رواية سلام عبود كاتب عراقي مقيم في السويد "يمامة" الصادرة عن دار الحصاد في دمشق تتستر بالحب لا لتكتفي بالكشف عن حجبه، بل لتخترق به اهوال الحياة، كونه ذريعة للموت. اختار عبود بعد أربع روايات التاريخ مسرحاً لروايته الخامسة هذه. فالزمان هو القرن الحادي عشر اما المكان فهو الأندلس الذي نتحاشى النظر اليه بفوضاه ودسائسه وملوك طوائفه وحروبه الصغيرة وآلة القتل الدائرة بين سهوبه وقصوره وقراه وأسواقه، ومع ذلك فإن التأريخ هو الآخر ليس سوى ذريعة. اذ ظل محبوساً بين قوسين، رغبة من الكاتب في تقديم الحكاية على مغزاها. ولم تكن الحكاية في الوقائع المثيرة التي جرت لعبدالله بن يعيش والتي رواها المؤلف بلغة مشدودة، مثالية في توترها، بحسب، بل وفي ما علق بحافات هذه الوقائع من اسئلة تبعث على الحيرة والارتباك والاستفهام الذي يكشف عن ضمير وجودي معذب. ان وقائع هذه الرواية مقيمة في التاريخ، غير انها ليست وقائع تاريخية. أي انها لم تكن وقائع مستعادة الا على مستوى ما توحي به من حث إلهامي. وهنا بالضبط تكمن قدرة الكاتب على اقناعنا بلا شخصانية نصه. ومن المؤكد ان أمين معلوف كان استاذاً في هذا المجال، حيث ينقذ الوهم التاريخ من يباس حقائقه. لقد سعى سلام عبود الى كتابة نصه الشخصي في الحب من طريق ازاحة البعد الشخصي لهذا النص ليكون منسجماً مع نوع من النظرة الى الحب كونه قدراً، وهي نظرة عبّر عنها التراث الأدبي العربي من خلال شخصيات اتخذت طابعاً رمزياً، ابرزها مجنون بني عذرة. وهو ما يلقي بظلاله على استعانة الروائي بنصوص ادبية تراثية مستلة من "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي و"مصارع العشاق" للشيخ أبي محمد السراج القارئ و"اخبار النساء" لابن قيّم الجوزية و"حي بن يقظان" لابن طفيل. غير ان تجربة الكاتب في هذا المجال هي الأخرى تدعو الى الاعجاب. فماذا أفعل؟ لقد أشار في الصفحة الأولى من كتابه، خارج المتن الروائي، الى انه اقتبس من تلك الكتب جملاً وعبارات ومقاطع، غير انه لم يؤثرها داخل النص من طريق التقويس او الاشارة الى الهامش رغبة منه كما قال في عدم قطع سياق النص القصصي. حيث قام بدمسها دمساً خفياً فذابت النصوص وكأنها لم تكتب من قبل، كأنها لم تكتب خارج هذا النص الذي نقرأه، او انها كتبت من قبل في انتظار هذا النص الذي اشفق عليها بدثاره. لم ينحرف المؤلف بالنصوص التي استعارها عن مقاصدها، بقدر ما عمل على تهيئة الحاضنة المناسبة لها حتى لا يكون استدعاؤها أمراً نافراً او حدثاً يكون وقعه لافتاً على القارئ. ويمكنني القول هنا: "ان تمييز النص المقتبس عن النص المكتوب هنا ينطوي على عسر عظيم الا اذا كان القارئ متبحراً في النصوص المستعادة، حافظاً عن ظهر قلب كلماتها، ذلك لأن سلام عبود أذاب النصوص كلها بما فيها نصه هو لتكون محاولته التنصيصية هي نص النصوص في الحب من وجهة نظر عربية، وفي ما فعل يجسد سلام عبود حلم الكاتب الذي يجد ان من حقه ان يغمض عينيه على احلام كل الكتاب الذين سبقوه ومست كلماتهم شغاف قلبه، فإذا كان قد نأى بروايته عن استعادة الوقائع التاريخية، فإنه في الوقت نفسه وجد متعة كبيرة في استعادة جزء من تاريخ الكتابة العربية في الحب. وهي كتابة تفصح عن الشقاء بمثل ما يعبر لمعانها عن الشفافية، كتابة تقول لوعتها بالقوة ذاتها التي تحذف بها كل ما يعيق وصولها الى هدفها في القول. كتابة تمضي الى هدفها مثل رمح، سريعة، ناعمة، ملساء يكسرها اي نغم يسعى الى الهبوط بها من عليائها. كتابة تكاد لا تمس. سعى سلام عبود في "يمامة" الى ممارسة نوع من العفة الكتابية أملاً منه بالوصول الى هذه الصفات، ومن يقرأ نصه، لا بد ان يسحره ذلك الضوء الذي يشع من بين الكلمات، والذي يقود الى الداخل، بعيداً من ضجيج الاحداث. فغالباً ما كانت النفس المعذبة هي التي تتحدث في رواية لا تجرى وقائعها الا في محبس ضيق، ولمن لم يقرأ الرواية أقول: عبدالله بن يعيش، رجل أموي اندلسي في زمن افلت فيه شمس