اذا كان الجمال موئل الحكماء فهو عند هايدغر لغز لا يخشى العقل النظر فيه، وجسارة التعاطي مع جوهر الفني غوص صريح حتى حميمية الاشياء. اما التساؤلات التي يطرحها فيلسوفنا في كتابه "أصل العمل الفني" الصادر حديثاً عن دار الجمل في ألمانيا ترجمة الجزائري أبو العيد دودو فقد لا تكون مربكة بقدر ما هي تساؤلات شجاعة وأصيلة. انها تقودنا من دون اجهاد وتحفّظ الى حيث التجارب تسودها الحرية وحيث اللقاء مع الحقيقة عيد الفكر. في البداية، يعود بنا هايدغر ليقذفنا وسط هذا الوجود لنبدأ منه، ثم نراه يدعونا الى اقامة يقظة في محيط الاشياء. وهو اذ يضعنا امام الاشياء الموجودة يريدنا ان نحتذي سلوكاً خاصاً بها. همّه الارفع ان ندع الاشياء تخبرنا عن نفسها من دون مراوغة او تكلف. فبعد تبيان السمات التي تحملها الاشياء، يحثنا على الوقوف امام "الموجود" وقفة لا تتسم بالخجل. لأن العلاقة بين الذات والموجود هي علاقة يعقد هايدغر آماله عليها فهي، ستظهر لنا باكورة تفكيره الاصيل. ولما كانت بنية المادة - الشكل دستوراً لكل موجود فلا يبخل علينا هايدغر هنا بعرض التأويلات الممكنة والتي ستطلق له العنان للكثير من التحديات والمقربات في ما بعد. ويستفزنا ذلك الصراع مع الذات ومحاربة العقل لنفسه لأن العقل هنا مدعو الى الانشراح والانعتاق العميق. ولما كان العقل المجهد عثرة على الشهامة التي تسود التعاطي الجمالي مع الموجود اصبح من المقدس احترام خصوصية الأشياء. فالموجود يخبرنا عن نفسه والأشياء اذ تتبع مزاجاً خاصاً بها ينبغي ان تترك على اطمئنانها. فلمَ لا نترك الموجود بكل بساطة على ما هو عليه؟ وهل ينبغي اذ ذاك التضحية بكل ما يشغل العقل ويرهقه من استباقات التفكير وتعسفاته؟ تستوقفنا كثافة هذه الجدية وصلابتها التي تتجلى هنا. فالعقل المرهق يطيح بحميمية الاشياء واحترام الموجود يعني التخلي عن سلوك الطريق اليه بقوة. ثم ينتقل هايدغر الى تحديد الأداة وهي نوع من الجسر والوسيط بين الشيء والعمل الفني فتراه يستنهضها من الارض باعتقاده انها تنتمي اليها. وهنا نرى الفلسفة تعانق الغرابة الشعرية فيفرز لنا العناق روحاً جديدة. هل ينبغي للفلاسفة ايضاً ان يكونوا شعراء؟ في كل مرة تستيقظ صورة "الحذاء" للرسام فان غوغ من سبات التراث الالماني ففيها الأداة أمينة. انها تفضي بصمت العالم وبساطته الى الانسان فقر العالم وزحمة الارض الخاصة. فنمط حضورها هو الاطمئنان في ذاتها. ولا بد للحرية من ان تكون عصب العمل الفني حيث الموجود يكشف عن وجوده. فهايدغر لا يحجب عن ناظرينا ما ضجت به قصيدة نهر الرين للشاعر هورلدرن وقصيدة "البئر الرومانية": تحضر الحقيقة هنا بهدوء، تنكشف وتمزق حجاب اسراريتها. لذلك فهي قابلة للتمثل او الامتلاك كشيء. فعبثاً يتكبد الانسان عناء استحضار العظمة. لأن العظمة هي التي تريد ان تكشف عن ذاتها. اما مشقة الوصول أفلا يسكّن شوقها مجرد الانفتاح؟ يقع الموجود خارج دائرة التصورات التي يسقطها العقل عليه. انها دعوة للاقامة في منفتح الوجود وسط بوح مكشوف لما اختلج في ذاكرة الايام، في ذلك المعبد او ضجيج الحياة الذي ما زال ممكناً سماعه في انتصاب التماثيل وفسحات الهياكل والصور... وكأن عالماً ما انفتح فجأة. أليس العمل الفني اقامة عالم؟ وهذا العالم هل ينتمي الى مكان؟ المكان هنا يعني العودة الى الارض. وحده العمل الفني يجعل الارض تكون ارضاً. وكفانا انه هو الذي يقيم العالم وينتج الارض. يرتقي هايدغر بأصالة التأمل الى مستوى العلاقة بين الارض والعالم. الارض انغلاق حميم ومستتر، انها تفكر في العناق، والعالم انفتاح صريح ومكشوف، فهو يفكر بالسمو عليها. هذا النزاع يضج في العمل الفني ولكنه يستريح فيه ايضاً. ولا شك في ان العمل الفني قادر ان يهدئ من حدة المناقضات التي تجد نفسها فيه طليقة حرة. واحتدام الصراع يدفع بالعمل الى حيّز الظهور، الى الانفتاح والتجلي. فلا خوف علينا من العبور الى الموجود وإن تمنّع علينا. أفلا تجذبنا اليه تلك البقعة المضاءة في وسطه وهي الباب الوحيد اليه؟ الالحاح واضح: ان جوهر حقيقة العالم الفني كونه كشفاً للحقيقة بفعل الحضور الدائم. فالحقيقة اكثر الظهورات ظهوراً. ونتحسسها تقترب اكثر من اي شيء آخر. ولكن حذار من فتور التسوية! فلعبة النزاع بين الارض والعالم تفعل في نفوسنا. احياناً يسيطر الرفض على رغم الاضاءة والانفتاح. هل الحقيقة مستيقظة ولكن في هيئة سبات وخفاء؟ وهل يعني الرفض ان الحقيقة تفكر مسبقاً قبل قدومها وحدوثها؟ ان تعانق الوضوح والخفاء يضع الذات في اعماق جوهر الحقيقة. فهي تكشف عن ذاتها عبر الموجود وتخاطبنا في قدومها الينا. وكيف يعقل ان يظلم المضاء والخلق يحيي ويهيمن؟ ام هي الحقيقة تكبح جماح نفسها؟ وهل يعود الانفتاح في تفتحه وهو اكثر اشراقاً من ذي قبل؟ ان الصفاء ساطع لأن البساطة لا يعيق تقدمها شيء في لوحة فان غوغ. والزهو الهانئ يضيء علينا بشعاع الجمال في قصيدة "البئر الرومانية". وعلى رغم ذلك يحدس هايدغر بما هو مقبل، لأن يقظته محفوفة بالتنبيهات والتأملات. ومع انفتاح العمل الفني تزداد غرابته وتنمو وحدته ويتعاظم تفرده. وكأ هايدغر يستفزنا للخروج من المعتاد. فهل نملك شجاعة الخروج الى العلنية؟ أفلا يغرينا تجاوز الانسان لذاته عبر خروجه من ذاته وهو الذي صمم ووطد الارادة وكثف العزم؟ نحن لن نسأل عن انفسنا لأن الحقيقة تعمل عملها، فلا تنتظرنا سوى مقاومة الارض وهي اسمى مقاومة. وسيصير العمل اكثر واقعية وبالجهد تتضح واقعية العمل الفني. فالفن هو حدوث الحقيقة، الانجذاب اليها ليس مزيجاً من البرودة والعقلانية. فصراع الارض والعالم شعر. او ليس الشعر نفسه حكاية تخبرنا عن كشف الموجود؟ يظهر العمل الفني الحقيقة لتكون تاريخية. وهذا ما يعلمنا اياه هايدغر، فالتاريخ ليس ذاك الطابع التاريخي. التاريخ شيء نادر جداً. فلا وجود للتاريخ من دون وجود للحقيقة. فهل الفن هو الذي يوجد التاريخي؟ الدخول في التاريخ، في صلب التاريخ، البقاء فيه او تغييره أليس هذا هو الفن؟ اما اذا تلاشت هذه التساؤلات وأضاءت الحقيقة علينا وانكشفت، فلا يسعنا سوى ان نردد مع "كانط": "يسهل عليك ان تكتشف شيئاً ما بعد ان يكون قد اشير عليك في اي اتجاه ينبغي ان تنظر اليه". وهايدغر هو الذي يشير علينا بأي اتجاه ينبغي ان ننظر لنرى حقيقة العمل الفني. ان الديموقراطية - وان تراءت لنا اليوم حلماً من الاحلام - لا يزال من الممكن تحقيقها لأن السلم الاهلي يستدعيها بقوة ويناديها وسط "الهواجس الطائفية" والتباس التشريعات. فالدستور لا يأتمر الديموقراطية بل هي التي تضمه الى دائرتها الفسيحة. هذا الدستور الذي التبست علينا ماهيته وغائيته. فهل الدولة بحاجة الى تشريع جديد؟ وهل اصبح القانون بحاجة الى قانون آخر يوجه خطواته؟ فالصيغة افرزت لنا سلسلة من التعقيدات السلبية وأعادت احياء الاشكاليات الكبرى التي تعيق تقدم الديموقراطية لضمان السلم الاهلي. اما الميثاق فيبدو عاجزاً يستبد به الحياة امام التحديات والمغريات التي تقدمها الديموقراطية. كيف يستعيد الدستور توهجه العميق ان لم يكن التفرد ضرورياً؟ تفرد يعني ابعاد الصيغة لأن عجزاً جذرياً ينتشر في جذورها. ان السلم الاهلي يبقى غاية الغايات التي يطرحها المؤلف، فوحدها الديموقراطية تمده بالدينامية والتوازن الذي يتجلى في ميادين الحياة. فوسط تسامي الديموقراطية على الهيكلية العامة تستعيد القرارات عزمها ولا يضمحل حيز تنفيذها.