موقف ميتروفيتش من مواجهة مانشستر سيتي    حقيقة تعاقد النصر مع جيسوس    نيوم يعلق على تقارير مفاوضاته لضم إمام عاشور ووسام أبو علي    رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك    رئيسة الحكومة ووزير الصحة بتونس يستقبلان الرئيس التنفيذي للصندوق السعودي للتنمية    لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تقيم حفل انطلاق برامجها    ليلة حماسية من الرياض: نزالات "سماك داون" تشعل الأجواء بحضور جماهيري كبير    عقبة المحمدية تستضيف الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة    "الحازمي" مشرفًا عامًا على مكتب المدير العام ومتحدثًا رسميًا لتعليم جازان    «سلمان للإغاثة» يوزّع (3,000) كرتون من التمر في مديرية القاهرة بتعز    فعاليات ( لمة فرح 2 ) من البركة الخيرية تحتفي بالناجحين    في حالة نادرة.. ولادة لأحد سلالات الضأن لسبعة توائم    دراسة: الصوم قبل الجراحة عديم الفائدة    ضبط شخص في تبوك لترويجه (66) كجم "حشيش" و(1) كيلوجرام "كوكايين"    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة البسام    نجاح أول عملية باستخدام تقنية الارتجاع الهيدروستاتيكي لطفل بتبوك    صحف عالمية: الهلال يصنع التاريخ في كأس العالم للأندية 2025    مقتل 18 سائحًا من أسرة واحدة غرقًا بعد فيضان نهر سوات بباكستان    الهلال يحقق مجموعة من الأرقام القياسية في مونديال الأندية    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقوى الله أعظم زاد، وشهر المحرم موسم عظيم للعبادة    12 جهة تدرس تعزيز الكفاءة والمواءمة والتكامل للزراعة بالمنطقة الشرقية    الشيخ صالح بن حميد: النعم تُحفظ بالشكر وتضيع بالجحود    تمديد مبادرة إلغاء الغرامات والإعفاء من العقوبات المالية عن المكلفين حتى 31 ديسمبر 2025م    بلدية فرسان تكرم الاعلامي "الحُمق"    مدير جوازات الرياض يقلد «آل عادي» رتبته الجديدة «رائد»    استشهاد 22 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    ثورة أدب    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نائب أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    تحسن أسعار النفط والذهب    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الإطاحة ب15 مخالفاً لتهريبهم مخدرات    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الرابعة لرحيله المبكر صدرت أعماله القصصية الكاملة : جميل حتمل : قصاص الخيبة وممثل جيل الهزائم
نشر في الحياة يوم 11 - 09 - 1998

بصدور كتاب "المجموعات القصصية الخمس" للقاص الراحل جميل حتمل، الكتاب المشتمل على تسع وستين قصة قصيرة كتبت في الفترة الممتدة من 1976 - 1994، تنفتح أمامنا - نحن أصدقاء وقراء نتاجه هذا - صفحة جديدة من حياة هذا الكاتب، الصحافي، المناضل السياسي، والمكافح الناشط في حقل الدفاع عن حرية الرأي والتعبير. صفحة ذات وجهين: الوجه الأول يمكن أن نقرأ فيه نتاج حتمل تحت أضواء تجربته الحياتية التي نعرف الكثير من تفاصيلها وملامحها. وفي الوجه الثاني نقرأ - تحت أضواء التجربة القصصية - ما لم نعرفه من تفاصيل وملامح شخصية صديقنا الراحل/الحاضر بقوة، ونرى ما لم يكن يرغب أن نراه من أسرار حزنه وتوتره وقلقه. ونَشعر كَم كنا مخدوعين حين كنا نعتقد أن ذلك القدر الهائل من العلاقات التي كان جميل محاطاً بها، قادر على حمايته، وانقاذه من وحش الوحدة والعزلة الذي كان يفترسه يوماً يوماً. ونكتشف أن الفرح الهائج والابتسامة العريضة الساطعة، والتنقل الدائم بين العواصم، لم يكن سوى أسلوب لمواجهة الموت المترصد، لكن ذلك كله كان - أيضاً - رحيلاً غامضاً وسحرياً صوب هذا الموت، فقد كان تعب القلب قد بلغ أقصى درجاته. وربما يكون جميل قد شعر بأن لا جدوى من المقاومة، في زمن سقوط الكثير من الأقنعة، وتهاوي الكثير من المبادىء، وانهيار مجمل أحلام الجيل، على الصعيد العام. وفي مرحلة اشتدت فيها الآلام، وارتفعت عالياً أسوار العزلة، وبات الموت ضيفاً يومياً ثقيلاً في زوايا البيت والمترو، وفي الهاتف، وفي الفراش أيضاً، على المستوى الخاص.
