تتحرك المعركة السياسية والديبلوماسية، التي تشنها الولاياتالمتحدة ضد المعارضين لسياستها الهجومية ضد العراق. وبما ان روسيا التي ارتقت علاقتها مع اميركا الى مستويات لا سبيل للرجوع عنها، فقد ضعف رفضها منطق الحرب على العراق، خصوصاً انها اطمأنت الى مكاسبها، وإلى تسعير النفط بشكل ملائم وعدم خفضه الى درجة وقوعها في خسارة مواردها من عائداته. وقد سهّل عليها الرئيس الأميركي موقفها، في عرضه على الأممالمتحدة امكان قبوله بنوع من التسوية، وإعطاء فرصة اخيرة لنظام صدام كي يقوم بكل ما يلزم الكشف عن اسلحة الدمار الشامل، واضعاً في حسبانه "هفوة صدامية" تشعل الحرب. كما ان الصين لم تمانع في درجة من الإخراج، لا تغضب اميركا إذا ما دُفع الثمن وتأمنت المصالح. اما فرنسا، فهي خائفة من مواجهة اميركا وحدها، على رغم دعم ألمانيا لها. وتعاني القيم الديموقراطية من غلبة الأمن - المصالح، وإعلان الضربات الوقائية والحروب الاستباقية لتحقيق اهداف اميركا الخاصة على حساب العالم، من دون غطاء اخلاقي. هذه السياسة المؤثرة سلباً في الديموقراطية وشرعة حقوق الإنسان، قبل وبعد كارثة 11 ايلول سبتمبر، تلخص في سباق التسلح حرب النجوم والبيئة رفض اتفاق كيوتو، وفي الاقتصاد، سعر الفائدة والحمائية والضرائب الصلب، الموز، والعلاقات الدولية غير المتوازنة، وحفظ تفوق اسرائيل على الشرق الأوسط ورعاية دورها الإقليمي، ومساعدة الديكتاتوريات والنظم الشمولية، وممارسة ازدواجية المعايير، والحرب الوقائية وحق تغيير الأنظمة. كل ذلك يمثل عقبات كأداء امام الديموقراطية الأميركية، والتي لن تتعافى مجدداً إلا بعد تفوقها على نزوعها الامبراطوري، حيث عبر بوش عن اصراره على اسقاط صدام، لأنه "يكره اميركا وإسرائيل وأصدقاءنا"، في مزاجية - انتقائية وتقريرية بائنة. كما يتم اختراق الوضع الديموقراطي الداخلي بجملة من القرارات المستحدثة، تعيد اميركا الى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والتمييز العنصري والاعتداء على حقوق المواطنين الملونين، تحديداً من الدول العربية. وهذه اوروبا العجوز، ووحدتها الهادفة الى ايقاظ شبابها مجدداً مع انضمام اوروبا الشرقية المتدرج لغاية 2005، وسعة سوقها، لا تستطيع إلا ان تكون مع مرجعية دولية وقوانين عالمية تحكم طبيعة العلاقات بين الأمم والدول، ومع الحلول السياسية للقضايا العالقة بين الشعوب. وها هي فرنسا النازعة نحو معارضة الحرب، ما زالت اميركا تجرها في الكثير من مناطق استعمارها القديم وخصوصاً في افريقيا، الى حروب دموية، بعد ان حاولت وتحاول الخروج من القارة البكر بمجموعة من العلاقات المتوازنة نسبياً والمساعدات التي تحفظ لها مصالحها، من دون ان تسمح لأميركا بإخراجها عنوة من مواقعها التاريخية. وتتأتى الانفرادية الأميركية، ليس فقط من ترهل اوروبا الهرمة وثقل ايقاع حركتها في انجاز المهمات الدولية، وإنما من نزوعها نحو الحرب في حل ما تراه اشكاليات اليوم ولم تره البارحة كذلك، ووقوعها في التباس طغيان التيار الأكثر يمينية ومحافظة في الإدارة، من صقور المسيحية البيوريتانية وعقائديي الإدارة من الجمهوريين، ويهود الليكود وممثلي المصالح النفطية والسلاح، اضافة الى اندراج اسرائيل في بوتقة الحرب على الارهاب والتماهي مع اهدافها، وهي الدموية