ليست هذه المرة الأولى التي يحرك فيها الحجاب الرأي العام الفرنسي. فهذا الملف فُتح وأُغلق مرات عدة ولم تؤد المشاورات حوله الى أي نتيجة فعلية. وتوصية "لجنة ستازي" في وزارة التربية الفرنسية في بداية العام 2003، لم تكن إلا رأياً معادياً لارتداء الحجاب في المدارس في حين يحتاج الموضوع الى قانون واضح وصريح. بعض المدارس التزم بهذا الرأي وجعل منه قانوناً خاصاً، بينما وقفت مدارس أخرى على الحياد. وانتهت العطلة الصيفية وعاد الطلاب الى المدارس وبدأت المشكلات من جديد، فطلبت الإدارة من المحجبات خلع حجابهن خلال الدوام الدراسي، فرفضن رفضاً قاطعاً. لم تكن هذه المشكلات مفاجئة بالنسبة الى السلطات التي بقيت تأمل في أن تقوم ادارات المدارس المعنية بحلها بنفسها، وكأن أفراداً أو مؤسسات خاصة قد تحلّ مشكلة مجتمع بكامله! الإسلام هو الديانة الثانية من حيث العدد في فرنسا، بعد المسيحية، وعلى رغم ان عدد التلميذات اللواتي طردن من مدارسهن لا يتعدى الست على نطاق البلد كله، واللواتي سبب حجابهن مشكلة مع الإدارة والأساتذة لا يتعدى عددهن ال27 فتاة، الا ان موضوع الحجاب عاد ليحتل العناوين الأولى من النشرات الأخبارية على الأقنية الفرنسية مرتين في الأسبوع أو أكثر في فترة لم تتعد الستة أسابيع. وعادت "لجنة ستازي" التي عينها رئيس الجمهورية الفرنسي في بداية فصل الصيف الى دراساتها وافتراضاتها. قصة الأختين ألما وليلا ليفي عمري قد تبدو عادية للوهلة الأولى. انها قصة فتاتين محجبتين ذهبتا الى المدرسة ورفض الأساتذة ثم المدير السماح لهما بالدخول الى الصف مع الحجاب، وهما بدورهما رفضتا نزعه، الأمر الذي أدى الى طردهما. ولكن سرعان ما ضجت فرنسا بهذا الخبر. أسباب تحول هذا الوضع الشخصي الاستثنائي الى حديث المجتمع والسلطات كثيرة، أهمها كون والدهما يهودياً ملحداً وأمهما كاثوليكية من أصل جزائري وهما مسلمتان. فذلك يغير كل شيء بالنسبة الى الفرنسيين، الذين راح بعضهم يقارن بين الحال الراهنة في فرنسا فيما يتعلق بالحجاب، حيث تجد المحجبات صعوبة في ايجاد وظيفة، وتلك التي في المانيا أو انكلترا حيث التعايش مع المحجبات في نطاق العمل يمر من دون مشكلات تذكر. قانون منع الحجاب في المدارس، الذي سيقر قريباً في فرنسا هل هو اذاً تأكيد على العلمانية؟ قانون المستقبل بنوده لم تتضح بعد كما لم تتضح التساؤلات حول امكان تعميمه على كل القطاعات العامة أم انه سيقتصر على المدارس فقط؟ خلال التظاهرة التي وعد الجميع بتكرارها، رددت المحجبات من كل الأعمار شعارات تعني انهن اخترن بأنفسهن وضع الحجاب، وأن أحداً لا يجبرهن على وضعه. أمر أرادوه واضحاً لدى جميع الفرنسيين، وأيضاً طريقة ليقلن انهن كلهن ليلا والما. وتبقى الأختان وحدهما على غلافات المجلات والصحف، وجهين محجبين لقضية الإسلام في فرنسا، وذلك على رغم ما تقوله والدتهما. المحجبات في فرنسا كلهن ضحية! اذ وصل الى مسمع الرأي العام أن المحجبات أُجبرن على لبس الحجاب من جانب رجالهن، آباء وأزواجاً. موقف كهذا، تجد كثيرات في فرنسا أنفسهن فيه الا ان اللواتي اخترن الحجاب بقناعة شخصية، وضعن زوراً في الخانة نفسها. في المدارس، المحجبات كلهن غير راشدات، الأمر الذي ساهم في وضعهن في خانة المجبرات على التستّر، خصوصاً ان الحجاب بعيد من الثقافة الفرنسية وجديد عليها ويصعب على الفرنسيين فهمه وقبوله، و"الشادور" مثلاً الذي لا يزال نادراً في فرنسا، هو بالنسبة للفرنسيين صدمة. ألما وليلا ليستا إذاً محجبتين تحت ضغط والديهما المتدينين. بل اكثر من ذلك رفض الوالدان حجاب ابنتيهما ولكنهما كما ادارة المدرسة لم يفلحا في جعلهما تنزعانه. ألما الأخت الصغيرة وعمرها 16 سنة تقول ان قصتهما سببت كل هذه الضجة في فرنسا "لأننا نعرف كيف نتكلم وعندنا والد يعرف حقوقنا". ما تقوله صحيح. فوالدهما محامٍ، وطريقتهما بالكلام وقوة شخصيتهما وقدرتهما على الدفاع المستمر بلهجة هجومية عن قناعتهما وايمانهما أمام الصحافيين والكاميرات، جعلتهما الناطقتين باسم المحجبات في فرنسا كلها. ثم جاء قرار رئيس الجمهورية الفرنسي جاك شيراك بضرورة وضع قانون يمنع الحجاب في المدارس. ثم ردّات الفعل في الشارع حيث نظمت ثلاث صديقات فرنسيات محجبات تظاهرة ضمت المئات منهن، وفي الصحافة بقيت الآراء مختلفة ومتفاوتة. أسئلة عدة يطرحها أساتذة المدارس، خصوصاً حيث لا تسبب المحجبات مشكلات بالنسبة الى الأساتذة وأهالي التلاميذ الآخرين. هؤلاء يتهمون الدولة باللجوء الى الطرد لإلغاء المشكلة بدلاً من حلها، معتبرين أن الحجاب جاء موضة جديدة في حياة مراهقتين كانتا تريدان قبل اعتناقهما الإسلام أن يضعن حلقات في شفافهما. في سبيل العلمانية، جاء قرار الرئيس شيراك، والآن بات السؤال الأكبر هو عما إذا كانت العلمانية بدأت تؤثّر في الحرية والديموقراطية وتقبل الشعوب والثقافات المختلفة في بلد ما زال شعبه يحارب اليمين في الحكومة.