داخل النص... في الحياة
صعب أن نقرأ قصص ونصوص حتمل دون أن نستعيده كاملاً: الوجه والقلب والروح والجسد. السهر والتجوال والعمل الدائب، الحوارات والجدل، الطرفة الجديدة والأغنية والكتاب الجديد.
ظل جميل وفياً لعاداته في التواصل - مراسلة أو مهاتفة - مع أصدقائه، وفي إرسال الهدايا الصغيرة بطاقة عيد، شريط كاسيت لأغنية أو قصائد: آخر هدية كانت قبيل وفاته، حين حضر الى مهرجان جرش 1994، إذ قدم لي كتاباً وشريطاً لقصائد من مظفر النواب، ومحاولة تأمين دعوات الى ندوات ومهرجانات ومؤتمرات، واستثمارها في خلق علاقات وتوصيل رسائل أو في جمع تواقيع للإفراج عن معتقل في بلد ما، أو لإطلاق حرية التعبير في مناسبة ما أو بلا مناسبة.
أما ليلته الأخيرة معنا - ولم نكن نعتقد أنها الأخيرة له في عمان، إذ كان قرر الانتقال الى عمان للعيش قريباً من بلده الذي لم يكن يستطيع العودة اليه - فقد كانت واحدة من ليالي الجحيم، ليس لجميل وحده، بل لنا نحن مجموعة الأصدقاء الذين حاولنا إحاطته بسياج عالٍ من الرعاية والتشجيع على العودة الى باريس لإجراء العملية وتصفية شؤونه هناك والرجوع الينا. فتركناه لينام حتى يستيقظ مبكراً ويسافر، فصعد الى غرفته في الفندق، وبقينا نحن في "اللوبي" مع من تبقى من ضيوف المهرجان. وما هي سوى دقائق حتى جاءني اتصال، وكان جميل من غرفته. قال أنه لا يستطيع النوم، وأن عليّ أن أحضر له أية كحول متوفرة، فصعدت الى غرفته معتقداً أن أهدّئه، إذ كان من غير الممكن تلبية طلبه بسبب سوء وضعه الصحي. إلا أن من رأى ما كانت عليه حاله في تلك اللحظات كان سيجزم بأن اكتئاباً حاداً وشرساً قد حلّ به، وأن الكحول ليس سوى وسيلة انتحار بطيء، ما دام جميل يرفض - وربما لا يستطيع، لأسباب عدة - أن ينتحر انتحاراً تقليدياً. وكان اصراره يكبر كلما حاولنا تهدئته والتخفيف من حدة يأسه. كان يأساً يولّد سيلاً هائجاً من "النرفزة"، ويكشف عن غرق حاد وقلق وتوتر شديدين.
كانت تلك ليلة غريبة. لم يسبق أن رأيت جميل في حاله تلك على مدى سنوات جمعتنا في علاقة لم تنقطع، إذ كنت أراه، دائماً، بشوشاً ضحوكاً ممازحاً. هل كان جميل يدرك أن ليلته هذه ستكون الأخيرة في عمان، عمان التي اختارها لإقامته، وكلفني - وربما كلف غيري - بالبحث عن بيت ملائم له إذا ما نجحت عمليته، لأنه - ربما - وجد في أصدقاء عمان ومناخها ما هو أقرب الى روحه من باريس وعالمها" لكنه سافر ولم يعد. وبلغنا نعيه يوم السابع من تشرين أول، أي بعد أقل من شهرين على سفره. يختلط الآن، بعد قراءة المجموعات الخمس، عالمان هما في الأساس عالم واحد في حياة جميل حتمل كما عرفتها. يختلط عالم القصص بعالم الواقع. قصص حتمل هي حياته، لكن حياته ليست مقتصرة على قصصه. حياته كانت تتسع لنشاط متعدد واهتمامات شتى. ومن يقرأ ويتتبع تواريخ كتابة القصص سيكتشف أن جميل قد كتب ما يقارب نصف قصصه في السنوات الخمس الأخيرة من حياته وخصوصاً في السنتين الأخيرتين حيث كتب فيهما مجموعتيه الأخيرتين "قصص المرض... قصص الجنون" 14 قصة، و"سأقول لهم" 12 قصة.
