نظرت الفتاة الى ساعتها لتجد ان عقاربها تشير الى التاسعة مساءً. أشاحت بنظرها الى الحشد الشبابي في وسط المدينة: مراهقون ومراهقات يجلسون القرفصاء على الرصيف في انتظار شغور بعض المقاعد في مقهى "الدانكن دوناتز" الذي أصبح، عرفاً، مخصصاً للشباب وسط بيروت. بدأ الصبر ينفد ولما يصل بعد. انها تنتظره منذ الساعة الثامنة وما بين الخوف من ان يكون مكروه اصابه وبين الغضب والتوعد بحديث قاس لن ينساه، فكرت في الانتظار لبضع دقائق عله يصل. حين استنفدت الذرة الأخيرة من صبرها، همت بالرحيل، يعلو وجهها احمرار السخط. بلغت عتبة المقهى فاذا به شاخصاً امام الباب، يلهث من العياء وثيابه، التي أرادها انيقة، بللها مطر كان يلاحقه من سقف الى آخر ومن شرفة الى أخرى الى حين وصوله اليها. الارجح انه ركن السيارة في مكان بعيد، والسبب ان موظفي "الفاليه باركينغ" خدمة ركن السيارة الذين استقدمتهم المطاعم الفخمة وسط المدينة كي توفّر على مرتاديها مشقة ركن سيارتهم بأنفسهم، يحتلون المواقف العامة والخاصة ولا يتركون "مرقد عنزة" شاغراً في "الداونتاون". المواقف الثمانية التي تحيط وسط المدينة لا تكفيهم لركن سيارة زبائنهم، لذلك، والحاجة ام الاختراع، يستعيضون عن المواقف، بعد ملئها، بالاماكن المحاذية للطرق على كلا الجهتين. لا مكان للسيارة، لا في المواقف ولا خارجها! موظفو ركن السيارة يتواصلون لاسلكياً كأنهم يحاكون "جايمس بوند" في افلامه، ويسبقون كل راغب بركن سيارته. فبعد ان يعلمه زميله بشغور مكان في زاوية من زوايا وسط المدينة، يتهافت الرجل ليركن سيارة زبونه الذي ترجل لتوه تعلو الوجاهة "كرشه الآخذ في الامتداد" ويتدلى الدهن من رقبته الغليظة فيعطيه المفتاح ويدس خمسة آلاف ليرة لبنانية في جيبه، فيشكره "الموظف" ويركب السيارة بسرعة ليزج بها في الزاوية التي ارشده اليها زميله عبر اللاسلكي ويركنها بخفة "النشّال المحترف" كي يختصر وقتاً يساوي خمسة آلاف اخرى او ربما اكثر. تحوّل موظفو "ركن السيارة" الى عصابة منظمة، مافيا بأجهزة لاسلكية تحتل الزوايا وتضفي مسحة من الهيبة بأجهزتها فيخالهم المواطن للوهلة الاولى مجموعة من رجال الامن يهاب نقاشهم اذا ما عاجله احدهم "وسرق" مكاناً اصبح شاغراً لبرهة خاطفة. اما رجال الامن الحقيقيون، فلا يستطيعون حيالهم شيئاً فهم لا يقومون بعمل ينافي القانون، ولا يفرضون على احد تغيير مكان سيارته كي يتمكنوا من ركن سيارة الزبون. المواطن العادي الذي خطر له الذهاب بالسيارة الى وسط المدينة، وتنشق الهواء الطلق، والاستمتاع بأجواء هادئة يواجه فجأة واقعاً مريراً امام خياله، فيظل يدور في سيارته بحثاً عن مكان لركنها، ويدور ثم يدور الى ان يصيبه الدوار فيعود الى منزله مصاباً بالعياء. أما اذا اصر على "ممارسة السياحة" وسط المدينة، فعليه، بادئ ذي بدء، ان يشتري لنفسه اجهزة لاسلكية، ويستأجر "مرتزقاً" او اثنين علهما يفلحان في تدبير زاوية للسيارة. وجوه مكفهرة، ثياب مبللة في الشتاء، وحمية الزامية في الصيف بفعل حرارة الشمس، المنتظرون في السيارة يترقبون بعيني صقر، مكاناً شاغراً كي ينقضوا عليه قبل "زلم" المطاعم الفخمة.