فجأة تغير كل شيء. فصباح الثلثاء كان يوماً غير عادي لسكان مدينتي واشنطنونيويورك، ولكنه كان أيضاً يوماً غير عادي للولايات المتحدة وللعالم كله. ساعات قليلة هزت العالم، وبدأت تغيّر اتجاهه. ساعات قليلة تثير كماً لا حد له من الأسئلة وردود الفعل. ساعات قليلة تسجل أنها بداية مرحلة دولية جديدة. فمع عمليات القتل، نيويوركوواشنطن بدأتا حال جديدة، ذات طابع جديد وأبعاد لم تتجمع كل عناصرها بعد. لقد بدأ كل شيء على شكل دهشة، فما وقع مستعار من عالم الخيال المدمر. فجأة تجمدت حياة كاملة، وانقلبت أحياء هادئة ومدن مستقرة، وأسواق عامرة، وأبنية شاهقة، وقدرات كبيرة تحت ضربات جنون لم نعرف مثله، بل ذهل العالم من جراء سقوط الأبنية، وتوقف حركة الطيران وتجمد المؤسسات والقطارات والمطارات والمتاحف والمتنزهات. القتلى بالألوف، والجرحى بالألوف، أطفال ونساء وشبان ورجال، من كل الألوان ومن كل الأنواع، كان ذلك ارهاباً لا يميز بين أحد، ولا توجد رحمة في قلبه، كما لا يوجد حب في روحه لقضية أو لمسألة أو لدين أو لإله، كان ذلك قتلاً مفتوحاً موجهاً ضد جميع القضايا والديانات. وفي سماع قصص الضحايا، هؤلاء الذين اتصلوا بالهاتف من الطائرات المخطوفة ليبلغوا ابناءهم أو ذويهم بما حصل لهم، أو الذين اتصلوا من مبنى التجارة الدولي، وذلك قبل أن يلتحموا مع الموت والرماد، تبرز قصص مؤلمة لوداع الأبناء لذويهم، أو الزوجات لأزواجهن، أو الآباء لأطفالهم وهم في دقائقهم الأخيرة. ومنذ ذلك اليوم المشؤوم، وسكان مدينة نيويورك بالتحديد، يعيشون عالماً ممزوجاً من البحث عن الضحايا بين أنقاض وبين مستشفيات لا حد لها ولا حصر. في كل هذا يبحث الناس ولا يجدون جواباً سوى الانتظار الحزين لبحث لن ينتهي بأيام أو بساعات. هذه قصة من المعاناة الإنسانية كما تواجهها الولاياتالمتحدة في هذه الأيام. لقد سيطر الخوف الممزوج بالحزن والغضب على الولاياتالمتحدة، فللمرة الأولى منذ حادثة بيرل هاربر الشهيرة التي قامت بها اليابان والتي أدخلت الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الثانية، نجد هذه المشاعر العارمة والمتدفقة. في كل مكان، في كل شارع، وفي كل مدينة رئيسية، وفي كل مكان يتجمع فيه الناس، هناك غضب ممزوج بعنفوان وسعي لاستعادة المبادرة التي بدت مفقودة ابان ساعات العملية الأولى. ولكن تداخل هذه الكارثة مع الشرق الأوسط ومشكلاته وعنفه وغضب سكانه وقضاياه هو الذي أدخل عاملاً جديداً في المعادلة، فالكارثة الجديدة أبطالها من العالم العربي ومن بعض مدارسه الأكثر تطرفاً والأكثر طيشاً وتدميراً للذات وللآخرين. في ضربة واحدة وفي ساعات قليلة أطاحت هذه المجموعات بكل ما قام به العرب من محاولات لتغيير النظرة العالمية لهم، ولتحسين صورتهم ولايصال صوتهم. في دقائق أطاحت هذه العملية بتعاطف أكثر المتعاطفين مع العالم العربي وقضاياه، بل أعادت هذه الكارثة القضية الفلسطينية إلى الوراء، مغطية على أخبارها ومقدمة لإسرائيل مزيداً من القدرة على التأثير وعلى ربط موقفها في الأراضي المحتلة بالموقف الأميركي من قضية الارهاب. لقد بدأت الولاياتالمتحدة تصحو من الصدمة، وهناك اليوم تداخل بين الحزن وبين الاستعداد للمواجهة وإعادة بناء ما دمر. الإرادة الأميركية لإعادة ترتيب البيت الأميركي والدخول في حرب مفتوحة هما الصوت الجديد الذي بدأ يبرز من بين الدمار، وكأن هذه العملية قد أحيت في الأميركيين مارداً اعتقدوا أنهم ودعوه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. بطريقة أو بأخرى أحيت هذه العملية في الأميركيين استعداداً للحرب وقوة جديدة بدت كامنة ومختفية قبل أيام وساعات. مواجهة جديدة يبدو أنها ستبدأ، وهي ستغير الكثير من العادات الأميركية في التعامل مع الانفتاح ومع المعلومات ومع التنقل، ولكنها تتجه لمواجهة مباشرة مع ما سعت الولاياتالمتحدة لتفادي المواجهة معه على مدى سنوات طويلة. والمؤسف أن هذه المواجهة لن تكون مع يابانيين أو المان، كما كان الأمر قبل أكثر من 55 عاماً، بل هذه المرة مع قطاعات من العالم العربي والإسلامي، وذلك بحكم ارتباط هذه العملية الضخمة بجماعات قادمة من الشرق، في هذا ستبدأ مواجهة ستكون أكبر من التوقعات وأعمق من الإطار الذي وقعت العملية الراهنة فيه، وذلك لطبيعة التأييد السياسي الذي تتمتع به النخبة السياسية الأميركية نتيجة العملية في الداخل وفي الخارج. في هذه المواجهة المقبلة ستكون أكبر الآثار في كل من أفغانستان والعراق، ولكن سيكون لها أكبر الأثر على حال التطرف على الصعيد الاقليمي والعالمي. وكما هو الأمر مع كل حرب، هناك الخطر من أن يقع اختلاط بين العرب والارهاب، أو بين الإسلام والارهاب، أو بين تيارات إسلامية تمارس العمل السلمي وجماعات تمارس الارهاب. هذا الخلط سيتطلب الكثير من التوضيح والكثير من الجهود من التيارات اياها ومن العالم العربي والإسلامي ومثقفيه وممثليه. ومن المتوقع أن يقع الخلط أيضاً بين عدالة القضية الفلسطينية وبين وسائل التفجير التي مارسها عدد من الفلسطينيين في إسرائيل. في هذا الخلط ستكون مسؤولية كل مسلم وكل عربي أن يوضح الفوارق ويوضع اختلاف المواقف بين العدالة وبين الحقائق. لقد ادخلت هذه العملية العالم في مرحلة جديدة، وستدخل قريباً الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي في مرحلة جديدة لم نستكشف كل أبعادها حتى الآن. الكثير سيقع في المرحلة المقبلة، ولكن الكثير من التفكير وربما النقد الذاتي وإعادة النظر والحكمة هو أمر مطلوب عربياً، كما هو مطلوب دولياً وأميركياً. * استاذ للعلوم السياسية في جامعة الكويت، حالياً مدير المكتب الإعلامي الكويتي في واشنطن.