيرة أو الى التهرب نحو غربة فعلية تكون أقل وطأة. وتتجدد موضوعة الغربة أيضاً في قصة "أساور الهذيان" حيث الأرملة التي فقدت زوجها وسعادتها وبقاءها وسط عالم غريب يتحدث بلغة مهجورة. وفي خضم هذا الصراع تتزوج ثانية من دون رغبة، فيصبح الكابوس ثقيلاً. يطرح سلام نوري هذا الرفض للعالم/ الزواج عبر تحليقاته الماكرة في ثنايا النص. فحين يفتح الزوج الجديد جلباب عروسه "كان من المنتظر ان تتدلى عذوق التفاح فجأة، لكنه حين مد يديه، وأصابعه المعقوفة للكشف عن مساحات الصدر، لم يبصر سوى صدر رجولي تطرزه شعيرات سوداء ناعمة".