بيني وبين البحر علاقة قديمة. ان مشهد البحر بلونه الازرق الداكن في المياه الغريقة يثير في نفسي إحساساً بالمهابة والرهبة، كما ان مشهد الموج الأزرق الفاتح في المياه الآمنة القريبة من الشاطئ يثير في نفسي إحساساً بالحب والأمان. وقد قرأت عن البحار كما عبرتها في الطائرة أو في السفن وكان احساسي بالبحر يأخذ اشكالاً مختلفة. انني اشعر إذا وقفت امام البحر بأنني حفيد يقف امام جده الأعلى إن كانت الأحياء أتت من الماء. وفي مرحلة الشباب كنت كثير التردد على مدينة الاسكندرية. لا يكاد الصيف يقبل وننتهي من الامتحانات حتى نشد الرحال الى الاسكندرية نقضي فيها شهراً كاملاً. بعد هذا الشهر كانت الأسرة تعود الى القاهرة، أما أنا فكنت أذهب الى خال لي يقيم في الاسكندرية، فأقضي في بيته شهراً آخر، ثم أعود إلى القاهرة. كنت اسبح في البحر، ثم أعود إلى الشاطئ لأجلس على الرمل وآخذ حماماً من الشمس. لم أكن أحس بأي ملل من البحر والشمس... مهما طال جلوسي امام البحر أو طالت سباحتي داخله. وكانت هناك قوارب تسمى "البيرسوار" وهي قوارب بمجداف واحد وكنت امتطيها كما يمتطي الفارس حصانه وادخل بها في اعماق البحر، وهناك أترك المجداف وأستلقي على ظهري فيعيدني الموج إلى الشاطئ بعد ساعة أو ساعتين. وخلال هذه الساعة او الساعتين. وكان بعض اصدقائي ممن يخافون يسألونني: ألا تخاف أن ينكسر البرسوار وأنت في قلب البحر لأي سبب من الأسباب فتغرق وتموت. وكان ردي عليهم أن بيني وبين البحر علاقة قرابة وثيقة، انه جدي.. فهل رأى أحدكم جداً يُغرق حفيده. ولم يكن منطقي هذا يقنع احداً من اصدقائي.. وكانوا يلتزمون جانب الحذر في علاقتهم بالبحر. كانوا يسبحون حتى البراميل.. وهناك يستريحون قليلاً او كثيراً بحسب قدرة كل واحد، ثم يعاودون السباحة الى الشاطئ. كان هذا في سن الثامنة عشرة او العشرين. كنت أجيد السباحة، والتجديف.. وأذكر أنني انقذت في هذه الفترة فتاة كانت توشك على الغرق، وصرخت تطلب النجدة فألقيت بنفسي في المياه وسبحت نحوها، كانت قريبة من الشاطئ ولكن المكان الذي كادت تغرق فيه كان عمق مياهه مترين تقريباً ويبدو أنها لم تكن تجيد السباحة. ما الذي ذكّرني بهذا كله، أقول لكم ما الذي ذكّرني بهذا كله. دعاني بعض اقاربي الى زيارتهم في الشاليه الذي اشتروه في الساحل الشمالي.. وذهبت على رغم مشاغلي وقلت لنفسي ان عجلة الحياة لن تتوقف لغيابي يومين، كما انها فرصة لأقفز في مياه البحر المتوسط.. وهو بحر لي معه ذكريات قديمة. قال لي أقاربي إن مياه الساحل الشمالي تختلف عن مياه الاسكندرية. ان معظم شواطئ الاسكندرية هي خلجان تصلح للسباحة وليس فيها امواج هادرة او تيارات سحب.. أما الساحل الشمالي فيختلف. لم التفت الى كلامهم وكنت في اليوم التالي أسير نحو البحر، وهناك خلعت القميص ورميت بنفسي في مياه البحر وبدأت أسبح. كم قضيت في السباحة، لا أكثر من عشر دقائق.. ثم ادركني التعب واحسست بأنني سأموت اذا لم اتوقف لالتقاط أنفاسي.. حاولت أن أقف فلم أجد أرضاً أقف عليها.. وتذكرت الفتاة التي أنقذتها في شبابي. قلت لنفسي يجب أن أعاود السباحة إلى الشاطئ.. وبدأت أسبح، وأدركني الرعب الذي يدرك الغرقى عادة قبل غرقهم. وعاودت السباحة بعنف في اتجاه الشاطئ محاولاً اقناع نفسي بأنني يجب ألا استسلم للرعب.. ولكنني كنت مستسلماً للرعب فعلاً، وشربت من مياه البحر. كم استغرقت للعودة الى الشاطئ .. ساعة كاملة.. كان الذهاب في عشر دقائق وكان الإياب في ساعة.. لم أصدق نفسي حين عثرت على أرض أقف عليها.. من يومها لم أعد الى الساحل الشمالي.