بانتقال البث التلفزيوني من الأرض الى الفضاء، تحققت نقلة لا تقل بعداً عن المسافة الفاصلة بين مصدري البث. فعدا عن اتساع النطاق المكاني للبث الذي كان موجهاً الى عدد محدود من المشاهدين في دولة ما الى البث الى عدد محدود ينتشر على مساحة الكرة الأرضية، أضيفت ساعات جديدة لفترة البث غطت ساعات الليل والنهار، فانتهى عهد البث الأرضي لساعات تبقى محدودة مهما طالت، وتنتهي في العادة بالنشيد الوطني للدولة صاحبة المحطة، باعتباره الشكل الوحيد للبث التلفزيوني. وعلى رغم استمرار المحطات الأرضية بالبث فإن السيادة اصبحت للفضائيات. هذه الساعات الطوال من البث اليومي، وهذه الملايين الجديدة التي اضيفت الى قوائم المشاهدين المحتملين للمحطات الفضائية احدثت خلخلة في اولويات البث التلفزيوني، جعلت من المحتم على هذه المحطات ادخال تغييرات جذرية على برامجها. فكان عليها مثلاً ان تشتري المزيد من المسلسلات، وأن تنتج المزيد من البرامج التي تجد قبولاً لدى شرائح وفئات مختلفة من حيث العمر والاهتمام والذائقة. فبانتقال المنافسة من الأرض الى السماء، تغير الجمهور من عدد محدود من المشاهدين الى اعداد لا حصر لها، وتغيرت نوعية الجمهور من "مضطر" الى مشاهدة كل ما يعرض على شاشة تلفزيون بلاده، الى مالك لحق اختيار ما يعرض له من بين خيارات بسعة الفضاء الجديد. هذا التغير في الجمهور ونوعيته استدعى بالضرورة تغيرات عدة من بينها تغير في مواصفات "النجم" التلفزيوني، فالنجم المشهور في بلد ما قد لا يكون مشهوراً في بلدان اخرى، والنجم الذي قد "يضطر" الى مشاهدته جمهور قناة ارضية قد لا يجد من يشاهده في محطة فضائية، فنجوم الأرض غير نجوم السماء. غير ان اكثر نجوم المحطات الأرضية تضرراً كان نوعاً استثنائياً من النجوم، وأعني بهم زعماء بعض الدول الذين تحول كل منهم على شاشة المحطة الأرضية لبلده الى "نجم" يزاحم نجوم التلفزيون والسينما الحقيقيين، فالبث يبدأ به وينتهي به، ونشرة الأخبار التي تبدأ بخبر عنه تخصص في قسمها الأكبر له ولأخباره، وبعد انتهاء النشرة قد يبث شريط مسجل لزيارة قام بها الى مرفق ما، او لخطبة قالها في اجتماع ما، فإن كان "النجم" ذا نفس ملحمي في الخطابة، ومعظمهم كذلك، فهذا يعني انه ما ان تنتهي النشرة وملحقاتها حتى يكون موعد النشرة المقبلة قد أتى فيبدأ المسلسل من جديد. بعد ذلك يأتي دور التلفزيون في بث اقوال الصحف المحلية التي تتحدث عن الزعيم، والبرامج المخصصة لأقوال الصحف الأجنبية تنقل ردود الأفعال على خطبه وخطواته وعبقريته، والأغاني التي تبث تسبقها مقتطفات من اقوال الزعيم، وكلمات الأغاني غزل في الزعيم، وفي تطوير نوعي للأغنية التلفزيونية في بعض المحطات الأرضية اختفت صورة المطرب من اغنيته، واستعيض عنها بصور للزعيم في لقطات اخذت من مواقف "خالدة" له... هذا الحضور الدائم للزعيم او القائد في تلفزيون بلده، ضمن له موقعاً بارزاً بين نجوم الشاشة الصغيرة فيه. وكان ان تحول بعض هؤلاء القادة الى "فتى الشاشة" في بلاده عن جدارة، ولا يقلل من اهمية ذلك ان تكون نجوميته محصورة في تلفزيون بلاده، ففي النهاية، هذا الجمهور تحديداً هو ما يهمه. خيارات اخرى لكن هذا كله لا يصلح لشاشات القنوات الفضائية، فإذا كان مشاهد القناة الأرضية مضطراً لمشاهدة "الفتى الأول" لأنه لا يملك خياراً آخر، فإن مشاهد القناة الفضائية غير مضطر لذلك ابداً، خصوصاً أن الانتقال من الأرض الى الفضاء لم يعد يكلف اكثر من ضغط بسيط على زر من بعد. غير ان الفرحة بالخلاص من سطوة فتى الشاشة الأرضية، لم تدم كثيراً، فمع استطالة ساعات البث، ومع احتدام المنافسة بين الفضائيات اضطرت هذه المحطات الى حشو الساعات الطوال من البث ببرامج منوعة، بعضها خفيف وبعضها سخيف، بعضها جدي وبعضها يدعي الجدية. وانتعشت برامج المسابقات التي تقدمها فتيات جميلات، أو شبان وسيمون، وازدهرت البرامج التي تتضمن لقاءات مع فنانات او فنانين هربوا من مزاحمة "فتى الشاشة" على الأرض ملتجئين الى الفضاء. وراجت برامج الحوارات السياسية المفتوحة، وسرعان ما صنعت هذه المحطات لنفسها نجومها، فبرزت على هذه المحطات تشكيلة من النجوم جلها من الكتّاب والصحافيين والسياسيين ورجال الدين والدارسين والباحثين بمن فيهم الباحثون عن الشهرة. ولكن بعض فتيان الشاشة من الزعماء الذين ضاقت بهم المحطات الأرضية ذرعاً لم يستسلموا بسهولة، وسرعان ما لحقوا بالمشاهدين الى الفضاء للمشاركة في برامج الحوارات تلك، في محاولة منهم لأن يثبتوا سطوع نجمهم في الفضاء مثلما سطح على الأرض، وفي محاولة موازية لمنع النجوم الجدد من الاستئثار بالفضاء. واليوم، يمكن لمن يشاهد برنامجاً تلفزيونياً تروج فيه فضائية ما لأحد برامجها، ان يميز من بين نجوم الفضاء الجدد المعلن عن مشاركتهم في ذلك البرنامج، بعض نجوم الأرض من "فتيان الشاشة" الأرضية من الزعماء الذين اعتقد كثر من المشاهدين انه تخلص منهم الى الأبد. صلاح حزين