لطالما أثارت العواصم والمدن الكبرى حفيظة الشعراء ودفعتهم الى التوجس والريبة والتزام الحذر. فهؤلاء القادمون بغالبيتهم من الريف والمنتمون الى جذور زراعية متصلة بالفطرة والغيب يجدون في المدينة ما يهدد أمانهم الداخلي وطفولتهم المستحكمة وقيمهم المرتبطة بأكثر من مثال. واذا كان الشعر من بعض وجوهه دفاعاً مستمراً عن ينابيع الحياة الأولى ومساقط البديهة البكر فإن الشعراء يجدون أنفسهم تبعاً لذلك في مواجهة ضارية مع المدن الكبرى التي تحولهم الى أرقام وتطحنهم تحت سنابك الفراغ والوحشة وقيم الاستهلاك. لم يكن من قبيل المصادفة تبعاً لذلك أن يغص ديوان الشعر العالمي والعربي بهجاء المدن والنقمة عليها والدعوة الى تدميرها أو الانسحاب الى ما وراء اسمنتها الأصم وجدرانها القاسية كما فعل شلي وكيتس ووردسورت وغولد سميث وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم كثيرون. غير أن ما حظيت به نيويورك من سخط الشعراء وهجائهم وشعورهم بالخوف والنقمة يفوق بأضعاف ما حظيت به مدن العالم الأخرى. فالقاهرة التي خصها حجازي بديوانه اللافت "مدينة بلا قلب" لا تقارن من حيث قساوتها وجشعها ووحشية قلبها الفولاذي بنيويورك، كما لا وجه للمقارنة بينها وبين بيروت أو بغداد أو دمشق أو أي واحدة من عواصم العالم الثالث. وإذا كان هناك أكثر من وجه للشبه بينها وبين باريس فإن هذه الأخيرة على رغم ما تحمله من بعد كوزموبوليتي ظاهر تظل مفتوحة على الدفء والتاريخ والجذور الضاربة في الأعماق، في حين تتأسس نيويورك فوق صفيح هائل من المشاعر المتخثرة والهندسة الحيادية المرعبة والجشع الذي لا تحده حدود. في تلك المدينة المسحوبة العصب لم يكن ثمة مكان للعواطف الفائضة أو الرحمة المجردة من النفع أو الترجيع الاستعادي لبهاء الماضي. كل شيء هنا يتحول الى وثن أو تمثال أو نصب للحياة التي تطل من جهة المستقبل. في العصور القديمة كان هناك أنبياء ورسل وقديسون يلعنون المدن المشابهة أو يبشرون بانهدامها من الداخل أو الخارج كما حدث لبابل وعمورة وسدوم، أو حتى لصور "المسكتة في قلب البحر" كما وصفها حزقيال في العهد القديم، غير أن خلو العصور الحديثة من الرسل والأنبياء ترك للشعراء والفنانين الرؤيويين مهمة الاستشراف والكشف والحدث بالمستقبل. ان جميع الذين بهرهم جمال نيويورك وصعقتهم عظمتها المستجدة وأبنيتها الاسطورية العالية ما لبثوا أن رأوا تحت تلك الغلالة الواهية من العظمة والسحر بذور التسوس والانحلال التي تقضم أمعاء المدينة وتنخرها من الداخل. فالانسان المضهد الذي يتم سحقه تحت قدمي الاسمنت والجنس والثراء الفاحش لن يلبث أن يربي في داخله نبتة الغضب والتمرد والحقد الذي يدفعه الى الانتقام وقلب الهيكل على من فيه، سواء كان الذي وقع عليه الاضطهاد فرداً أو مجموعة بشرية أو شعباً من الشعوب المستضعفة التي ارتفعت فوق عظامها المطحونة اهراءات المدينة ومراكز تجارتها بدم الشعوب. انها الصورة المرعبة التي قرأها غارسيا لوركا في عيني نيويورك الطافحتين بما يفيض عن حاجتهما من الجشع والأحلام. وفي مجموعته الشعرية الصادرة قبل أكثر من سبعين عاماً بعنوان "شاعر في نيويورك" يستعيد شاعر اسبانيا القتيل الصورة الانسانية الزاهية لوالت ويتمان في مقابل ما سماه ب"نيويورك العار والحلم المروع للشقائق الملطخة". وفي ما يبدو انه نبوءة الشاعر بما سيحدث للمدينة الجائرة بعد سبعة عقود من الزمن يرسم لوركا في شكل مذهل وتفصيلي صورة الدمار اللاحق بقوله: "الدم الذي يؤكسد الريح التجارية المستهترة بأثر قدم/ ويذيب الفراشات على زجاج النوافذ/ انه الدم الذي يجيء/ وسيجيء من الأسطحة والشرفات/ على الانسان أن يهرب الى الزوايا ويحبس نفسه في الغرف". لسنا بحاجة هنا الى عقد المقارنات بين تفاصيل المشهد الدموي الذي رسمه لوركا وبين ما حملته الفضائيات والصحف والوكالات من صور الدماء التي تغطي الأسطحة والشرفات وتؤكسد الريح التجارية الجاثمة كالكابوس على صدر العالم. ولم يكن غارسيا لوركا وحده هو الذي حدس بانهيار المدينة وتصدعها الزلزالي. فقد رسم أدونيس في "قبر من أجل نيويورك"، وبعد اربعة عقود من لوركا، صورة مشابهة عن احتشاد المدينة بالمفارقات وعن الهول الذي ينتظرها في ذروة الغطرسة والتضخم. لكن الأطرف من ذلك هو تطابق الصورة المخيفة التي تخيلها أدونيس للمدينة الآيلة الى التهدم مع المشهد الحقيقي الذي حدث قبل أيام معدودة بكل ملامحه وجزئياته: "لم أرك في منهاتن ورأيت كل شيء/ القمر قشرة تقذف من النوافذ/ والشمس برتقالة كهربائية/ وحين قفز من هارلم طريق أسود يتوكأ على أهدابه/ كان وراء الطريق قمر يتبعثر على مدى الاسفلت". لكن أدونيس لم يتوقف عند ذلك الحد من التوقُّع الحادس بل يذهب في الرؤيا الى تخومها الأخيرة مستعيراً من العهد القديم صورة النذير المتوعد "تفتتي يا تماثيل الحرية/ أيتها المسامير المغروسة في الصدور بحكمة تقلد حكمة الورد/ الرياح تهب ثانية من الشرق/ تقتلع الخيام وناطحات السحاب". انهم الشعراء يقرأون مرة أخرى طالع الأرض ويكشفون عن المصائر والنهايات بقوة البصيرة وسداد الحدس وبلاغة الاشراف.