بيتر ل. برنشتاين المترجمة: مها حسن بحبوح. سطوة الذهب. مكتبة عبيكان، الرياض. 2002. 650 صفحة. كتاب يحكي قصة الذهب بكل روعته وأساطيره والسحر الذي يمثله للأفراد والأمم على حد سواء. وإلى اسلوبه المفعم بالحيوية ومادته الرائعة، فهو دراسة معمقة ليس عن الذهب فحسب، بل عن تاريخ الاقتصاد بكل شموله. في هذا الكتاب المثير يروي لنا المؤلف بيتر برنشتاين قصة اكثر الممتلكات في التاريخ تمجيداً، ألا وهو الذهب. فمنذ افتتان ميداس به في العصور القديمة، وصولاً الى الاضطرابات المعاصرة التي سببها معيار الذهب، كان المعدن الأصفر يودي بكثير من مالكيه، تلهّفاً وتباهياً، الى نهايات مؤسفة. فقد كان الذهب هو الذي يملكهم وليس العكس. ولا تزال أسواق المضاربات السريعة تحكي لنا كل يوم قصص الثورة المفاجئة أو الفجيعة القاتلة بسبب الذهب. على ان أهم ما يحكي عنه الكتاب هو دور الذهب في صياغة التاريخ البشري. يبدأ الكتاب برواية آخاذة عن مزايا الذهب السحرية والفنية مروراً باختراع العملة وتحويله الى نقد وصولاً الى قاعدة الذهب. وكان كلما ازدادت اهميته نقداً ازداد تعبيره عن القوة. وتحفل صفحات هذا السفر النفيس بشخصيات لا تنسى من التاريخ منذ مرحلة فورة الذهب ومستودع السبائك الذهبية الاميركية في عصرنا الحاضر في فورت نوكس، وصولاً الى نهايات القرن الماضي حيث بدا وكأنه بدأ يفقد سحر لمعانه وسطوته أمام اندفاع العولمة. ويتوقف المؤلف عند شخصيات مغامرة من أمثال كراسوس، مضارب روما الشهير، وماركو بولو من البندقية، مروراً بشارلمان حتى يصل الى شخصيات سياسية بارزة معاصرة كديغول وتشرشل ونيكسون، مستعرضاً مواقف هؤلاء السياسية من ذلك المارد الأصفر الطاغي. كما يتوقف طويلاً عند تقويم اقتصاديين بارزين للذهب، من أمثال ديفيد ريكادو وجون مينارد كينز. كان الذهب دوماً يجمع النقيضين. فهو معبود الجشع ورمز لصحة الرأي، وهو أداة للغرور القاتل وسلاح للقوة الغاشمة. ويعبر المؤلف بنفسه عن هذا التناقض فيقول: "لا يوجد شيء كالذهب عديم القيمة وقيم جداً في آن واحد". وثمة محطات مهمة في هذا السرد عن تاريخ الذهب وأدواره، خصوصاً منها ما يتعلق بتاريخنا المعاصر، التي لا بد من التوقف عندها قليلاً. فما سر هذا المعدن الأصفر اللماع، أو "الفجر المتألّق" AURORA كما يدل عليه اسمه، والذي حرك مجتمعات بأكملها، وقضى على اقتصاديات وحولها الى أشلاء، وحدد مصائر الملوك والأباطرة، وكان الملهم لأروع الأعمال الفنية؟! عندما قام بندار في القرن الخامس قبل الميلاد بوصف الذهب بأنه "طفل زيوس، لا يستطيع العث ولا الصدأ افتراسه، لكن هذا المقتنى الأسمى يستطيع افتراس عقل الانسان"، فإنه لخص قصة الذهب بجملة واحدة. وفي العصر الحديث أعاد جون ستيوات ميل صياغة الفكرة ذاتها ببراعة حين قال عام 1848: "يمكنك لمس الذهب بأمان، لكنه إذا التصق بيدك فسيجرحك حتى الصميم". ولكن ما هي مكانة الذهب في عالمنا المعاصر