كانت حياته قصيرة 38 عاماً سريعة الايقاع، متوترة، غنية، ومبتورة. وهكذا جاءت قصصه أيضاً، متوسط طول القصة أربع صفحات، وكثير منها لا يتجاوز الصفحتين، وبعضها أقل من صفحة. وتمتاز في غالبيتها بشحنة عاطفية عالية. كما أنها تحتفي بالتفاصيل دون أن تلغي المنظور العام والرؤية الجوهرية المعمقة الى ما هو أساس. وغالباً ما تنتهي قصصه نهايات تشير الى رغبه في البتر والإنهاء، إلا أن ذلك لا يعني أن عناصرها لم تكتمل، بل يعني أن القاص مهجوس - أساساً - بما يقول، ثم ببنية القول. فالمقول، خصوصاً في قصص السنوات الأخيرة التي اشتد فيها المرض، هو في المقام الأول. وثمة الكثير الذي ينبغي أن يقال. ولم يكن القاص ليلتفت، من بين آلامه الكثيرة، الى الشكل الذي سيقول فيه مقولاته وحكاياته وذكرياته ومشاعره وأحاسيسه. كان همه، إذن، أن يقول أكبر قدر مما في جعبته ولو في صورة شهادة على ما جرى وما يجري، سواء كان في غرفته وحيداً، أو في غرفة المشفى، خصوصاً في قصته "كلاش" التي يمثل فيها "بطلاً" يبلغ الثامنة والثلاثين، حيث يحتفل بعيد ميلاده ولا يأتي سوى أربعة أصدقاء ليقولوا له "كل عام وأنت بخير"، فلا يرى "أبشع من مدينة فيها 12 مليوناً، يأتي منهم أربعة أشخاص فقط، أي شخص عن كل ثلاثة ملايين". انها شهادته على مدينة وعلى زمن معين في هذه المدينة، وفي هذا العالم.
عالم القصص
نقول ان عالم حتمل القصصي غني ويعكس غنى التجربة الحياتية التي لم يقدر أن يستنفدها، فراح يختار منها أبرز محطاتها، ويختار من هذه المحطات ما هو أشد سطوعاً وقابلية للانكتاب في نماذج إنسانية ذات أبعاد متنوعة.
إلا أن هذا الغنى ينحصر في محاور أساسية يندر أن يتجاوزها، في احدى قصصه "قصة عن فلاّح... أي فلاّح"، يتنبه القاص - في تدخل سافر من تدخلاته التي أخذت تكثر كلما اقترب الكاتب من الرحيل - الى أنه قاص "أنا قاص، وعليّ أن أكتب عن فلاحين، فليس من المعقول أن أكتب دائماً عني، أو عن معتقلين، أو مطاردين، أو عن مثقفين بهموم خاصة، أو سكان مدن ما... لا يجوز...."، فيكتب عن الفلاح "عامر" الذي يأتي من الريف ويتطوع في الشرطة، وبسبب بنيته القوية يفرزونه لجهاز المخابرات، ويطلبون منه تعذيب معتقل، وبعد جولة من التعذيب يُغمى على السجين، ولكن عامر يواصل، تحت أوامر المسؤول تعذيب المعتقل، ولا ينتبه الى موته إلا حين يأتي ممرض سمين... المهم في القصة أن تدخلات القاص تجعله يقول انه هو، ذو الأصول الفلاحية من جهة، والمنتمي الى حزب العمال والفلاحين من جهة ثانية، لا يجد فلاحين مهمين يمكن أن يكتب عنهم.