آل امية في الأندلس، يغادر منفاه خلسة ليعود الى قرطبة، حيث بيته وعائلته، ساقه قدره في احد الأيام الى الاعجاب بفتاة لم ير منها سوى وجهها ولم يتعرف سوى على اسمها: يمامة، ظاناً انه قد خطف منها موعداً. وحين حضر الى الموعد المتفق عليه لم تحضر الفتاة، جرّب حظه مرة ثانية وثالثة غير ان الفتاة لم تحضر، فبدأ تيهه. هيام يوقعه في شباك البحث من غير جدوى. تعينه في ذلك امرأته التي تشاركه حيرته. وحينها يتجه بن يعيش الى ان يكون وراقاً. يلقى القبض عليه، وفي الحبس يتعرض لصنوف التعذيب الفولكلوري العربي: سمل العينين والاخصاء وحرق اللسان والشفتين واليدين. وفي محبسه هذا، حيث العتمة عتمتان، تحضر اليه جارية لتداوي جروحه، وتسقيه شراباً وتسمعه كلاماً عذباً ومن ثم تعرض عليه الزواج منها وهي تعرف انه عاجز جنسياً. وحين يبدي تعجبه تطلب منه ان يمد يده ما بين فخذيها ليكتشف انها هي الاخرى قد وضعت بسبب عملية خياطة خارج الحياة الجنسية. يبدأ حب في العتمة بين بن يعيش والجارية التي تدعي ان اسمها حور. وفي الوقت نفسه يبدأ الضغط على بن يعيش من خلال احد تلاميذه الخونة للاعتراف بالتهم المنسوبة اليه في الزندقة والفسق والخيانة. وحين يرغب بن يعيش بالموت تعبيراً عن رغبته في انهاء هذا العذاب فيعترف بكل ما هو منسوب اليه تنهار حور فتقول له متأخرة، انها هي يمامة التي شغف بها والتي كان سؤاله عنها هو السبب في عذابه. وحين تدعوه الى الهرب كانت رغبته في الموت اقوى، وحين يدرك انه سيموت حرقاً، تعم الفوضى ويترك وحده وقد شد وثاقه فيما يسمع وهو الأعمى صيحات الهاربين. يقول احدهم: من أي فريق هذا؟ فيجيبه آخر: الله وحده يعرف في هذه الفوضى العجيبة، وفي آخر السطور يلخص الروائي ما أراد قوله خفياً، إذ يقول احدهم: "قامت الفتنة في قرطبة، والناس متوجهون الى قصر الخليفة، من أنت؟ من أي ملة انت، لم يجب بن يعيش فقد خشي ان يجيب، أراد ان يقول انه لا ينتسب الى اي ملة سوى الى ملة قرطبة، وملة الله. هو مطارد فيها من دمه الأموي، ومن عذول غدر به لعشق أصاب قلبه، اراد ان يقول ذلك، لكنه امتنع خوفاً من ان يكون الصوت صوت عدو، عدو! من هو العدو ومن هو الصديق؟ ربما هو فاعل منكر اجاب صوت رجالي آخر، فتفرق الناس راكضين، وظل بن يعيش معلقاً، وحيداً، يسمع ضربات المطر وأصوات الناس المتراكضين الى كل صوب، الذين ازداد لغطهم وهياجهم وهم يمرون به غير عابئين بوجوده، وهم يتصايحون: الى قصر المعتد". الا يذكرنا بطل "يمامة" ببطل "الساعة الخامسة والعشرون". حيث يواجه المرء الاتهام بالانتساب الى الجهات المتناحرة، ولا جهة من هذه الجهات تؤويه، فهو لا يعرفها، ولا يود اللحاق بها، لا انكاراً لحقها، بل لأنه يجد ذاته في استقلاله، جزيرته الخاصة، حيث لا يشاركه أحد، وهي محنة لطالما تعرض لها المستقلون برأيهم، أولئك الذين ينأون بأنفسهم بعيداً من المشاركة القطيعية، محنة اللامنتمي. "يمامة" في معظم صفحاتها رواية رجل أعمى، شقي، وعاجز جنسياً. غير انها واحدة من اهم الروايات في الحب. ذلك لأنها تجسّد الحب. كونه اسطورة لقاء مستحيل يمامة، يمامته الضائعة، يجدها فتهرب منه في اللحظة التي يعثر فيها عليها، يمامة قدره المضاع، الذي ما يكاد يعثر عليه حتى يتيه منه، أكتب علينا ذلك يا يمامة؟ أكتب عليّ ان اجدك لكي افقدك. ان اعثر عليك لكي تضيعي مني مجدداً؟. "حب عصي في زمان عصيب". هذه الجملة هي خلاصة هذه الرواية الشيقة، التي تقرأ بمتعة تعادل متعة كتابتها، ذلك لأنها رواية أسئلة. فهي وإن نأت عن التأريخ فإنها ستسعى الى قراءته شعرياً. تستحضره من طرف خفي، تومئ اليه، تحثنا على عصيانه. وهي في كل ما تشير اليه انما تضع الحب في موقع غامض لا يمكن الاهتداء اليه من طريق اصطرلاب التاريخ. هناك عداء مستحكم بين الحب والتاريخ. الحب هامشي فيما التاريخ يحتل المركز. "يمامة" هي رواية الحب الذي يقابل التاريخ بالموت. الموت الذي تعيشه قرطبة، كونها آخر المدن لعاشق اسمه بن يعيش.