الذي يحفل بالفن التجريدي، والنقد المتداول عن طريق الكومبيوتر ومتاهات الانترنت؟.. ما هي مكانته في ظل اقتصاد عالمي تزداد فيه سطوة المصارف المركزية والمؤسسات الدولية؟! هناك شيء واحد لا يتطرق اليه الشك: ان دوافع الجشع والخوف ومشاعر التطلع الى القوة والجمال، والتي حررت آلاف القصص، ما تزال حية وفعالة حتى اللحظة الراهنة. وما تزال قصة الذهب قصة عصرنا بقدر ما كانت حكاية من الماضي. فمن الملك المسكين ميداس الذي دمره حب الذهب الى علي خان الذي يوزع سنوياً مقدار وزنه ذهباً، ومن المناجم الرطبة في جنوب افريقيا الى الأقبية النظيفة في فورت نوكس، ومن الأسواق الشعبية في البنغال الى الأسواق المالية في لندن، يعكس الذهب سعي البشر اللاهث وراء الحياة الخالدة... وراء اليقين المطلق. في 1661 أصدر الملك تشارلز الثاني، ملك انكلترا، قراراً يقضي باستخدام الالات في سك النقود الذهبية بدلاً من الوسائل اليدوية التي كانت متبعة. وأعقب ذلك قرار بجعل الذهب معياراً وحيداً لقيمة الباوند، او الجنيه، الاسترليني، مما عنى استبعاد الفضة معياراً للنقد. وجاء هذان القراران ايذاناً بعصر جديد في تاريخ الذهب كنقد. فقد نشأت بعد ذلك عدة مؤسسات على أساس الدور المركزي الجديد للذهب. وقُدّر لتلك المؤسسات ان تحكم اقتصاد العالم خلال القسم الأعظم من القرنين التاسع عشر والعشرين. ومن الطريف هنا ان نذكر ان ملك بريطانيا جيمس الثاني أصدر قراراً عام 1699 بتعيين العالم البريطاني المشهور نيوتن مديراً لدار سك النقود الذهبية في لندن. ونكتشف أن نيوتن، عدا شهرة تفاحته، كان صاحب أفكار اقتصادية حول العملة والمضاربة، وكان من المتحمسين للعملة الذهبية. وظلت لندن على مدى قرنين من الزمن عاصمة الذهب. وكانت اقبية "بنك انكلترا" تضم أكبر مخزون من السبائك والعملة الذهبية في العالم. لكن اكتشافات القرن التاسع عشر والعشرين الجديدة جاءت لتهز هذه الصورة بقوة. اذ ان المدى الذي بلغته اكتشافات القرن التاسع عشر، في كاليفورنيا واستراليا وجنوب افريقيا، مسخت كل ما كان قد حدث في تاريخ الذهب حتى ان انتاج الولاياتالمتحدة وحدها من الذهب كان يفوق - من حيث القيمة - كل ما تنتجه من حديد ونفط. وظل ذلك مستمراً الى ما بعد الحرب العالمية الأولى. ويكفي للدلالة على فورة الذهب أن نشير الى أن الانتاج العالمي منه عام 1908 زاد بمقدار 100 ضعف عما كان عليه عام 1848، و4.5 أضعاف مستويات الانتاج قبل 20 سنة فقط، وهذا ما أدى بدوره الى سيطرة كاسحة للذهب على الفضة في النظام المالي العالمي. ففي 1900 بات الذهب وحده معياراً للنقد، ولم تعد الفضة الا مجرد عملة نقدية ومعدن ثمين له استخداماته العملية. وقد كرس لنا المؤلف فصلاً كاملاً ليروي لنا قصة ازاحتها عن عرش النقد. وستظل قصة صراع المعدنين تاريخاً للنقد العالمي كله. وبدورها ساهمت روسيا في فورة انتاج الذهب، ووصل انتاجها منتصف القرن التاسع عشر