في قصص جميل - إذن - محاور كبرى قليلة: السجن، المرأة الأم، الحبيبة، الزوجة، الحلم، المثال، الموت، الوطن. وربما يُمكن القول بأن هذه المحاور لا تأتي مستقلاً الواحد منها عن البقية، فهي تتداخل وتتراكب في علاقة تشد كلاً منها الى سواها. بل ان كل محور من هذه المحاور ينطوي على نقيضه، ففي السجن تبرز الحرية، وأمام المرأة يظهر الفراق، وعند حضور الموت تحضر الحياة، وفي كثافة الغربة يتقطر الوطن وتتكثف الحاجة اليه.
تحتل الذات حيّزاً واسعاً من القصص، لكن هذه الذات لا تأتي معزولة عن الأنا الجمعية التي تسكن الكاتب، بل تنصهر فيها لتعبر عن همومها وتجسد معاناتها، حتى في أشد حالات الذات الفردية عزلة وانفصالاً عما حولها.
والذات هنا - ذات المؤلف والناشط المناضل - تبدأ محتشدة بالأحلام والأمال ومكتظة بالبراءة والمثالية، وتنتهي وقد مزّق العالم القاسي الشرس أحلامها وأجهض آمالها، وزرع بديلاً من ذلك الآلام وأشكال الحرمان والقطيعة والذئبية الحيوانية التي تملأ قلوب "البشر".
على محور السجن، يحضر السجين والزنزانة في مقابل الحرية وحب الوطن وحب المرأة لابنها وقلقها على كونه مطارداً، وخوف الزوجة من اعتقال زوجها أو الحبيبة لغياب حبيبها. تحضر صورة الإبن الذي يولد وأبوه في السجن، وحين يخرج الأب السجين، مهدوداً ومهزوماً، لا يستطيع احتضان ابنه الذي لم يره من قبل.
وقبل السجن تحضر صور من النضال لا يعرفها الشاب ولا ينخرط فيها إلا بعد أن "أخذوه" حين لم يجدوا ابن عمه الذي يقطن معه في غرفة بائسة، وبعد التحقيق والضرب، تنخلق لدى الفتى مشاعر قبول لما يفعله ابن العم ورفاقه، تتطور الى حد الغوص في العمل السياسي الذي سوف يشكل مادة لعدد من القصص تتداخل فيها السياسة والحب والبؤس والحواجز الطبقية.
وبعد السجن تبدأ مرحلة المنفى والاغتراب والحنين الى الوطن، هذا الحنين الذي يبلغ مبلغه من الكاتب/بطل القصص القادمة، والذي يصرخ في واحد من نصوصه الأخيرة، متعباً ومهزوماً "تعبت يا الله. وأريد أن أعود الى مدينتي. أو الى بيتي القديم. تعبت من المترو والانفاق والوحدة وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ بالانطفاء. تعبت وأريد كل مساء أن أهمس لأبني بمساء الخير... تعبت، فأعدني يا الله. ولو جثة، أعدني" 30/11/1993. ولم يكن ممكناً أن يعود الا جثة.
وفي موازاة الحضور الطاغي لمناخات القمع والسجون، ثمة الحضور المهيمن للمرأة أيضاً. المرأة الحبيبة غالباً. ثم الأم التي ما ان تحضر في صور من الحنان والاحتضان، حتى تغيب، مبكراً، ذلك الغياب القاسي لأنه نهائي والى الأبد. أما الحبيبة، والزوجة، فغالباً ما يكون حضورها سالباً، متعِباً، دافعاً الى التوتر والوحدة. انها الحبيبة التي لا تكاد تحضر حتى تغيب ذلك الغياب المؤلم والمعذِّب لأنه غياب لا يلغي حضورها في مكان ما، وقد تظل قريبة من "البطل" لكنها ممنوعة أو ممتنعة أو متمنعة، هاربة، هاجرة، خاذلة. يطاردها كما الوهم. وتهرب كما الحقيقة القاهرة. فالبطل هنا - وغالبية أبطال جميل يحيلون عليه، أو على شخصية واحدة كما لو أنه بطل رواية - يستحضر، في عزلته ومرضه، نساء كثيرات، جمعته بهن علاقات من نوع ما، أما الآن، فهنّ - جميعاً - غائبات. وإذا حضرن، ففي هلوسات وهذيانات وأوهام الرجل المريض/المجنون.