الاقتلاعية على حساب حقوق الشعوب والقرارات الدولية. وربما تأتي الاحداث بما يثبت مدى قرب المجتمع الاميركي وديموقراطيته المهددة من "امبراطورية الشر" الجديدة، او بعده عنها، اذا ما تم توسيع دائرة تعميم الديموقراطية على دول الاستبداد، الديني والأمني والشمولي، على رغم تفاوت الظروف والوقائع المحلية لمسألة التعميم. فليس هناك حتى الآن انفرادية ملخصة لآراء ومصالح اكثر مناطق العالم، بل هي تعاني من الجبرية السارية في عروق السياسة الاميركية. ان فرنسا المتحررة من ظروف الانتخابات، ونجاح شيراك الباهر كممثل قوي ل"الديموقراطية الفرنسية" التي تلهج بالحلول السياسية، مستفيدة من تاريخها الاستعماري المقيت، وعدم قدرتها الحالية على منازعة اميركا ريادتها في مناطق النفوذ، وبسبب من موقعها الجغرافي كأهم دولة على البحر الأبيض المتوسط الذي كان الى حين، ونتيجة لكثافة احداثه وتأثيراته، اساس الحضارة الدولية، وتمتعها بحضور عربي تاريخي سياسي ومصلحي، مع اهمية الوجود العربي الاسلامي في فرنسا ثاني أكبر دين وعرق وضرورته في التوازنات الداخلية والأمنية والسياسية والاقتصادية، مع ما مثلته الفرنكوفونية من محطة مهمة في علاقات فرنسا العربية والدولية. كل ذلك سيضعها في مواجهة السياسة الاميركية، خصوصاً ان الرأي العام الفرنسي متحفز للحفاظ على الديموقراطية، ومنع منطق الحرب، ومنحاز الى السياسة في حلول مشكلات الشعوب وقضاياها العالقة، ويرفض منطق التهديد والوعيد والضغوط. في هذه الأوضاع العالمية المعقدة والمركبة، يعود المحور الفرنسي الألماني الى صدارة قيادة أوروبا الموحدة، على رغم تشتت سياستها الخارجية، وانحياز اسبانيا وإيطاليا الى مراعاة الموقف الاميركي ومشاركة بريطانيا في الحرب على العراق. لكن فرنسا قلقة من مواصلة تحديها الحرب الأميركية على العراق، لأنها ستوقعها في معضلة حشد تحالف دولي ولتغيير نظام صدام حسين والإيغال في ترتيب اوضاع المنطقة والإمساك بالنفط انتاجاً واحتياطاً وتسعيراً وتوزيعاً، وإقفال مشاريع اعادة البناء وحصرها بالمشاركين فقط، ومحاصرة الدول المعارضة بعد انهاء عقودها وربما مصالحها الموجودة ليس فقط في العراق بل في المنطقة ايضاً وتحجيمها على مستوى العالم، مما يصعّد الحرب في افريقيا لإخراج فرنسا منها. عالم كهذا، تحكمه القوة غير العاقلة والمتفلّتة من القوانين الدولية، سيتحول الى امبراطورية جديدة تختزل الديموقراطية والقيم، وتخط منظومة قيمية سلوكية مغايرة لمنجزات القرن العشرين. فهل تستطيع فرنسا، مع المانيا وأوروبا غير الموحدة في السياسة الخارجية، والمدعومة من الرأي العام العالمي بما فيه الاميركي، حيث تشد ازرها القوى والنخب الديموقراطية الرافضة للحرب والنابذة للهيمنة والانفرادية التقريرية لصقور اميركا على الحياة الدولية، هل تستطيع ان تعيد التعقل الى السياسة الاميركية وإنقاذ العالم من قرن دموي جديد؟! ان التزام خيار السلم والحلول السياسية، يقتضي طرح رؤية فكرية معرفية واضحة واستراتيجية سياسية محددة تحتوي شروط هذا الخيار، وكيفية توفيرها وآليات تطبيقها، والالتقاء في تحالف واضح مع القوى والتيارات السلمية على مستوى اقليمي وعالمي، وإلا سنقع في فخ خيار الحرب الذي تريده اميركا واسرائيل وكل الاصوليات المتطرفة. * كاتب لبناني.