الى ما يزيد على نصف انتاج العالم. ومرة أخرى كان الذهب سبباً للقهر والإذلال. فعمال المناجم الروس في مناجم التوندرا المتجمدة كانوا يموتون من البرد وقسوة الطبيعة حتى يوفروا للقياصرة ما يريدونه من ذهب. وظل الأمر كذلك حتى عهد ستالين الذي سخّر سجناءه للعمل في مناجم الأورال وسيبيريا. ويحفل الفصلان الرابع عشر والخامس عشر بقصص طريفة حافلة بالمغامرات والجهود المضنية من أجل الوصول الى ذلك المعدن الثمين. ولم تكن هذه قصص مغامرات فحسب، بل كانت قصة اكتشافات. فوراء كل مغامرة قصة اكتشاف منجم أو مناجم ما تزال تدر ذهباً حتى اليوم. الا ان "لعنة الذهب" رافقت كثيرين منهم وبقي الذهب للأجيال التي جاءت بعدهم. لكنْ ما هو معيار الذهب؟ انه ببساطة القيمة التي تحددها دولة ما، عن طريق الجهة المخولة باصدار النقد، لقيمة عملتها من الذهب. فقد حدد بنك انكلترا، على سبيل المثال، قيمة الباوند الاسترليني عام 1870 بأنه يساوي 113.0016 قمحة من الذهب. وحددت الادارة الأميركية قيمة الدولار ب23.22 قمحة. هذه التحديدات هي بمثابة "ميثاق شرف" من جانب حكومة من الحكومات تجاه مواطنيها أو غير مواطنيها باستبدال ما لديهم من عملة ورقية بالذهب أو العكس بالعكس. وقد وصف روبرت مانديل هذا النظام بأن "العملات مجرد أسماء لأوزان محددة من الذهب". ولما كان الاقتصادي البريطاني ريكاردو هو الذي أوحى بهذا النظام، كان من الطبيعي أن تصبح انكلترا، التي كانت أول من طبقه، عاصمة الذهب في العالم على مدى عدة عقود، على رغم ان مخزونها من الذهب لم يكن الأكبر عالميا. وظلت هذه المعادلة سارية المفعول وأساساً لتبادل العملات بين الدول. وظل الذهب مقياساً لكل عملة قابلة للتحويل، ومعياراً تُقوّم به أسعار النقد. ولم تلتزم الولاياتالمتحدة بهذا المعيار الا في 1900. ذلك ان هذا المعيار أعطى بريطانيا مكانة الدولة المالية الأولى في العالم، وكانت الصحافة الأميركية آنذاك ترى في بريطانيا "اخطبوطاً لا يتغذى الا على الذهب، ويمد أذرعه لتلتف حول العالم كله". وجاءت الحربان العالميتان لتركّعا أوروبا، ومعها بريطانيا، أمام اميركا التي باتت تجلس مرتاحة على أكبر كومة من احتياطات الذهب في العالم، وأصبحت دائنة لكل أوروبا. وقصة ازاحة لندن عن عرش الذهب قصة طريفة أخرى من بين فصول الكتاب، تدل مرة أخرى على أن الذهب "ليس له صاحب"! والدليل على ذلك انه خذل أغنى دولة في العالم - اميركا - وأجبرها على التخلي عن نظام معيار الذهب، ومعه نظام بريتون ودرز. وينزل الذهب عن عرشه مرغماً ليحتل الدولار المعبود الجديد مكانه. وهذه قصة أخرى شائكة ومثيرة من قصص تاريخ الذهب يرويها المؤلف في ثلاثة فصول، أتركها للقارئ كي يتمتع بها، ليعرف كيف استطاعت أخيراً دولة أن تروض هذا "الوحش" الذي كان وراء الكثير من الكوارث والحروب التي حلت بهذا العالم. كتاب رائع يجمع ما بين السياسة والتاريخ، ما بين الثقافة والمتعة.