وفي المحور الثالث، الموت، تلتقي عناصر كثيرة من المحورين السابقين، وخصوصاً حين يتعاظم المرض، وتشتد العزلة، وتغيب النساء، ويتناقص الأصدقاء، لتدفع الى رؤى مليئة بالموت في صور شتى: الموت انتحاراً، الموت المعنوي، الموت ضجراً أو تعباً، موت "البطل" موتاً فانتازياً عبر الانفصام ورؤية الذات الأخرى في صورة الميت الآخر، وموت الآخرين الذي يتخذ صيغاً عدة، وموت الأشياء الحميمة، وصعود الأشياء الزائفة. ومن عالم الموتى يتصل الأب ليخبر ابنه انه قادم في زيارة، فيرتب الابن عناصر احتفال يكاد هو نفسه أن يصدق معه أن والده قادم، ثم يشكك في الصباح، حين يصحو ويتذكر أنه نام منتظراً والده، ما إذا كان الأب حضر أم لا، فالكؤوس قد شُربت، والألوان التي أحضرها تحولت، على القماش الأبيض، لوحة فاتنة. أتراه طغيان صورة الأب وحضوره الباهر في حياة ابنه، أم الشعور باقتراب موعد اللقاء مع الأب، ولكن "هناك" في العالم الآخر؟!
أم الوطن الممنوع، المحلوم به، فهو جزء من صورة أكبر لوطن عاش فيه "بطل" القصص وراويها ومؤلفها، فثمة الوطن القضية التي يحملها المناضل. وثمة الوطن المنتهك بالشركات الأجنبية، والوطن المسلوب الإرادة المركون في السجن كأبنائه، وتتسع صيغة الوطن لتشمل عناصره المكوّنة له: الإنسان / المواطن، السلطة، المجتمع، الطبقات، وفي هذا الإطار تبرز العلاقات المعقدة والمتشابكة. يبرز القاهر والمقهور، تبرز علاقة الحب التي تحول دونها فروق طبقية حيناً، وحواجز السلطة حيناً آخر. ويلتفت المرء الى أرملة الشهيد في علاقتها مع أحد المسؤولين وحيث يراقبهما الشاب المجند المكلّف حماية منزل الشهيد.
وسوى هذه العوالم، ثمة الكثير الذي لا يخرج عن المحاور المحددة أعلاه. غير أن عالم جميل حتمل يبقى أغنى بكثير، لا من حيث كم التفاصيل التي يستحضرها في قصصه، بل من حيث رهافة المعالجة وتنويع أسلوب العمل. ولعل الكثير من المواضيع تشهد تكراراً في مواقع عدة، إلا أن التكرار يأتي غالباً في زاوية نظر مختلفة. ولعل القاص الذي يبدو مؤمناً بالتناسخ، يجسد هذا الأمر في صور أشخاص يتكررون أو علاقات تتكرر، كما في قصة "صباح المدينة"، أو "عربة آخر الليل".
النهايات
في العامين الأخيرين قبيل رحيله، أخذ جميل يعايش الموت ولا يخاتله. وشيئاً فشيئاً راح يغرف من مصدرين: مرض القلب، وعالم الطفولة وذكريات العائلة. في المصدر الأول وجد مادة زخمة لتأملاته، فأطلق لمشاعره وأحاسيسه العقال، وكانت القصص لا تبالي كثيراً - وقد لا تبالي أبداً، أحياناً - بالحبكة. ففي المشفى، تحت "هلوسة" التَخدير، راح جميل يكتب كل ما يخطر له. ثمة نصوص مفتوحة لسرد أشياء لا رابط بينها سوى هواجس الراوي/الكاتب مثل "عادة... سرية". في هذه النصوص تهجم الأشياء دون تنظيم أو تسلسل.
