ما هي قصة السفراء الأميركيين في العواصم العربية؟ كنت في القاهرة قبل أيام وفوجئت بحملة كبيرة على السفير الأميركي ديفيد والش، وقبل أسابيع كنت في بيروت، وثارت حملة على المبعوث الأميركي ديفيد ساترفيلد لم ينج من زذاذها السفير فنسنت باتل، وقبل أشهر مررت بالبحرين، ووجدت السفير رونالد نيومان في وجه حملة شعبية عليه. بل انني أذكر قبل سنوات ان وصل دانيال كيرتزر سفيراً الى القاهرة وأثار الصحافة والناس عليه خلال أسبوع. أفهم أن يرتكب السفير الأميركي في لندن أو باريس خطأ يحرج شخصه وبلاده، فمثل هذه المناصب الدسمة يعطى مكافأة للأنصار. غير ان المناصب في بلادنا تذهب الى ديبلوماسيين محترفين، وهم عادة من الخبراء في المنطقة، وبعضهم يجيد العربية، لذلك فالخطأ منهم غير متوقع، أو غير مفهوم. كنت دافعت عن دانيال كيرتزر عندما هاجمته الصحافة المصرية، فهو يهودي متدين، وديبلوماسي ممتاز يستطيع ان يكون منصفاً. والسفير نيومان من هذا النوع، فهو عالي القدرة ويفهم المنطقة جيداً، وقد فوجئ بموقف لم يتوقعه، فطلب الوقوف دقيقة صمت حداداً على "الضحايا الاسرائيليين" مع الفلسطينيين، إلا انه كان من الموضوعية انه قال لي بعد ذلك انه لم يكن في الأمر مؤامرة أو مقلب، وانما حدث ما حدث فجأة، ولو أنه أعطي وقتاً للتفكير لوجد حلولاً أخرى من دون أن يخل بتمثيله الرسمي لبلاده. فنسنت باتل لا أعرفه، واسمه يعني "معركة"، مع اننا في زمن الحل السلمي، ولو انه قبل تغيير اسمه الى "بيس"، أي سلام ليلائم المرحلة، فسأغير اسمي الى "مهزوم"، أيضاً لملاءمة هذه المرحلة المصيرية الحاسمة من تاريخ امتنا المجيدة، وهي مرحلة بدأت سنة 1954 في مصر ولم تنته بعد. في جميع الأحوال نعامل السفير باتل برفق، فربما كان من أصل لبناني ومن مشايخ آل حرب، بل ربما كان ابن عم النائب الشيخ بطرس حرب. وعدت الى مصر، ووجدت ان نقابة الصحافة ومفكرين وكتاباً وأدباء، حملوا على السفير والش بحدة وشدة بعد أن كتب مقالاً في جريدة "الأهرام" انتقد فيه المشككين بمسؤولية القاعدة عن ارهاب 11 أيلول سبتمبر من السنة الماضية في نيويورك وواشنطن، وطلب منعهم من الكتابة عن الموضوع. طبعاً القاعدة ارتكبت تلك الجريمة، ودور أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في التخطيط والتمويل والتنفيذ، لا شك فيه اطلاقاً عندي على الأقل. وكنت مستعداً أن أدعو وأبتهل وأنذر النذور لتكون الاستخبارات الاسرائيلية، الموساد، وراء الجريمة، إلا انها ليست وراءها، فهي تكتفي بقتل الفلسطينيين هذه الأيام. مع ذلك رد الفعل الهائل على مقال السفير جعلني أفكر ان الموضوع "مش رمانة، ولكن قلوب ملآنة". والحملة لم تكن على السفير بالذات بقدر ما هي ضد دولته، فالسياسة الأميركية مكروهة في كل بلد عربي، ولا سبب غير اسرائيل، لذلك تزيد الكراهية للسياسة الأميركية مع كل امرأة فلسطينية تقتل أو طفل، أو بيت يدمر. أقول لا يجوز الخلط بين الاثنين، فكلام السفير صحيح، كما ان الجرائم الاسرائيلية حقيقية، غير ان هذه لا تعني ان ننكر ذلك، فواجبنا أن نجتث الارهاب، لا أن نستنكره فقط، وواجب كل سفير أن يبلغ دولته ان سياستها عدائية، ولأنها كذلك فهي تكسب للولايات المتحدة مزيداً من الأعداء كل يوم، والحل ليس في توجيه محطة موسيقى "بوب" إلينا، بل في درس الأسباب وازالتها، بدل اضافة سبب جديد كل يوم. السفراء الأميركيون في بلادنا من مستوى مهني راقٍ، وقد وجدت في الذين عرفتهم منهم، تفهماً للقضايا العربية، يبلغ حد التعاطف أحياناً، ولكن، ماذا تعمل الماشطة الديبلوماسية في "الوش العكش" للسياسة الأميركية؟ والسفير ديفيد والش هو من هذا النوع الجيد الطيب، وقد قال كلمة حق، ربما استثنينا منها طلبه منع الذين ينكرون ان القاعدة وراء ارهاب السنة الماضية من الترويج لأفكارهم، وهنا نقطة مهنية مهمة غير متنازع عليها. فالمعلومات يجب ان تكون صحيحة، أما الرأي فحرّ، والسفير اعترض في الأساس على خطأ المعلومات. أقول للسفير والش ألا يبتئس، فإضافة الى كل ما سبق أعتقد انه واجه خصوصية مصرية، أو Syndrome، سأشرحها بقصة. كان زميلنا المثقف جداً حازم صاغية في مصر، وقد جمعته جلسة مع مثقفين مصريين من أرقى مستوى، والحديث عن الأوضاع المصرية، وكل مثقف مصري ينتقد شيئاً، من السياسة الداخلية الى الخارجية، الى الاقتصاد الى الرعاية الاجتماعية مشكلات البيئة. وجاء دور حازم فأدلى بدلوه بين الدلاء، وانتقد السياسة المصرية، وإذا بالمثقفين المصريين الذين انتقدوا قبله ينقضّون عليه ويهاجمونه، فالمصري قد ينتقد بلده صبح مساء، إلا انه لا يسمح لأي انسان آخر بانتقاده. مصر مليكة الشرق ذات النيل والهرم، وقد ولدتُ مصري الهوى، الا انني أعرف مصر الى درجة أن امتنع عن الانتقاد، وهو ما أصبح السفير والش يعرف الآن.