في عالم الطفولة والعائلة يعود جميل الى العمة والجدّة والجد والخال، فيرسم شخصيات تنطوي على أبعاد أسطورية أو يعمل الكاتب على "أسطرتها" كما يفعل بالجد في قصة "عائلة بوليسية" والجدة في "جدتي والبئر" أو "كيف قتلت جدتي".
كان هاجس جميل أن يقول كل ما لديه بصرف النظر عن التقنيات، بل - كما يعلن في أحد نصوصه - بكراهية للحداثة! كان الموت يملأ الفضاء ويسد الأفق، وكان جميل قد أخذ يعدّ أياماً، لذا كانت كتابته قد بدأت تغدو أكثر حدّة ومباشرة للأشياء. وباتت السخرية، التي كانت أسلوب عيش وكتابة، تنحو صوب السواد، وتغدو مشرطاً أكثر جرأة في معالجة الجرح، ولكن أقل مهارة. أكثر حدّة، وعصبية، وأقل قدرة بهذه المعالم، يشكل جميل حتمل حالة خاصة في الكتابة القصصية العربية. حالة توشك - حيناً - أن تأخذه الى مصاف كبار كتاب القصة، وتكاد - حيناً آخر - تقنعه في عالم كتاب السيرة الروائية أو القصصية.
يبقى أن ننتظر رواية قصيرة غير منشورة حتى الآن، لنرى - حين تنشر - ما الذي تضيفه الى ثروته المنشورة.
ويبقى أن جميل حتمل يستحق تكريماً في صورة كتابات من أصدقائه الذين عايشوه في محطات حياته. كتابات تنبش في ما هو أكثر حميمية، وما هو أشد عمقاً، في شخصه وفي كتابته، هو الذي كان عربياً بالقدر نفسه الذي ظل فيه سورياً يحلم بالوطن الأول.
حياته وأعماله
ولد جميل حتمل في دمشق عام 1956، والده هو الفنان التشكيلي ألفريد حتمل. درس الأدب العربي في جامعة دمشق. بدأ كتابة القصة القصيرة مبكراً واعتبر مذ ذاك احد اهم الاسماء في جيل السبعينات في سورية. عمل في الصحافة المحلية ثم العربية في بيروت ونيقوسيا ولندن وباريس والكويت وعمان. ساهم في السبعينات مع عدد من كتاب جيله بإصدار نشرة ادبية عنيت بالكتابة الجديدة في القصة والشعر ولم يكتب لها الاستمرار اذ اوقفت بعد 12 عدداً.
اعتقل عام 1982 بسبب انتمائه السياسي وسرعان ما نقل الي مستشفى السجن ثم اطلق سراحه بعد اشهر بسبب اصابته القلبية التي اضنته منذ بكوره. سافر عام 1982 الى فرنسا لإجراء عملية صمام القلب. ثم سافر ثانية الى فرنسا عام 1985 وأرغم على البقاء فيها، فعمل مراسلاً ثقافياً لأكثر من صحيفة عربية. تعاون مع العديد من منظمات حقوق الانسان العربية والدولية لمتابعة موضوع الحريات العامة وحرية الكتابة والكتّاب.
وقبل وفاته بعام كتب يقول: "تعبت يا الله. وأريد ان اعود الى مدينتي، او الى بيتي القديم. تعبت من المترو والانفاق والوحدة، وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ بالانطفاء. تعبت وأريد كل مساد ان اهمس لإبني بمساء الخير. تعبت من الصقيع. من سياط الوحشة. من برودة الرغبات.. تعبت، فأعدني يا الله ولو جثة، أعدني..". توفي في 7 أيلول سبتمبر 1994.
* صدرت المجموعات القصصية الخمس وهي تضم: 1 - الطفلة ذات القبعة البيضاء. 2 - انفعالات. 3 - حين لا بلاد. 4 - قصص المرض. قصص الجنون. 5 - سأقول لهم وهذه تنشر للمرة الأولى... في ثلاثمائة وعشرين 320 صفحة، وتضم مقدمة الروائي عبدالرحمن منيف. والغلاف الأول من يوسف عبدلكي... عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.